السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

من ذاكرة المنجرة : المهدي المنجرة عاشق الشعر وأم كلثوم (ح : 4)

من ذاكرة المنجرة : المهدي المنجرة عاشق الشعر وأم كلثوم (ح : 4)

برحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة (13 مارس 1933 - 13 يونيو 2014 ) رحل عنا مفكر عربي معاصر من طينة نادرة. رجل أجمع الكثيرون على أنه وطني صادق ونزيه. رجل مواقف ومبادئ، مثقف شجاع. لا يركن إلى المهادنة وتنميق الخطاب. علامة من علامات الثقافة والفكر في العالم. خبير متخصص في علم المستقبليات(وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة). اشتهر المرحوم المهدي المنجرة بجمعه وربطه بين العلم والثقافة، وإعطائهما المكانة التي يفترض أن يساهما من خلالهما في تطوير أسلوب العيش اليومي، وإبداع مشاريع لتنمية الشعوب. كما تميز بأن كانت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين سنة 1980 و1990.

"أنفاس بريس" تفتح صفحات من حياة المرحوم المهدي المنجرة، وتروي مقتطفات من سيرته، حسب أجوبته على أسئلة خاصة بجلسات حوار أجراه معه الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي لفائدة يومية "الاتحاد الاشتراكي"، وقد تمَّ تجميع هذا الحوار في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1997 بعنوان "المهدي المنجرة (مَسَاُر فِكـْر)".

الحلقة الرابعة  :

كوَّن المهدي المنجرة "أول تلميذ مغربي في أمريكا" انطباعا عن النظام التربوي الأمريكي خلال دراسته في ثانوية باتني وجامعة "كورنيل"، إذ لمس أن الفرق واضح بين النظام الفرنسي الذي يعطي التوبيخات والنظام التربوي الأمريكي المفتوح، الذي يشجع على المبادرة ويسند الاجتهاد، ويدعم تنويع المعرفة. كان الطالب المهدي إلى جانب متابعته لدروس الكمياء والبيولوجيا ولدروس العلوم الاجتماعية والسياسية، مهتم بدروس الأدب المقارن، خاصة الأدب الأمريكي والفرنسي في القرن التاسع عشر، وقد راجع أحد مدرسيه (الأستاذ نابوكوف) عددا من أبحاث المهدي في اتجاه الأدب المقارن، وقد بقي راسخا في ذهنه تقييم الأستاذ "نابوكوف" لعرض قدمه المهدي حول (الإخوة كارامازوف)، وتناول العرض البحث عن الواقعية في رواية دوستويفسكي، ومن القضايا الأدبية والفكرية التي أنجز حولها عرضين في 18 يناير 1952 : (أفكار رابلي) و (رونسار – صورة الرجل من خلال أعماله)، وبتاريخ 20 يناير 1953 أنجز عرض (الأنا والهو وديردو)، إضافة إلى العمل المشترك لبعض أعمال أندري جيد بتاريخ 6 نونبر 1953، وعروض أخرى باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت عروض وبحوث المهدي المتنوعة الاتجاهات علامة بارزة، على أن المنحى الذي يقوم عليه النظام التربوي بأمريكا يعزز ضرورة التكوين المتكامل، ذلك أن السرعة التي كانت تتطور بها المعرفة في ذلك العصر لم تكن تسمح بالتخصص الضيق، وكانت فكرة تتردد لدى عدد من المفكرين مفادها أن الشاعر إذا كان لا يفهم في الرياضيات فقد أضاع حلقات عديدة من فضاء تفكيره، ونفس الشيء بالنسبة للكيميائي و للعالم الاجتماعي. كان ارتباط المهدي بالعلوم والأدب موازيا للارتباط بالجماليات والفنون منذ مدرسة "باتني"، وكانت هذه المؤسسة تقع بإحدى المناطق الجبلية بولاية فيرمونت vermont  فكانت الثلوج تسمح بإضفاء بعد جمالي على المشهد العام للمنطقة، وضمن هذا المشهد كان على المهدي وزملائه في الدراسة نسج علاقات خاصة بالطبيعة، من خلال التأمل في مكوناتها وفضاءاتها المختلفة. مكَّنت مدرسة باتني المهدي أن يدرك أهمية الاندماج في الطبيعة، إذ كان قد اقتنع أن أي شخص لا يمكنه أن يكون بالفعل شفافا وعلى خلق نبيل إذا لم يندمج في الطبيعة وينصت إلى نبضها، كما سمحت "باتني" له بالاستدفاء بضوء الشعر وظلاله، فقد كان يحضر بمعية زملائه من حين لآخر قراءات شعرية للشاعر الأمريكي "روبير فروست" 1874 / 1963، ويستمتعون بشعبية ورهافة أحاسيس هذه القراءات الشعرية مرفوقة بعزف البيان. تعود علاقة المهدي المنجرة بالشعر إلى سن العاشرة حين وجد نفسه في سنة 1943 يكتب خواطر بالفرنسية عن جزء من معيشه اليومي، ومنذ ذلك الحين ظل على ارتباط عميق بمجال الشعر وفتنته، وسيتوصل بعدها برسالة سنة 1997 من أحد الباحثين الفرنسيين يسأله عن (ما الذي ننتظره من الشعر؟)، وكان هذا الباحث يود أن يُطلعه المهدي المنجرة على جملة من المعطيات الخاصة بعلاقته بالشعر، وعلى شذرات شعرية، يمكن أن يكون قد سجلها في (هذا العمر أو ذاك)، كان المهدي حين يستعيد صورة "فروست" يقرأ القصيدة ويستحضر ذلك النور الذي كان يغمر وجهه، ويضيف إلى جمال القصيدة بهاء المشهد العام، ولقد كان يحس يومها بانجذاب خاص وبسمو روحي وهو نفس السمو الذي يستشعره كلما أنصت إلى رائعة من الروائع لمنير بشير أو لأم كلثوم مثلا. أيقن المهدي المنجرة أن حالة هذا الانجذاب وهذا السمو تستعصي على الدراسة والتحليل، إذ تحدى أي عالم أن يصف الطريقة الواقعية التي يحدث بها هذا التلقي، حيث قال (من غير الممكن مطلقا أن نحصر الذات الإنسانة ونفهم كل حركاتها كما

علمتنا الكيمياء ذلك).

(يتبع)