السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

فن "لكحريحة الرودانية".. طقوس احتفالية بصوت المؤنث

فن "لكحريحة الرودانية".. طقوس احتفالية بصوت المؤنث

ثمة سؤال حيوي يطرح نفسه باستمرار في سياق تجديد الأسئلة حول الهوية الحضارية والذاكرة الثقافية الوطنية المغربية، ذاكرة لها من الزخم والتنوع كقاعدة رمزية تتشكل بها ومن خلالها تقاسيم الوجه الحضاري للمغرب الثقافي القائم والمحتمل...

 

المصطفى بن سلطانة

 

«لكَريحة النسائية» منجز فني ومكون هام من الصرح الفني المغربي مندس في نسيج إبداعي ينسجم عبره النمط القولي الشعري وموسيقى تعتمد أساسا على الآلات الإيقاعية. هذا النسيج الفرجوي الذي نعتبره إحدى القواعد الصلبة والمنطلقات المفصلية التي شكلت العرض الفني الروداني، حيث كانت «لكَريحة النسائية» مجال عبور تواصلي فني مكن من تمرير تمثلات النساء وأخصب رؤيا للعالم. فالمتون جاءت في شكل نسيج نظمي يتداخل به ومن خلاله المقدس الديني والأسطوري وكذا الوجداني والتاريخي و غيرها من الظلال الرمزية التي واكبت حياة ووجدان العشيرة الرودانية. إن فن «لكَريحة النسائية» يشكل إحدى اللبنات الأساسية في بناء صرح المخيال الجمعي الجمالي الواسم لسلوكات الفنية حيث اجترح هذا الفن العريق مكانة أساسية في سياق العرض الفني الشعبي في حاضرة تارودانت، كما واكب الطقوس الاحتفالية الدينية والاجتماعية وغيرها من المناسبات.

فن احتضنته عائلات رودانية منذ حقب وتوارثته في سياق حيوية ثقافية وفنية واحتضنت رائداته، فكانت «لكَريحة النسائية» قاعدة رمزية وإبداعية لتلاق ثقافي وحضاري ضارب بجذوره في أعماق الكينونة السوسية بصيغة المؤنث، نافحت من خلاله المرأة الرودانية عامة عبر مجموعات فنية تجشمت وعثاء هذا السفر الإبداعي في بنية اجتماعية وثقافية وسمتها عبر العصور الغلبة الذكورية.. فكان قدر هذا المنجز الفني أن استمر بفضل إصرار الشيخات الممارسات واحتضان بعض العائلات الرودانية العريقة. لكن شبح الانقراض والطمس بدأ يطال هذا المنجز الغنائي، سواء برحيل رائداته عبر أجيال نذكر منهم: الجيل الأول (فطومة العربي، طامو عمارة الملقبة بِدَادَا حِيَة). والجيل الثاني (فاطمة المختار، رقية المختار، فطومة موحى، جوبا موحى، فاطمة القايد). والجيل الثالث (فاطمة حجوب المعروفة ب «امَّادَّا»، اللالة فطوم). ينضاف إلى رحيل هذه الكوكبة من الفنانات تراجع الاهتمام بهذا الفن وبِمُمَارِسَاتِه من جهة وطغيان أنماط فنية مجاورة كالهواري والشعبي من جهة أخرى.

في هذا السياق المقارب، لفن «لكَريحة النسائية»، جاءت محاولة رائدة حركها ولع عميق بهذا الفن العريق، واستشعار لمصير هذا الفن النسائي المغربي الذي أصبح في عداد الأنماط الفنية الآيلة إلى الانقراض، سواء على مستوى تقاسيم هويته الفنية التي تعرضت للطمس من طرف أنماط مجاورة كالهواري وغيره من الأنماط التي استفادت من اهتمام إعلامي غير متكافىء، بالإضافة إلى أن غالبية الأعمال البحثية والتأليفية، أججت تثمين أنماط غنائية كالهواري و«لكَريحة الرجالية» والملحون وفن الروايس، على حساب منجز فني عريق لا يسع للمقترب منه إلا أن يلمس عمقه الجمالي وتماسك بنائه الإبداعي أسلوبا وأغراضا وعرضا.

