الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب:الإنسانية موضوعةً على المحكِّ

أحمد الحطاب:الإنسانية موضوعةً على المحكِّ أحمد الحطاب
عندما نقول إن شيئا ما موضوعٌ على المِحكِّ، فهذا يعني أن هذا الشيءَ يخضع للاختبار. وإذا كان الشيء ماديا، فالهدف من الاختبار هو معرفة هل لا يزال يحتفظ بخاصياته ومزاياه التي تجعل منه شيئا قابلا للاستعمال. وإذا كان الشيء معنويا، فالهدف من الاختبار هو معرفة هل لا يزال الشيء محتفظا بقيمته أو قِيمه ومحاسنه أو مناقبه. وبما أن الإنسانيةَ شيء معنوي بالدرجة الأولى، فخُضوعها للاختبار يهدف إلى معرفة هل لا تزال هذه الإنسانية ذلك التراث المشترك أو تلك الثقافة المشتركة بين البشر، المبنية على مبادئ السِّلم والأمن والأمان والتسامح والتَّضامن والتَّساكن والتَّعايش…
وإذا فقدت الإنسانية قِيمَها ومحاسنَها ومناقيَها أو تلاشت هذه القِيمُ والمحاسنُ والمناقبُ، فهذا معناه غياب أو تدهور السلم والأمن والأمان والتَّسامح والتَّضامن والتَّساكن والتَّعايش… وأفظع وأسوأ شيء يمكن أن يُصيبَ بني آدم هو أن يفقدَ البشر إنسانيتَهم.
وهذا الأمرُ ليس مجرد كلام أو ضَربٌ من الخيال. إنه واقعٌ ملموس نراه ونلاحظه ونسمعه في حياتنا اليومية، في نشرات الأخبار المسموعة والمرئية، في الصحف وفي شبكات التَّواصل الاجتماعي.
في الحياة اليومية، يكاد يكون التَّخلِّي عن المبادئ الإنسانية والأخلاقية هو الخيط الناظم للمعاملات بين الناس. إن لم يكن الشخصُ يقظاً وفَطِنا، قد يُنصبُ عليه وباحترافية.
في نشرات الأخبار والصحف، غالبا ما تُداعُ أخبار تُشمُّ منها رائحة الخراب والدمار والاعتداء على الطبيعة وعلى المناخ وهيمنة القوي على الضعيف والاقتصاد الجائر والليبرالية المتوحِّشة والحروب والتَّهديدات والتَّهديدات المضادة والاستقواء والغلاء الفاحش وطُغيان وجبروت المال وطغيان الماديات على الروحانيات والإفراط في الأكل والإسراف والتَّبدير وتفاقم الفقر والحِرمان وتراجع قدرة التُّربات على الإنتاج…
فعلا، إن الإنسانية توجد اليوم على المِحك. مِحكٌّ يستوجب إعمالَ الضمائر الفردية والجماعية وتغليبَ العقل على غريزة الجشع والهيمنة والتَّملُّك. الإنسانية سائرة نحو فقدان قِيمِها الإنسانية التي، هي الأخرى، سائرة نحو فقدان قيماتِها. الإنسانية دخلت في امتحانٍ عسيرٍ يجعلنا نطرح السؤالَ الذي لا مفرَّ منه: "ما هو سببُ هذا الوضع المقلق، إن لم يكن مخيفاً؟ هل هذا الوضع مسألة تربية؟ بدون أدنى شك، التَّربية لها دورٌ في نشأة هذا الوضع! هل هو مسألة تفكُّك الأسرة؟ أو مسألة انعزال المدرسة عن المجتمع؟ أو المجتمع نفسُه؟ أو الطبقة السياسية؟ أو طغيان الماديات؟ أو طغيان الليبرالية المتوحِّشة والفردانية؟ أو الدخول فيما يُسمى الحداثة؟ أو بقاء مفهوم حقوق الإنسان مجرد حبر على ورق؟…
والغريب في الأمر أن الأزمةَ التي تتخبَّط فيها الإنسانية حاليا لا تشغل بالَ مَن بيدهم الأمر. ما يشغلهم هو الاقتصاد والنمو الاقتصادي وتنامي الناتج الداخلي الخام وغزو الأسواق المحلية والعالمية والابتكار التّْكنولوجي النافع وغير النافع والتَّفنُّن في اختراع أسلحة الدمار… أن تتدهورَ القِيم الإنسانية ويكون الاقتصاد المادي على ما يُرام، هذا هو ما يشغل مَن بيدهم الأمرُ علما أنه لا شيءَ يمنع من تطوُّر الاقتصاد والإنسانية في آن واحد. فلننظر مثلا إلى اليابان أو كوريا الجنوبية اللتان تبيِّنان أنه لا يوجد، من جهة، تناقضٌ بين التَّقدم الاقتصادي والتِّكنولوجي وتطوُّر الإنسانية من جهة أخرى.
