الثلاثاء 19 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: حديث صاخب في مقهى النجمة..

عبد الصمد الشنتوف: حديث صاخب في مقهى النجمة.. عبد الصمد الشنتوف
على رصيف مرفأ ضاج بالحركة، يقف موح فوق سلالم "سكاليرا" مطلا على قوارب خشبية بمجاديف طويلة، تحمل على متنها ركابا ومصطافين ليعبروا إلى الضفة الأخرى من واد لوكوس. لاحت على محياه ابتسامة تحمل بين ثناياها مرح لذيذ، يمتزج فيه حنين إلى ماض جميل وحسرة على فقد ثمين، وقد تسللت إلى ذاكرته أحداث بعيدة عاشها مع الإسبان خلال زمن ذهبي على حد وصفه.
كان موح يشتغل بحارا في مركب صيد "لوليتا" بميناء العرائش. إذ لبث يشتغل لسنين طويلة عند صاحبه "ميغيل" أيام الاستعمار وكله همة ونشاط. لكن سرعان ما وهنت عزيمته وخبت جذوة حماسه حين أقدم مشغله الإسباني على بيع مركبه مع مطلع الاستقلال، والعودة إلى وطنه الأم. 
أصيب موح بإحباط شديد. ارتسم الذبول على محياه وأضحى جسده ضامرا. صار معظم الوقت ساهما، واختار أن يصبح عاطلا عن العمل، لأنه لا يطيق الاشتغال تحت إمرة إخوانه المغاربة كما يدعي!
أصبح يستمرئ الكسل ويستلذ الجلوس في المقاهي لساعات طويلة يدخن عشبة "الكيف"، وكان يحلو له دوما أن يلوذ بمقهى "النجمة" الشعبي المطل على ساحة إسبانيا بوسط المدينة.
لم يعد يستطيب الاستيقاظ في الصباح الباكر، ويستنكف عن تحمل أي مسؤولية أو تكليف في حياته.
 يقضي موح سحابة أيامه الرتيبة داخل مقهى لا يبرحه إلا نادرا، معربا عن أسفه على إهدار فرص ثمينة للهجرة إلى أوروبا على غرار بعض زملائه الذين وسع الله أرزاقهم. ذلك أن الرجل يعيش أسير ماضيه الجميل مع الإسبان، ويمضي طيلة وقته (يقرقب الناب) ويطحن الهواء بكلام نرجسي بعيد عن الواقع عن سالف زمنه. يتحدث بفخر مفرط إلى حد الزهو عن مغامراته مع الأجانب في حانات المدينة. 
أمسى يعيش حياة يطبعها التقاعس ويسودها الخمول والاتكالية. يتقاسم بيتا متواضعا لا يبعد كثيرا عن المقهى مع أمه العجوز، ولا رغبة لديه في البحث عن العمل. تعتقد والدته أن إبنها المسكين قد أصابته سهام العين و"التابعة" منذ أن انقطع عن العمل مع الإسبان في المرسى، حتى إن جميع أبواب ومسالك الشغل سدت في وجهه، ولا تملك غير العطف والحنو عليه، ومده ببعض الدريهمات أحيانا، لكن الحقيقة مغايرة لذلك تماما.
ذات مساء دافئ، انتحى موح زاوية معتمة في عمق مقهى النجمة غير بعيد عن الكونتوار، وكأنه يقصد العزلة والانكفاء على نفسه. رمى ببصره تجاه ساحة إسبانيا عبر نافذة عريضة ومستطيلة، ليرصد حركات الغادين والرائحين وسط الميدان الشهير.
بعد فترة من الزمن، انضم إليه كهل آخر تعلو وجهه تجاعيد قاسية يدعى عبسليمو، بجلباب مهلهل غامق ليتقاسم معه طاولته. التفت موح إلى يساره وأدخل يده في جيبه، ليخرج غليونا طويلا من تحت جلبابه مصحوبا بصرة تحوي مسحوق عشب أخضر، دس فيها رأس غليونه المعقوف، ما لبث أن أوقده بعود ثقاب أصفر. بعدها، سحب أنفاسا قوية متتالية، ثم نفث دخانا كثيفا في الهواء بمتعة وانتشاء فائقين.
أطرق صامتا برهة، وانشغل بمداعبة كأس شايه المنعنع، قبل أن يرتشفه رشفة خفيفة.
