الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الله أبو أياد العلوي: من أجل علاج فقدان المناعة النفسية والمعرفية

عبد الله أبو أياد العلوي: من أجل علاج فقدان المناعة النفسية والمعرفية عبد الله أبو أياد العلوي

لا شك في أن معاناة الأطفال والنساء وكبار السن والقوى المؤهلة المحاصرة في وضعية عطالة التي يتابعها الجميع كل من موقعه، تعبيرات صادقة عن حقيقة الشعور والتخبط الذي يتميز به الأداء السياسي في العالم المعيش بكل مكوناته السياسية والإدارية والاقتصادية، بالإضافة إلى المكونات المالية والمعرفية والتكنولوجية في مواجهة مسؤولياتها، وفي أدائها لواجباتها وقيامها بأعبائها، الذي يسمى لدى البعض بالإهمال وانعدام الضمير وضآلة القدرات. وهي كلها بمثابة الأعراض التي تبدو على سبيل المثل وليس الحصر لوضعية مرضية مزمنة يعاني منها الوضع العالمي الراهن عامة والمجتمعات التابعة بالخصوص أو ما يحلو للبعض تسميتها ببلاد الجنوب الفقيرة مقابل بلاد الشمال الثرية والمتقدمة.

 

لكن السؤال الذي يطارد الباحث في هذا الصدد كما طال غيره في السابق يتعلق بحقيقة التغيير المستمر والمتجدد نحو تعميق تخلف الإنسان في هذه المناطق، هو لماذا استطاع المرء في بلاد الشمال النجاح في انتزاع مساحات من البحر وضمها إلى هولندا وحولها إلى مزارع منتجة للغذاء؟ في حين ينزع هجوم التصحر وهيجان البحار الأراضي الخضراء من أبناء الجنوب؟

 

فالتربية على العموم تأمين ضد الغرق، وتحرر من الخوف، وتدريب على مواجهة العواصف، ومناعة ضد استجداء المساعدة، وامتهان التسول، وترسيخ وتقوية الاقتناع بركوب المخاطر، والقدرة على تدبيرها، واعتبار الموت مجرد محطة من محطات التحرر من الذل والتبعية والاتكال، وبداية نحو النصر والتقدم. إنها التربية التي تربي الناس على الحياة الرافضة لكل صنوف الخوف والتخويف ونبذ الإرادة لدى الإنسان الجنوبي كما هو إنسان. وهي حالة من فقدان المناعة على المستوى المعنوي النفسي الاجتماعي تنخر كينونته. يسمع ولا ينصت، ينظر ولا يرى، يلمس ولا يدرك يثار ولا يستجيب، طليق ولكنه ليس حرا، لا يستطيع المبادرة جراء حرمانه من التربية على الحرية وأساس كل قدرة على المجابهة والتصدي الفكري والعملي القوي على الإبداع والإنتاج والاستقلال.

 

إن الحديث عن الإنسان والعناية بقدراته ومهاراته كأساس لتخليص كينونته من فتك فقدان المناعة السيكوسوسيلوجي وامتلاكه الحرية التامة التي تميز ذاته الراشدة التي تأبى الاستسلام والخضوع للظروف والأزمات لأنها أقوى منها وبقدرتها التحكم فيه وتحليلها وتفسيرها وإعادة تشكيلها وفق ما يليق بمصالح الكون وتوازنه وارتقائه، لأنها ذات عاقلة لا تدبر بالغرائز بل تدبرها وتنظم وظائفها.

 

وإذا كان الإنسان كينونة حرة أقوى على إدارة الظواهر الطبيعية، فهو مسؤول عن أمن وسلامة كافة الكائنات الحية، وحقيقته في الجنوب مغيبة من لدن الجاثمين على العلم والتكنولوجيا والسياسة والاقتصاد والدين، الذين يشكلون الأقطاب الأساسية للاحتلال الجديد للأدمغة والنفوس.  كما أن إفراغ المرء من كل محتوياته الإنسانية وتشييئه بل ودفعه بحوافز مسمومة نحو الهرب من حقيقته عبر الأوهام وتجميد التفكير وتزييف الوعي واختزال الواقع في تأمين الخبز والحماية ضد الجوع، أسهم بشكل كبير في قتل قيم الحرية كطريق للتفكير والعمل من أجل سعادة الآخرين والجهاد من أجل صيانة الكرامة الإنسانية والارتقاء بتحضرها.

 

وإذا كانت الكينونة المعنية هنا غالبا ما تبدو في التصرف الحر القوي على تصنيع الحياة والإسهام في قيادتها عبر الحضور الفعال للمرء والمرتبط بواقعه بمختلف أبعاده المكانية والزمانية والوجودية قائم على التفكير والتجديد والتعبير التواصلي الفعال. فالحرية أساس التفكير المتقدم والعمل المنتج والمتطور المقاوم للرتابة والركود وللتربية على التنميط والتشييئ والتعليم والتكوين.