ولا داعيَ للقول أن التَّقدُّم الاقتصادي والـتِّكنولوجي الذي لا يمكن إنكارُ انعكاساته الإيجابية على المجتمعات، هو في الحقيقة بمثابة الميدالية التي لها وجهان: وجه لامع ووجه خافت وغير مرئي. الوجه اللامع سهَّل الحياة وقرَّب المسافات ولطَّف ما هو شاق واختصر الزمان، الخ. أما الوجه غير المرئي، فأهم تأثيراته على المجتمع هو تهميشه للقِيم الإنسانية التي هي آخذة باستمرار في التراجع الذي خلَّف فراغا مهولا في تعامل البشر فيما بينهم.
غير أن الاهتمامَ بالاقتصاد بمعزل عن القيم الإنسانية، وهذا هو ما يحدث في غالبية أنحاء المعمور، قد يقود إلى جعلِ الناس يهتمون بما هو مادي أكثر مما هو روحاني، بل إلى تحويل العلاقات البشرية إلى علاقات جافة ينعدم فيها الإحساسُ والتَّواصل الحميمي الذي تأسَّست وتتأسَّس عليه الحياة الاجتماعية. وحين تُصبح العلاقات بين البشر جافةً، فهذا أسوأ ما يمكن أن يُصيبَ الحياة الاجتماعية التي تتحوَّل إلى آلةٍ ميكانيكية خيطُها الناظم هي الأنانية والفردانية وحب المادة.
فمَن الرابحُ ومَن الخاسرُ في هذا الوضع الذي لا تُحسد عليه الإنسانية؟ الرابح في هذا الوضع، هو التَّيار الفكري (الليبرالي) الذي لا يؤمن إلا بالنمو الاقتصادي وما يدرُّه من أرباح على أقلية تتحكَّم في المال وفي السياسة وفي السلطة. أقلية أقل ما يشغل بالَها هو إعمالُ القيم الإنسانية في كل شيء. أقليةٌ تحيا بالمال وتتنفَّسُه ويجري في دمها. أما الخاسر الأكبر والأوسع هم المواطنون بل الشعوب التي هي فعلا شعوب والتي تتقاسم أشياءَ كثيرة منها، على الخصوص، القيم الإنسانية. لماذا؟
للأنه، على ما يبدو وحسب رأيي الشخصي، كلما تمَّ التَّركيزُ على الاقتصاد وعلى نموه وعلى ما يترتَّب عنه من تراكم للثروات ومن تقدُّم علمي، صناعي وتكنولوجي، كلما تراجعت القيم الإنسانية وكلما سادت داخل المجتمعات الأنانية وحب الذات والماديات. وما هو قادم من تقدم علمي وتكنولوجي وعلى رأسه الرقمنة، لا يبشِّر بالخير. كل مظاهر الحياة ستصبح مرقمَنة وسيُتحكَّم فيها عن بُعد. هل سيبقى الإنسان إنسانا كما أراد له اللهُ أن يكون أم سيصبح عبارة عن ربوتات robots مصيرُها موضوع بيد آلات لا إحساسَ ولا مشاعرَ لها.