وعندما لعبت الحشيش برأسه، استدار نحو جليسه عبسليمو قائلا: لم تعد الحياة رائعة! رددها عدة مرات، لكن عبسليمو لم يجبه بشيء، ظل جامدا ينظر إليه في استغراب، كما لو كان يراه لأول مرة.
وعلى الرغم من حدة طبعه وفظاظة شخصه، إلا أن عبسليمو ظل هادئا يصيخ السمع لجليسه في سكون قاتل. 
لحظات قليلة، ناوله بعدها موح غليونه في هدوء، وكأنهما يتناوبان على تعديل مزاجهما. سحب عبسليمو منها نفسا عميقا، ثم زفر زفرة قوية فيها أنين، مرسلا كتلة دخان قوية صعدت إلى وجهه كادت تخنقه. فانهمك في سعال قوي. وبعدما استقام مزاجه هو الآخر، استرسل في حديث الحشاشين متحسرا على زمن الإسبان قائلا:
- منذ أن رحلت عن ضيعة البرتقال وأنا في تراجع دائم. حياتي أضحت بلا طعم ولا معنى.
لماذا تركتني وحيدا يا "خواكين" ؟
استولت عليه كآبة موحشة. اجتاحه وجع الإحساس باليتم. لم يعد الوضع رائعا كما عهده سابقا. لا شيء يبعث على التفاؤل.. هكذا يقول!
ما لبث أن التقط أنفاسه، ثم تابع حديثه بحسرة:
- لم أعد أستطيب العمل مع أصحاب الضيعة الجدد. أشعر وكأن الأرض بدأت تضيق بي. صارت الدنيا كالحة في وجهي. 
ضرب بيده اليمنى على سطح الطاولة مرددا: (إذا عربت خربت)!
فجأة، صاح بعصبية واضحة:
- الحياة جد صعبة مع هؤلاء الأوغاد..(كحال الراس)!
غير بعيد عنهما في منضدة أمامية، يجلس رجل بجلباب باهت ثقيل، معتمرا طربوشا أحمر يدعى بنعيسى، يحتسي كأس شاي أخضر بتلذذ. تناهى إلى سمعه كل شيء. التفت خلفه بوجه ممتقع وعلق قائلا لموح: 
- كفاك تمجيدا للاستعمار، كل ما قلته مجرد كذب وترهات سخيفة، ليس في القنافذ أملس، الاستعمار يظل بغيضا مهما حصل.
فما كان من موح إلا أن رد عليه محتدا:   - العرائش في عهد الإسبان كانت جميلة، أحسن بكثير مما هي عليه اليوم. مقرف ما آلت إليه الأوضاع. لقد تداعى علينا كل أشكال "المورو" من كل جهات البلد، إذ لم نعد نجد ملاذا ولا عملا في هذه المدينة المنسية.
مرة أخرى أجابه بنعيسى في توتر شديد: -الاستعمار الإسباني قصف أبناء قبيلتي الريفيين بغازات سامة حارقة، وغرس أظافره المتوحشة في أجساد ساكنة المنطقة، وأنا حينما اشتد عودي وجدت نفسي مجبرا تحت وطأة الفقر على ولوج الجندية مع الاسبان لأخوض حربا طاحنة فقدت فيها إحدى أطراف جسدي تحت إمرة الجنرال أمزيان. سرعان ما احمر وجهه وصعدت فورة الدم إلى رأسه، فشرع ينزع جلبابه الثقيل ويصرخ حانقا بقوة بعد أن استحال الحديث إلى تلاسن صاخب ليكشف عن يده المبتورة قائلا:
- هذا ما جنيته مع هؤلاء الأنذال في حرب أهلية لا ناقة للمغاربة فيها ولا جمل، والآن أعيش تحت رحمة تقاعد هزيل يأتيني من إسبانيا لا يكاد يغطي حتى مصروفي اليومي بعدما أصبحت معاقا إلى الأبد .
اتسعت عينا موح من الدهشه. لم يكن يتوقع ردا عنيفا على هذا النحو. أخذ يحملق للحظات في وجه الرجل الغاضب دون أن ينبس ببنت شفة. أحجم عن الجدال الصاخب، ثم لم يملك سوى الانصراف ممسكا بغليونه الطويل مغادرا المقهى، فيما ظل عبسليمو فاغرا فاه يصغي إلى بنعيسى وهو يلعن الإسبان والجنرال فرانكو على حد سواء...