الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

ثلاثة تلوينات طبعت شخصيته :الانتقالات العلمية الصعبة في مسار الباحث الموسوعي المرحوم محمد مفتاح

ثلاثة تلوينات طبعت شخصيته :الانتقالات العلمية الصعبة في مسار الباحث الموسوعي المرحوم محمد مفتاح المرحوم محمد مفتاح
 على إثر رحيله المفاجىء قبل أيام ، خصص الاعلامي  عبد الإله التهاني ، مساء الثلاقاء الاخير،  حلقة جديدة من برنامجه الفكري والأدبي "مدارات"، على أمواج الاذاعة الوطنية من الرباط، لروح الباحث الأكاديمي المغربي المرحوم الدكتور محمد مفتاح، استضاف خلالها كلا من الناقدين والباحثين الجامعيين، الدكتور محمد الداهي والدكتور محمد آيت لعميم ، إضافة إلى الناقد والكاتب الصحفي محمد بوخزار .
وقال معد ومقدم البرنامج في ورقته التقديمية لهذه الحلقة ، بأن المسار العلمي الحافل  للباحث الراحل ، قد اتسم بكثير من التفرد والتميز والابتكار المعرفي، وكذا بغير قليل من المقومات العصامية ، ذات النفس الطويل والمتجدد ، مبرزا أن الدكتور محمد مفتاح ، الذي بدأ مساره المهني كمدرس بالتعليم الابتدائي، مرورا بالتعليم الثانوي، ثم أستاذا جامعيا ، استطاع أن يلفت الإنتباه إليه ، بجمعه وتحقيقه لديوان الشاعر والأديب الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب ، مضيفا بأن الاهتمام بأعماله ودراساته الأدبية ، سيزداد بعد تخصصه
 في الدراسات الأدبية والنقدية  المعاصرة، والتي تجددت على يديه كما على يد نخبة قليلة من الدارسين العرب والمغاربة، مسجلا أن إشعاعه الأكاديمي تعدى حدود الوطن، حيث انتزع اعترافا من المحافل العلمية في المشرق العربي، تجلى في الجوائز التكريمية والتقديرية التي حظي بها ، وبعده وجوه من النخبة الجديدة المتخصصة في الدراسات اللغوية والبلاغية، وفي طليعتهم من المغرب الباحث الدكتور محمد مشبال. 
وقدم الزميل التهاني لمحة عن الحصيلة للعلمية للعالم الراحل الاستاذ محمد مفتاح ، من خلال استغراض عناوين من سلسلة إصداراته المتميزة من قبيل :( في سيمياء الشعر القديم - الخطاب الصوفي- فلسفة النقد - تحليل الخطاب الشعري- المعنى والدلالة- وحدة الفكر المتعددة- المفاهيم وأشكال التواصل - المفاهيم معالم - انتقال المفاهيم والنظريات - وغيرها... )  .
كما توقف عند التقدير الذي حظي به جهده الفكري، وما حازه من جوائز رفيعة ، داخل المغرب وخارجه .
واعتبر معد ومقدم برنامج "مدارات " أن  الاستاذ المرحوم محمد مفتاح ، عرف بتمكنه من الدراسات النقدية القديمة والمعاصرة على حد سواء، وأنه بأسلوبه المتميز  ونزوعه نحو الابتكار في المفاهيم، أعطى للدراسات الادبية والنقدية واللغوية ، أبعادا متجددة ، خاصة وأنه نجح في توظيف علم النفس، وعلم المنطق والبلاغة ، ومعارف أخرى ضمن نظراته النقدية .     

