الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" نموذجا لتقديم قصة في درس الحب والتسامح

عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" نموذجا لتقديم قصة في درس الحب والتسامح عبد الرحيم شرّاد
جاء في عيطة اَلْحَدَّاوِيَاتْ قول: "أَجْذَبْ أَجْذَبْ. يَا الْبَرْﯕِي يَا عْرِيسْ اَلْخَيْلْ. أَجْذَبْ أَجْذَبْ. شْحَالْ هَذَا مَا جْذَبْتِي شَايْ"، حيث سيتحدث في هذا المنشور الباحث عبد الرحيم شرّاد عن عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" الشهيرة. مستحضرا مسار طفولته في التعاطي مع لحظات الفرح والفرجة، حيث كانت المجموعات الغنائية الشعبية (رْبَاعَةْ الشْيَاخْ) لا تفتتح عروضها الفنية بالأعراس في درب السلطان بالدار البيضاء إلا بعيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ". وكان هذا الطقس الافتتاحي يسري على جميع الرواد الحاملين لمشعل فن العيطة.
في هذا السياق أوضح الأستاذ عبد الرحيم شراد بأن عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" تخفي بين كلماتها قصة حب جميلة، جمعت بين شاب من مدينة آسفي و شابة من مدينة الدار البيضاء .
القصة بدأت بخلاف بسيط بين الحبيبين، لقد كان الشاب مدعوا إلى إحدى الحفلات الخاصة، لكنه لم يخبر حبيبته بذلك ولم يأخذها معه، و حين علمت بذهابه إلى الحفلة بدونها حز هذا في نفسها، خصوصا أنها هي بدورها كانت مدعوة، لكنها فضلت عدم الذهاب ظنا منها أن حبيبها لم يتوصل بالدعوة ولن يذهب للحفلة.
من خلال قصة عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" نستخلص أن الفتاة اَلْحَدَّاوِيَةْ (أَوْلَادْ حَدُّو) عندما ستلتقي بحبيبها، ستعاتبه، و كأنها تقول له: "لماذا لم تخبرني بأنك ذاهب إلى الحفل؟ ولماذا لم تأخذني معك؟ هل تستعير مني؟ أم أنك تراني دون المقام؟ ليكن في علمك أنني حَدَّاوِيَةْ، وأن كل الْحَدَّاوِيَاتْ مَكْمُولَاتْ الجمال ويُهَيِّجْنَ قلوب من ينظر إليهن". حسب تفسير شرّاد "اَلْحَدَّاوِيَاتْ كَامْلَاتْ (من الكمال)، اَلْحَدَّاوِيَاتْ كَامْلَاتْ إِيْهَيْجُو. كُونْ عْلَمْتِينِي يَا سِيدِي. الرَّقَاصْ اَلِّلي جَاكْ جَانِي. كُونْ عْلَمْتِينِي يَا سِيدِي مَا يْكُونْ بَاسْ". بمعنى أن ما كان هذا الخلاف سيكون بيننا لو أخبرتني، فالمرسول الذي دعاك للحفل قد وجه إلي أنا كذلك الدعوة.
حيث تضيف الحبيبة قائلة: "سِيرْ اللهْ يَبْلِيكْ مَا بْلَانِي و تْجَرَّبْ حَالِي. لِيَّامْ تْلَاقِينَا يَا سِيدِي و إِلَا مَا جَابَكْ الرْبَاطْ (أي الحب الذي يجمع بيننا)، يْجِيبَكْ رَبِّي". بمعنى أن القدر كفيل بأن يجمع بيننا.
يستطرد الأستاذ عبد الرحيم شراد موضحا أنه بعد كل هذا العتاب تحاول الفتاة الْحَدَّاوِيَةْ جس نبضه، إن كان نظره قد ذهب إلى فتاة أخرى غيرها بقولها: "مُولْ اَلزِّينْ/ أَوِينْ أَوِينْ. عَيْنُو فِينْ/ أَوِينْ أَوِينْ".
وحينما أحس حبيبها المسفيوي أن نبرة العتاب أخذت تتصاعد، حاول تلطيف طبيعة الحوار، فخاطبها بكل لين ورقة بقوله: "أَنْتِ اَلْحَاكْمَةْ وَأَنَا لِيكْ اَلتَّاجْ. أَنْتِ اَلْحَاجَّةْ وَأَنَا سِيدْ اَلْحَاجْ. أَنْتِ لَبْحَرْ وَأَنَا لِيكْ أَمْوَاجْ" .