 

وقد لم يعد العنف في الواقع المعاصر مجرد شكل بدائي من أشكال المواجهة للفشل والإحباط والحرمان بل العنف الذي تفرض تكنولوجيا المعلومات لفك أي ارتباط عاطفي أو إحساس إنساني أو انتماء اجتماعي أو ثقافي عبر التحكم في المنتوج المعرفي والثقافي والرياضي والفني والبيئي، ليس من أجل تخدير الفرد وإلهائه ولكن بغرض تنقية العالم وتفتيت إرادة أشخاصه واستدامة سباته بقتل المفكرين وإبعاد العلماء المثقفين ومهننة وامتهان المعلمين وتحويل الأحزاب والنقابات والجمعيات إلى رهائن سمسرة ووسائل لتعييش الخبزيين وفسخ المؤسسات المنتخبة وتحويلها إلى مجرد واجهة لعبث الأميين وتوطيد التقنيين والمرتزقة والبحث العلمي التكسبي إلى آليات لتوطيد خصوم الجهل والرذيلة.

 

إن نهج تخفيض القدرات الإنسانية لدى الفرد ومهارته ومعارفه في ظروف تجعله متحكما فيه من بعد، بل وتتم برمجته واستعماله باستمرار كمفعول به لا قوة له على امتلاك العلم والتكنولوجيا التي أصبحت سلاحا ووسائل إنتاج يحتكرها أرباب السوق، هي حرب من حروب هي فعل آلة جديدة تتطلع لاستعباد صميم الوجود الإنساني بكل مكوناته وأبعاده.

 

ويبدو أن التقدم المادي والتكنولوجي من دون ارتقاء إنساني نفسي وذهني ومعرفي واجتماعي وسياسي وأخلاقي، يعتبر تفاخرا واستعراضية لا أهمية لها قد تتحول إلى مجرد سلاح بيد أصحاب السوق وأمراء الحروب بكل أصنافها للتربية والتنشيط على الحقد والكراهية والعنصرية بين العالم الإنساني الذي يجب أن يكون عالم الأنس والمؤانسة. وليس مساحة للبطش والعنف والحربائية أو الانغلاق على الذات وعدم الامتثال للآخرين أو اشتمائهم في ظل تعملق أمن الدول وأنظمتها والقيمين على تدبيرها، وتقليص في نفوس الأفراد الذين هيمنة المخاوف بكافة أصنافها ومستويات حدتها على كينونتهم، مما أسهم بشكل كبير في إعدام الرغبة في التعلم والخصومة مع المعارف والعلوم والفن والأدب والحلم بالسعادة والمستقبل المتحضر الأمن. بموازاة مع شعارات يتمناها البعض مثل المستبد العادل والرأسمالي المنصف. فمتى كانت للاستبداد علاقة بالعدالة؟ وفي أي وقت كانت الرأسمالية منصفة؟

 

وإذا كانت المراجعات الجدية التي يحتاج إليها الإنسان في الجنوب هي تلك التي تمكنه من البناءات البيوعصبية والنفسية والمعرفية الواجبة لتحريره من التخلف والتلون والتبعية ومن كل المعتقدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فإن المطلوب هو عمل تربوي قوي على استئصال العوائق المحاصرة للبناءات النفسية والسوسيوثقافية المعاصرة للجنوبي. وتعد التربية المركزة على البناء النفسي حاجة هامة وحاسمة في دراسة التخلف والصعوبات التي تعترض الفرد وتحول دون انتقاله إلى ذات راشدة وسجنه في أوحال نمط قديم من أنماط العيش تجاوزها الزمان.

 

إن تحرير سياسات التربية والتكوين وتحصينها ضد الاحتلال الجديد بكل وكلائه مدخل أساسي لتحرير الجنوبيين من الاستعمالات المعرفية والتقنية والإعلامية وكل الغذاءات الثقافية الرديئة التي يفرضها الشمال الذي لا يقبل بهجرة الجنوبي إلى بلاده، ولكنه يجتهد باستمرار للاستحواذ على ثمراته الطبيعية والتحكم فيها بل وتحويلها إلى وسائل لاغتناء الشمال على حساب الجنوبي كما هو الحال بالنسبة للعلاقات الفرنسية المالية، وعلاقة الكثير من دول الخليج ببريطانيا والولايات المتحدة.

 

يعد التقدم الحقيقي شرط أساسي لتامين الكينونة الإنسانية القائمة على الإنصاف وهو شرط رئيسي من شروط تحضرها وتأمين بقائها لكن ذلك يقتضي تربية أقوى على النهوض البيوعصبي والنفسي والمعرفي والعلمي والتقني، بذل التربية والتكوين على تحضير الأقنان الذين يحتاج إليهم سوق الشغل، الذي يحدد احتياجاته وشروطه الشماليون ويمتثل له الجنوبيون الذين يتنمون على الانطواء والسلبية والتبعية والتكيف قبل التربع على احترام الذات والمعرفة والإبداع والنقد والتطوع والمبادرة.