● في شهادة الدكتور محمد أيت لعميم: المرحوم محمد مفتاح عالم موسوعي، ومجدد للدرس النقدي بالمغرب 
في مداخلته، أكد ضيف البرنامج الناقد والباحث محمد آيت لعميم، بأن  الحديث عن الدكتور المفكر والناقد العصامي محمد مفتاح، هو حديث ذو شجون ،  لأن الرجل اتسم بنوع من الموسوعية أولا، ثم لأنه استطاع تأسيس البدايات في تخصصه  خلال فترة  الثمانينات، وتمكن من أن يجدد الدرس النقدي والدرس الشعري في الجامعة المغربية، مضيفا أنه لم يتأت له ذلك، إلا لكونه  أستطاع أن يهضم الإرث العربي والشعر العربي القديم، ويتمكن من آليات تحليله وتفكيكه، كما كان القدماء يفعلون، مبرزا أنه استطاع في ظرف وجيز أن يتعمق في جديد المناهج الغربية، وأن يطعم بها الموروث النقدي العربي حول الشعر، موضحا أن الراحل محمد مفتاح ، قد قدم في بداية الثمانينات لطلبته، زبدة هذا التوفيق بين القديم والحديث، بصورة فيها اجتهاد كبير جدا ، مسجلا أن الأستاذ  محمد مفتاح رحمه الله  بدأ محققا لأحد أكبر شعراء الأندلس هو  الشاعر لسان الدين ابن الخطيب، مضيفا إليه اهتمامه بالخطاب الصوفي ،والبحث فيه عن جذور أخرى لم تكن متناولة من قبل، ومحاولته الاقتراب من الأنساق المتحكمة في الثقافة العربية ، لاسيما في ثقافة الغرب الإسلامي.
وأكد محمد آيت لعميم  بأن المرحوم  محمد مفتاح ، لم يكن فقط يجرب أو يطور مناهج، بل كانت لديه رؤيا شمولية ، جعلته يبحث عن منهج ، يحاول من خلاله أن يكتشف  المشترك وعن الكلي. 
واستطرد آيت لعميم يقول ، بأن المفكر محمد مفتاح لم يتعامل مع المناهج ،في غياب استحضار أسسها الإبستمولوجية وخلفياتها الإيديولوجية ، ولهذا نجده ينتقد ويستدرك على أصحاب هذه المناهج ، في موطنها الغربي.
واعتبر  آيت لعميم  أن هذا درس ينبغي أن نستفيده من المرحوم مفتاح، وهو أن تعاملنا مع الفكر الآخر ومع المناهج ، لا ينبغي أن يكون بنوع من الإنبهارية ، بل بنوع من الندية،  وبالقدرة على نقده وعلى توجيهه  وعلى توسيع  المنهج ، حتى تكون لنا بصمتنا الخاصة ، حينما نبحث في هذا المنهج.
وأوضح نفس المتحدث أن قراءتنا لمحمد مفتاح، منذ كتابه "في سيمياء الشعر القديم"،  أنها وجهتنا واختصرت علينا المسافة ، لنقرأ الشعر بطرق جديدة، وليكون لنا هذا المشروع، الذي قدمه وطوره في كتب أخرى ، مثل كتاب " تحليل الخطاب الشعري" ، وكتاب " من النص إلى التنظير"، وكتاب " المعنى والدلالة " ، لافتا إلى آن الأوان لإعادة قراءة هذه المؤلفات من جديد .
وختم الدكتور محمد آيت لعميم شهادته ، بالتأكيد على أن الاستاذ  محمد مفتاح  هو باحث  رائد ، اختصر علينا المسافات، وأننا عن طريقه ، عرفنا مجموعة من المرجعيات، وأنه قارئ جيد، ناهيك عن أن الطريقة التي يقدم بها المعرفة النقدية العالمة، هي طريقة بيداغوجية، وهذا كان له أثر كبير في تعلق النقاد ، سواء المغاربة أو المشارقة، بالأعمال التي كان يصدرها ، والتي كان يترقب الناس صدورها.
واعتبر الدكتور محمد آيت لعميم  أن  الراحل محمد مفتاح ، أستاذ مبرز  وعالم كبير، بحكم جهده وثرائه ، وبالنظر إلى المؤلفات التي أصدرها، والتي ذاع صيتها في العالم العربي ، ونال عنها جوائز مهمة،  تنويها بمكانته ، موضحا أنه  من خلال عناوين إصداراته، سنلاحظ أنه كان عالما ملما بالأدب، من زوايا متعددة، وخاصة في علاقته بالعلوم الحقة، مشيرا إلى كتابه "التناغم الكوني " ، الذي أصدره المرحوم ، وانطلق فيه من النظرية الفيتاغورية، التي ترى بأن العالم متناغم ، وهو كان منشغلا بهذا الطرح، وكان يدلي بأدلة من خلال النصوص التي حللها، لإثبات الانسجام والتماسك في النص.
وأكد آيت لعميم  أن الراحل مفتاح ، أعاد تحقيب الأدب العربي ، من أجل أن يثبت الاعتماد على ما يسميه الآماد البعيدة (من فتح العرب للأندلس إلى حدود الآن)، ويصطلح عليه بحقبة الهيمنة ، وحقبة التحصين، وحقبة استكمال التحرير ، وحقبة بناء الدولة العصرية، وهو بذلك خالف  كل من اعتمدوا على الأماد القصيرة ، مثل عبد الله كنون ومحمد حجي ومحمد بنشقرون...
كما تحدث  ضيف البرنامج ، عن الجانب الآخر الذي كان يصر عليه لمرحوم محمد مفتاح ، وهو تناغم الكون ، حيث كان دائما يحرص على ما يصطلح عليه بالذهنيات المشتركة ، التي تتجلى في كثير من المواصفات، ومنها أن كل شعب له خصوصيته. كما أن همه كان  أن يثبت أن  المغاربة  ، كانوا دائما يسعون في كتاباتهم إلى وحدة الأمة .
 
● شهادة الدكتور محمد الداهي : كان محمد مفتاح ضد الطائفية الثقافية وضد الشخصنة .   
وفي مداخلته ،استعرض الدكتور محمد الداهي ذكرياته مع الاستاذ الراحل محمد مفتاح ، سواء تلك المتعلقة بالعلاقة الإنسانية والثقافية، أو تلك المرتبطة بإشرافه، رفقة الدكتور مصطفى الشاذلي، على أطروحته الجامعية، مؤكدا أنه  كان  رجلا صموتا ، لايحبذ الشخصنة أو الطائفية حول شخص معين.
 وكشف محمد الداهي في مداخلته،  أن العالم الراحل ، لم يكن يميل إلى الموافقة على الاحتفاء بشخصه، بل كان يوصي بتدارس أعماله في شكل لقاءات  دراسية علمية ، مسجلا أنه كان يردد دائما:  "أنا مجرد إنسان ، وما كتبته ليس كتابا منزلا،  وأطلب منكم عندما تدرسون مؤلفاتي ، أن تنبهوني إلى أخطائي" .
 
