الاثنين 6 مايو 2024
كتاب الرأي

أحمد نور الدين: بداية حرب أوكرانيا ونهاية هيمنة الغرب

أحمد نور الدين: بداية حرب أوكرانيا ونهاية هيمنة الغرب أحمد نور الدين
الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت فجر الخميس 24 فبراير، ستشكل نقطة تحول في النظام العالمي القائم على احادية القطبية منذ سقوط جدار برلين سنة 1989. ولعل تصرفات الولايات المتحدة كحاكم أوحد للعالم وتنصلها من التزاماتها وانسحابها بشكل أحادي من اتفاقيات دولية عديدة، وغزوها عسكريا لدول خارج قرارات مجلس الامن، او حصار دول اخرى بنفس المنطق، عجل من تصاعد تبرّم حلفائها وخصومها على حد سواء. وما نشاهده في أوكرانيا اليوم، ودون السقوط في تبرير قرار بوتن الذي ينتهك سيادة دولة جارة، هو نتيجة الإمعان في إهانة موسكو من خلال التنصل من كل التعهدات التي قطعها الغرب بعدم توسع حلف الناتو شرقا، وعدم نشر منظومة الصواريخ المتوسطة والقصيرة الأمد، بالإضافة إلى طرد روسيا من مجموعة G 7 للدول الصناعية الكبرى، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وصولا الى ضم جمهوريات البلطيق السوفييتية سابقا إلى الحلف الاطلسي.
وبعد استيقاظ موسكو من غيبوبتها التي دامت عقدين من الزمن ما بعد السوفييتي، وبعد استعادتها لبعض من عافيتها الاقتصادية والدبلوماسية، تحركت لمنع ضم ما تبقى من الجمهوريات السوفييتية فتدخلت عسكريا سنة 2008 على سبيل المثال في جورجيا ودعمت انفصال جمهورية أوسيتيا الجنوبية، ثم ضمت شبه جزيرة القرم سنة 2014، وبين هذا وذاك حاولت فتح جبهات جديدة لمواجهة الغرب في حرب غير تقليدية استخدمت فيها سلاح المرتزقة وأدوات الجيل الرابع من الحروب كشبكات التواصل الاجتماعي والهجمات الإلكترونية وقنوات التلفزيون الفضائية بكل اللغات، وغيرها، وكان من بين بؤر تلك الحروب إفريقيا الوسطى وسورية وليبيا وفنزويلا ومالي. وكان الهدف من وراء ذلك هو تملك اوراق للضغط على الغرب لإعادته الى مائدة المفاوضات وتنفيذ التزاماته السابقة مع موسكو سنة 1997 والاعتراف لها بمنطقة نفوذ في محيطها المباشر. ولا شك أنّ أوكرانيا تحتل مكانة القلب في هذه الاستراتيجية الروسية لإعادة رسم مجالها الحيوي. ولكن واشنطن استمرت في تجاهل مطالب روسيا ورفضت التعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف الاطلسي وهو المطلب الرئيس لروسيا في قائمة المطالب التي قدمت بشأنها ورقة من عدة نقاط في المفاوضات التي جرت في جنيف يناير 2022 مع الإدارة الأمريكية ولم تفض الى نتيجة. وكان بإمكان الغرب أن يستجيب لطلب القيصر خاصة وأنّ هناك سابقة مشابهة وهي وضع فلندا خلال الحرب الباردة والذي لازال مستمراً إلى اليوم كبلد أوربي غير عضو في حلف الناتو.
ودون الخوض في مواضيع الشرعية الدولية والسيادة الأوكرانية وحقها في الانضمام إلى الحلف من عدمه، فإن بوتين رأى في السلوك الأمريكي تجاه أوكرانيا تهديداً استراتيجيا غير مبرر لأمن روسيا القومي ليس على الصعيد العسكري فحسب، بل وحتى على الصعيدين الاقتصادي والثقافي نظراً لخصوصية العلاقات التاريخية والاثنية بين موسكو وكييف. وأكثر من ذلك اعتبر الرئيس الروسي تجاهل واشنطن لمطالبه اهانة شخصية له، واحتقاراً للوزن الاستراتيجي لروسيا، فكان الهجوم على أوكرانيا مصحوبا بخطاب سيد الكرملين، بثه التلفزيون الرسمي صبيحة الهجوم، والذي توعد فيه بشكل واضح ومباشرة الدول الأوربية وأمريكا بردّ فوري وغير مسبوق في التاريخ إذا غامروا باعتراض طريقه.
ولكن قبل ذلك الهجوم مرّ حدث دولي بارز دون إثارة الكثير من الضجيج، وهو إعلان "الشراكة بلا حدود" بين الصين وروسيا، اثناء زيارة بوتن الى بيكين مطلع شهر فبراير، أي ثلاثة أسابيع قبل بدأ الاجتياح، وقد صرح الرئيس الصيني في ذلك اللقاء انه يدعم مطالب روسيا بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وفي المقابل أعلن الرئيس بوتن اعترافه بسيادة الصين على دولة تايوان.
