لا شك أن النظام الليبرالي الرأسمالي الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية يرتكز على السيطرة الاقتصادية والهيمنة على أموال الأفراد والجماعات والمؤسسات وحتى مصادرة حقوق الدول من خلال فرض العقوبات. وتطمح منظمة شنغاي إلى رسم خريطة طريق جديدة لعالم متعدد الأقطاب، فهل تصبو منظمة سيكا أيضا إلى نفس الهدف؟ تعتبر سيكا منتدى فعالا للديبلوماسية متعددة الأطراف، ويطمح مؤسسوها بقيادة روسيا أن يطوروها من مؤتمر إلى منظمة دولية. وإلى حين تحقق ذلك فإن هذا المؤتمر يؤكد أن روسيا ليست معزولة، بل على عكس ذلك، تأكد أن دولا كثيرة تسعى وترغب في التعاون مع روسيا، تماشيا مع نظرتها الجديدة إلى العالم بمنظار جديد يفضل التعامل بعملاتها المحلية و ليس بالدولار كما هو مفروض منذ زمن طويل. وإذا نجحت تلك الدول في كسر الدولار واستعمال عملاتها لتعزيز التعاون الاقتصادي. وإذا نجحت روسيا في مهمتها في أكرانيا، فستكسر الأحادية القطبية وسنلحظ تغييرات بنيوية في النظام الدولي. هذا النظام الذي أصبح يتلاشى بسبب الخلافات المصلحية بين أصحاب قراره. واللافت أن موسكو وبفضل سياستها الناعمة المدروسة، يمكن لها أن تستفيد من الخلاف القائم الآن بين الأوربيين فيما بينهم، و من تعاطف مجموعة من دول إفريقيا و الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية معها. هذه السياسة الناعمة ساهمت في تزايد قوة روسيا الصاعدة التي لا تستسلم للإملائات الغربية والإجرائات العقابية. ورغم أن هذه السياسة الروسية تبدو ناجحة إلى حد كبير، إلا أن الأوربيين يراهنون على فشلها و استسلامها. فما هي هذه الرهانات؟ هل هو موت بوتين ام ثورة الروس عليه؟ ما نلاحظه حتى الآن هو ثبات فلاديمير بوتين في منصبه، بل وازدياد شعبيته في العالم كله. وفي المقابل نشهد تنحي رؤوس ساسة أوربيين تباعا وأخرى سوف يحل قطافها بعد حين. ففي بريطانيا المريضة جدا اقتصاديا، ستلحق ليزا تراس سابقها بوريس جونسون إلى سلة غير المرغوبين فيهم و الفاشلين. وفي ألمانيا الخائفة من الشتاء، لن يستقر منصب رئيس وزرائها أولاف شولز الذي يتخبط بين ثنائية الغاز والعار، غاز روسيا الرخيص الثمن، وعار سمعة الألمان الغالي الثمن. وهو مهدد باحتجاجات مواطنيه الرافضة لسياسته الفاشلة، ولتبعيته الصارخة لأمريكا. فأين هي قوة ماكنة ألمانيا التي طالما تغنوا بنظامها وانتظامها. يبدو أنها تخلخلت منذ أن توقف سيلان صنبور نوردستريم. الواقع أن الأزمة الأكرانية قد أرخت الستار عن العديد من الأسرار و كشفت عن عورات ثلة من دول عاشت وتعيش كالتينيا ( طفيلية متعددة الرؤوس) على جدار أمعاء دول أخرى. (هذا موضوع سنتطرق إليه بتفصيل في مقال لاحق). ولنطرح سؤالا جوهريا: ما هي آفاق الصراع بين الشرق والغرب الآن؟ لا شك أن تحدي روسيا و الصين و قبلهم إيران للولايات المتحدة الأمريكية أعطى تحفيزا لدول أخرى لكي تنتهج سياسة أكثر سيادية واستقلالا وتحررية، و خلع عنها الخوف من أمريكا. لا سيما فرض حزب الله في لبنان على إسرائيل قواعد توازن جديدة وإلزامها بترسيم الحدود البحرية و فرض معادلة الاستغلال للغاز والطاقة بالاستغلال والطامع زيادة أظلم. فعندما دخل حزب الله على خط الخلاف مع إسرائيل في ترسيم الحدود كان له الفضل -باعتراف الإعلام الإسرائيلي - في إطلاق ديناميات جديدة في التفاوض و فرض معادلات و قواعد اشتباك جديدة كان لها السبق في إعادة التوازن إلى عملية التفاوض المختلة لصالح دولة لبنان، كل ذلك بفضل رسالة المسيرات إلى حقل كاريتش بعد ان تجاهل الأمريكي الحق اللبناني ومارس معه سياسة الاستخفاف واللامبالات لمدة طويلة جدا. ودول الخليج من خلال منظمة أوبك بلاص صفعت أمريكا على الخذين. ويكفيها عزا هذا الموقف ولو لحين. فهذه الدول ما كانت لتنظر لمصالحها وتصطف إلى جانب روسيا في اتخاذ قرار تخفيض استخراج النفط ضدا على رغبة أمريكا لو لم تستشعر أن العالم فعلا أصبح متعدد الأقطاب ، وأن الويلات الأمريكية على سياساتها واقتصادها قد بان فحشها، حيث أن الهيمنة الأمريكية لم تعد حاسمة في معظم القضايا. ودول أفريقية مثل مالي و بركينا فاصو و غيرها قلبت الطاولة على فرنسا بعد أن عمرت فيها ما لم يعمر فيها سكانها الأصليون. إذن نلحظ تغيرا في سياسات العديد من الدول من أجل فرض توازن قوى جديد في العالم. و دول آسيا تحديدا بتحالفاتها المتجددة عبر شنغهاي و سيكا يمكن لها أن تلعب دورا و تحديا لنظيراتها الأوربية التي طالما أخلت بهذا التوازن وزعزعت نظام العلاقات الدولية . فبالرغم من أن النظام الأوربي متقدم عموما على الدول الآسيوية إلا أنه في حاجة إلى نفس هذه الموارد المادية و البشرية الآسيوية بل و في حاجة ماسة أيضا إلى تصدير جل موارده و منتجاته إلى هذه الدول التي تضم معظم سكان البسيطة. لا جرم أن طبيعة المجتمع العالمي تتسم بالترابط و التناسق، فهي تزدهر بالتواصل وتندحر بالقطيعة، فكل الدول - القوية و الضعيفة- في حاجة إلى بعضها البعض، فالعالم بحاجة إلى قمح أكرانيا كما هو في حاجة إلى غاز روسيا و فسفاط المغرب و نفط السعودية. و هو في حاجة إلى الخيرات كلها التي تمنحنا إياها أرض الله من أجل تفادي المجاعات و الأزمات الطاقية والغذائية. ذلك العالم المصنف بالغربي لا يمكنه الاستغناء عن خدمات هذا العالم الشرقي، و هو مجبور قطعا على التخلي عن نظرته الاستعلائية التي أخضعت الدول الفقيرة في زمن ما واستعمرتها قهرا وتحكمت في خيراتها ظلما واستغلتها استغلالا بشعا، واليوم وبعد أن استنزف باطن أراضي تلك الدول الفقيرة، حولت البوصلة نحو مخزون الدول القوية. فبطن المجمع الغربي لم تشبع ولم تقنع و يبدو أنها في هذه المرة ستنفجر. فالمطموع فيه الآن دول تتسم بالشراسة والفراسة، لأن ترسانتها العسكرية التقليدية و النووية باستطاعتها أن تفجر البطون الطماعة جميعها مجتمعة.
منبر أنفاس