● شهادة الناقد والكاتب الصحفي  محمد بوخزار : ثلاثة تلوينات طبعن شخصية ونفسية الراحل محمد مفتاح .
وفي مداخلته ، أوضح الناقد والكاتب الصحفي محمد بوخزار،  أنه تعرف على الأستاذ محمد مفتاح ، حينما كانا معا في كلية الآداب بفاس، وأن  علاقتهما توثقت  في مدينة الرباط، مشددا على أنه كان يرى دائما في  الاستاذ الراحل ، صفات الرجل المؤدب ، مستحضرا  أنه كان أجرى معه سنة 1974 ، حديثا لجريدة " العلم " ، إثر  مناقشة رسالته لديبلوم الدراسات العليا حول شعر لسان الدين ابن الخطيب، مبرزا أنه رأى فيه منذ تلك المرحلة ، محققا دقيقا ، ذا اطلاع على الثقافة القديمة ، وخاصة في اللغة العربية وآدابها، وأنه كان أبعد ما يكون عن الخوض في الأشياء الحديثة، التي كانت تشغل جيلهم.
وأضاف محمد بوخزار بأن المرحوم محمد مفتاح ، كان وقتها قد  اختار موضوع شعر لسان الدين ابن الخطيب ، وهو مجال صعب للتحقيق، لأن ديوان ابن الخطيب كان محققا من طرف محقق مغاربي، ولكن الأستاذ مفتاح أعاد تحقيقه ، على ضوء أشعار بن الخطيب التي كانت متفرقة.
واستطرد محمد بوخزار يقول بأن المرحوم محمد مفتاح ، هو واحد من حلقة الأساتذة التي اجتمعت في كلية الآداب  بالرباط ، وفيها جماعة من اللغويين ، ضمنهم المرحوم مولاي أحمد  الإدريسي ، وعبد القادر الفاسي الفهري، وطه عبد الرحمن، ملاحظا أن الاستاذ مفتاح لم يكن مخالطا كثبرا لجماعة اللسانيين،  بحكم تواضعه.
وأضاف محمد بوخزار بأن الراحل مفتاح، ربما اكتشف أن المعرفة الصلبة بالمناهج النقدية الحديثة والدراسات اللغوية، لا تتأتى له ولغيره إلا بالرجوع إليها في مضامينها الأصلية، أي باللغة الإنجليزية .
 وفي هذا السياق، روى محمد بوخزار أن مقر المركز الثقافي الأمريكي بالرباط، كان قريبا من سكناه، وأنه كان يجد المرحوم  محمد مفتاح ، في الصباح كما في  المساء، وهو واقف وسط التلاميذ بدفاتره،  والذين كانوا في عمر أولاده أو أحفاده في ذلك الوقت، وأنه أجابه عندما  سأله ذات يوم مالذي يفعله هناك بقوله : " اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". 
وكشف الناقد والكاتب الصحفي  محمد بوخزار ، أن المرحوم محمد مفتاح  استمر يدرس الإنجليزية ، حتى تمكن منها، لتساعده على الإبحار في المعارف المكتوبة بها، ولم تكن  مترجمة للفرنسية.
وفي معرض شهادته ، أكد محمد بوخزار أن المرحوم محمد مفتاح قد أحدث نقلة علمية كبيرة جدا، كدارس تقليدي في الأدب الأندلسي، إلى إنسان اقتحم مجالا صعبا ودقيقا، وهو السيمائيات والتأويل، وأننا لا نجد هذه النقلة في كثير من الناس بل هم قليلون، سواء في المغرب أو في العالم العربي .
وخلص بوخزار إلى القول بأن هذه النقلة العلمية،  أنتجت مجموعة من الدراسات التي أعادت س سؤال الدرس البلاغي القديم، وأنه بذلك  مهد الطريق لمن أتى بعده من الباحثين الشباب، الذين عمقوا البحث فيما بدأه هو، مسجلا أنه ستبقى له دائما الريادة في هذا المجال ، مستدلا  بكتابه (مجهول البيان) الذي انتقل فيه من الكتابة التقليدية ، إلى كتابة مكثفة دقيقة وصارمة. 
  وختم شهادته بالقول بأن الدكتور المرحوم محمد مفتاح  "كان يناصر نفسه بنفسه"، مستحضرا تسجيلا صوتيا للمرحوم يقول فيه: "أنا طموح، أنا عدمي إيجابي، أنا محب للخير".
واعتبر محمد بوخزار  هذا الوصف بـأنه يجسد " تلوينات ثلاثة في شخصيته وفي نفسيته ، كاشفة عن رجل استثنائي حقا .