وهنا مربط الفرس حول تداعيات غزو أوكرانيا على العلاقات الدولية والنظام العالمي، فهذا الاعلان بين الصين وروسيا يوحي بأن تفاهمات استراتيجية قد تمت بين الصين التي تحاربها واشنطن في ميدان التكنولوجيا والاقتصاد، وبين روسيا التي تحاربها واشنطن في الساحة الطاقية والأمنية والاستراتيجية، وربما يكون بوتن قد أحاط علماً زميله تشي جي بينغ قبل تحرك الجيش الأحمر تجاه أوكرانيا. وفي المقابل حصلت الصين على اعتراف صريح من روسيا بسيادتها على تايوان، وهو ما قد يمهد الطريق أمام التنين الأصفر للقيام بخطوة مماثلة لغزو تايوان في وقت لاحق بموافقة موسكو. وهذا سيحدث أكبر زلزال في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفييتي. ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب اوراق العالم ويؤذن بميلاد نظام دولي على أنقاض النظام الحالي أحادي القطبية الذي عمر ثلاثة عقود، والذي يوصف في كثير من الأحيان، حتى من قبل مراكز الدراسات الأوربية، بنظام الامبراطورية الامريكية.
ولعل من أبرز ملامح هذا النظام الجديد تلك "الشراكة بلا حدود" التي تمّ الإعلان عنها في الخامس من فبراير بين التنين الصيني والدب الروسي، والتي تشمل عقودا ضخمة لتوريد الغاز الروسي للصين، لضمان تدفق امدادات الطاقة إلى الصين، وهي نقطة الضعف الكبيرة بالنسبة للقوة الصينية الصاعدة التي تعتمد على استيراد المحروقات بشكل شبه كلي من الخارج.
كما أن هذا التحالف بلا حدود سيمتد الى مجال الفضاء والمجال العسكري وقد نظم البلدان أكبر مناورات عسكرية عرفها التاريخ سنة 2018، بمشاركة أزيد من 300 ألف جندي وآلاف الطائرات والدبابات. وفي الجانب الاقتصادي سيشكل التمدد الصيني في إفريقيا وامريكا اللاتينية "نهاية سيطرة الغرب على العالم" التي تحدث عنها علنا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه أمام السفراء يوم 27 غشت 2019.
وإذا كانت الصين قد تكفلت بإنهاء تلك الهيمنة اقتصاديا، فإنّ روسيا قد شرعت في الإجهاز على الإرث الاستعماري من خلال دخولها بقوة إلى دول الساحل وإلى إفريقيا الوسطى، وقد تابعنا الطرد المهين للسفير الفرنسي من مالي والدعوة إلى إنهاء عملية "بارخان" وخروج القوات الفرنسية من هذا البلد، وتعويضها بقوات روسية.
نحن إذن أمام نهاية تبعية المستعمرات السابقة للمتروبول، كما أنه بداية للانكماش الاقتصادي والاستراتيجي لأوروبا التي وجد رؤساؤها، المجتمعين ليلة الخامس والعشرين فبراير، أنفسهم عاجزين عن اتخاذ عقوبات اقتصادية صارمة ضد روسيا من قبيل فرض حصار شامل يطال الغاز الطبعي الروسي على سبيل المثال الذي يشكل مورداً مهما لخزينة الكرملين. ولكن أوربا أضعف من أن تتخذ قرارا كهذا، لأنها تستورد أزيد من نصف احتياجاتها الطاقية من روسيا، ولا تمتلك بديلاً عنه في الوقت الراهن. وهذا المعطى جعل القرار الامريكي بعزل روسيا عن النظام البنكي العالمي قرارا موقوف التنفيذ لان ألمانيا والنمسا وايطاليا وسلوفينيا وغيرها من الدول مضطرة لدفع مستحقات الغاز الروسي عبر هذا النظام البنكي. وهذا ما يفسّر الخلاف داخل البيت الأوربي حول سقف العقوبات ضد موسكو. وهذا مؤشر قوي على أنّ الكرملين قد أدخل في معادلة غزو أوكرانيا كل هذه العوامل، وأعد لذلك العدة سنوات قبل الإقدام على خطوته تلك، بينما أوربا كانت عاجزة عن استشراف أو توقع الكارثة.
وإذا كان غبار الحرب يحجب عنا الرؤية الآن لمعرفة من المستفيد أكثر ومن الخاسر الأكبر في هذه الحرب، فإن المؤكد هو ان النظام العالمي سيتغير، وأن قواعد اللعبة سيتم تحيينها وعقارب الساعة سيتم ضبطها هذه المرة على توقيت بيكين وموسكو وليس توقيت بروكسل وواشنطن.