جاءت مساهمة ذ. هند الحسايني لإحياء فن «لكَريحة النسائية» الأصيلة، عبر آلية بحثية استثنائية. وما أسعفها، رغم صعوبة هذه المغامرة، هو إصرارها اللافت على إحياء هذا التراث، وانتماؤها إلى عائلة احتضنت هذا الفن عبر أجيال.. فلم تكن محاولة بأسلوب البحث التقليدية حول متون ومنجز جاهز في شكله الأصلي، لأن الشيخات الممارسات يمارسن في المناسبات الاجتماعية بمزيج من «لكَريحة» جزئيا، وأغاني الهواري والشعبي. وراهنت الباحثة على إعادة إحياء هذا التراث بتشكيل مجموعة غنائية انتقت عناصرها من فنانات ممارسات، غالبيتهن من الفنانات المخضرمات عبر تأسيس جمعية «بحاير الداليا»، حيث أخذ العمل مساره الحقيقي في عملية دقيقة ومركبة، توخت التنقيب عن المتون وإحياء الإيقاعات كاستعادة استعمال الرق (الطريير) والنقر بالكؤوس على الصينية، كآلات إيقاعية أصلية في البناء الموسيقي لفن لكَريحة النسائية. وكذا التداريب المنتظمة في حصص أسبوعية، بعمل جماعي ذؤوب وسمه الوعي بأهمية إحياء هذا التراث العريق. كما أصرت الباحثة على العمل مع أعضاء الفرقة بإستراتيجية محكمة تروم إحياء الأنماط الغنائية متونا وإيقاعا وعرضا، وتنقيتها من الشوائب الدخيلة التي اختلطت بها كالأنماط الموازية كالشعبي والهواري.

خلُصت عبر البحث والتنقيب والنبش في الذاكرة الرودانية، إلى تحديد ملامح هذا التراث الغنائي العريق عبر تحيين الأشرطة القديمة المسجلة في المناسبات العائلية، وكذا ترميم المتون والإيقاعات بفضل مساعدة بعض أفراد أسرتها من الرعيل الأول كالجدة الضاوية بن ضالي والأم لطيفة الخياطي والمرحومة فاطمة حجوب الملقبة ب «امَّادَّا» إحدى الرائدات التي تركت رصيدا معتبرا من ذاكرة الفن الغنائي النسائي الروداني ومن ضمنه فن «لكَريحة».

وحرصا منها على إحياء هذه الفرجة الغنائية في شموليتها وكل تفاصيلها، اعتنت الأستاذة هند الحسايني باستعادة تصاميم اللباس التقليدي الروداني المكون من قفطان بلدي، غطاء الرأس المسمى قطيب الشوكة، الشد المطرز، المضمة، الطلاعة من صقلي (الشربيل) ومْدْجَة الجوهر كأكسوسوار. فتوجت هذه المجهودات بمشاركتها المتميزة في فعاليات المهرجان الدولي للحضرة النسائية وموسيقى الحال بالصويرة غشت 2013، عبر مشاركة تركت صدى مائزا ترجمه الاهتمام الجماهيري والإعلامي المسموع والمكتوب والمرئي الذي احتفى بهذه التجربة التي نجحت في إحياء الفن الغنائي النسائي الروداني.

واللافت في هذه التجربة الفريدة، أنها تبلورت عبر مسارين متوازيين في انسجام وتكامل بين البحث الميداني في علاقته بإعادة الترميم وبعث العرض الفني الأصيل عمليا من جهة، وبحث ضمنته الباحثة في كتاب يعد للطبع تحت عنوان «فن لكَريحة النسائية وسؤال الإحياء» عبر توثيق وجرد المتون والإيقاعات حسب اللون الغنائي، معززا بإضاءات حول خصائص كل لون، وعلاقته بمناسبات وأزمنة ممارسته وتقديمه، وخاصة ما يواكب طقوس العرس الروداني التقليدي وغيره من المناسبات الإجتماعية و الدينية. وحاولت الباحثة استجلاء الأغراض من أحداث تاريخية وسياسية وعادات وتقاليد ارتبط بها فن العيش لحاضرة تارودانت، التي انعكست بكل زخمها الحضاري والثقافي بين ثنايا «لكَريحة النسائية» الرودانية. فجاءت المتون موزاييك من المقدس من أذكار وابتهالات، وكذا ذِكر كثير من الأعلام والمزارات. وتتسم «لكَريحة النسائية» بتعدد الأغراض والسمات في المتن الواحد. تعدد يعيد إنتاج الغنى الوجداني الواسم للشخصية الرودانية وتجاويف ذاكرتها الرمزية، التي أسعفت قريحة الناظمات عبر سفر المتون المتوارثة عبر الأجيال في اجتراح بلاغة مائزة لها من الخصوصية النظمية والبناء الشعري ما ينم عن إحساس عميق بالمعيش ووعي راق بعوالم ووجدان الإنسان الروداني. ففن الغناء النسائي الروداني يتشكل حسب الباحثة من خمس أنماط أساسية هي: لكَريحة، أحيدوس، شد الميزان، حوران والحضرة.