وبدل أن تعاتبه سيبدأ هو في معاتبتها حين ذكرها بدعوة زيارته لأسفي بقوله: "عْلِيكَ بِالزْيَارَةْ وُ مَا زَرْتِي شَايْ". بمعنى أنه قد سبق له وأن وجه إليها الدعوة كي تزوره في مدينة آسفي، لكنها لم تلبي دعوته، وفي هذا المقطع من الغناء سيذكر لها أسماء بعض صلحاء آسفي (الشُّرْفَاء لَغْنِيمِيِّينْ/ سِيدِي أَحْمَدْ بَنْ عَبَّادْ / سِيدِي كَانُونْ/ مُولْ اَلْبَرْﯕِي ..رْجَالْ سْحَيْمْ..)، خلاصة القول أنه استنجد بـ "رْجَالْ لَبْلَادْ". وكان دائما يكرر على مسمعها الدعوة لزيارة أسفي: "عْلِيكْ بِالزْيَارَةْ وُ مَا زَرْتِي شَايْ".
ومن خلال تفكيك نص العيطة يوضح عبد الرحيم شراد بأن نبرة اللوم والعتاب المتبادل بين الحبيبين لن تستمر طويلا، لأنه سيكشف لها أنه سيتزوجها حين قال: "التْهَامِي يَا سِيدِي أَحْمَدْ دَارْ الضْمَانَةْ"، على اعتبار أن هذه هي الإشارة إلى أنه سيتزوجها...ألا نردد نحن المغاربة دائما في الأعراس وحفلات الزفاف العبارة التالية: "شَيْلَّاهْ آ دَارْ الضْمَانَةْ. قُبَّةْ عَالْيَةْ وُ عْرُوسَةْ مَزْيَانَةْ"؟ .
إن الفتاة الْحَدَّاوِيَةْ بعد سماعها لهذا الخبر المفرح (نية الزواج) ستحاول الإعتذار عن الكلام الذي سبق وأن قالته: "وَاشْ دَرْتْ أَنَا. أَنَا مَالِي (ماذا فعلت) تْكاَيْسْ عْلِيَّا يَا لَهْوِى" بمعنى أن ما حملها على قول كل هذا الكلام، هو أنها لم تقوى على فراقه، خصوصا حين عبرت بقولها: "فْرَاقْ حْبِيبِي جَانِي صْعِيبْ". ثم إن سفرها إلى آسفي لم يكن أمرا عسيرا: "أَيْلِي يَا يْلِي. مَالْ طْرِيقْهُمْ جَاتْنِي بْعِيدَةْ (تقصد طريق رجال سحيم)، وَاهْيَا وَاهْيِا. سِيرْ مَا بِيدِي شَايْ عْلِيكْ". وكأنها لم تجد له عذرا لأنه لم يسأل عنها طول هذه المدة، وأردفت موضحة لحبيبها بالقول: "الله يَا سِيدِي. مَا صْبَرْتِي. مَا كَابَرْتِي".
هكذا بعد أن ارتاح البال والخاطر تنتهي عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" بدعوة الفتاة للرقص طربا وفرحا. والجميل في هذا المقطع هو أن الشاب يخاطب حبيبته ويدعوها للرقص ويشبهها بالفرس وفي هذا يتم توظيف بُعْدٌ دلالي عميق يستمده من جذور منطقة آسفي، حيث المعروف تاريخيا عن الولي الصالح المجاهد الذي حارب البرتغال الشيخ سيدي عبد الرحمان بن رحال الدليمي المشهور عند أهل آسفي بـ "مُولْ اَلْبَرْﯕِي" نسبة إلى لون فرسه الجميلة التي كان يسميها "الشْهَيْبَةْ" والتي من شدة حبه لها دفنها في المكان الذي ماتت فيه. لذلك سنجد الشاب المسفيوي يقول لحبيبته الحَدَّاوِيَةْ: "أَجْذَبْ أَجْذَبْ يَا اَلْبَرْﯕِي يَا عْرِيسْ اَلْخَيْلْ (قال الرسول (ص) يُمْنُ الخيل في شُقْرِها)، أَجْذَبْ أَجْذَبْ. شْحَالْ هَذَا مَا جْذَبْتِي شَايْ. أَجْذَبْ أَجْذَبْ يَا اَلصَّرْدِي يَا بُو فَرْدِي" : (اَلصَّرْدِي "لَعْيُونْ صْرَادَةْ": أي يا جميلة العينين، لشدة البياض والسواد، وهذه العبارة تتكرر كثيرا في قصائد الملحون. أما معنى "بُو فَرْدِي" فهي إشارة إلى أنها كانت تلبس سوارا واحدا من الذهب).
وتسجل عيطة "اَلْحَدَّاوِيَاتْ" في خاتمة القصة الموقف النبيل للحبيب العبدي، بتوجيه الشكر إليه، من طرف المنشدين بحكم أنه بطل القصة، وعلى حسن صنيعه مع حبيبته، حيث لم يتخلى عنها بقولهم: "مَا يْتْسَالُوكْ شَايْ آ لَمْعَلَّم". ثم يطلبون منه أن يحضن حبيبته ويذهبا معا. "عْلَى رَبِّي حُزْهَا وُ دِّيهَا". إن كل الذي ضاع من العمر يمكن أن يُعَوَّض ـ حسب قصة عيطة اَلْحَدَّاوِيَاتْ ـ انطلاقا من قول: "اَلِّلي مْشَى ايْوَلِّي".