الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

الفرياضي: الأصول التاريخية للمسيحية المغربية

الفرياضي: الأصول التاريخية للمسيحية المغربية عبد الله الفرياضي، باحث في التاريخ وناشط أمازيغي
يرجع أغلب المؤرخين دخول المسيحية إلى المغرب القديم، موريتانيا الطنجية، إلى القرن الرابع الميلادي. حيث تؤكد الحفريات التي أجريت في شمال المغرب وجود كنائس تعود إلى هذا التاريخ، غير أن المؤرخ الروماني “كاركوبينيو” يؤكد أن المسيحية كانت أمرا واقعا في هذا البلد منذ القرن الثالث.
بالنسبة للمؤرخ والشاعر الروماني “أوريليوس برودينتيوس” الذي عاش خلال القرن الرابع الميلادي، فإنه يؤكد في كتابه “أبوثيوزيس” أن ملوك المغرب الأقدمين (الموريون) قد اعتنقوا المسيحية. ففي معرض مقارنته بين بعض الشعوب، لا سيما شعب “الغيتانيين” الذين وصفهم بالمسالمين وشعب “الغيلونيين” الدمويين حسب تعبيره، يصرح بأن “أرض أطلس الموري التي لطالما كانت غادرة ذات يوم، قد تعلمت أن تكرس ملوكها ذوي الشعور الطويلة عند مذبح المسيح”. والواضح حسب هذه الشهادة أن “برودينتيوس” كان يقصد بعبارته هذه أن المسيحية قد عرفت طريقها إلى اعتقاد المغاربة منذ بداياتها الأولى.
مما لا شك فيه أن المُور، أسلاف المغاربة الأقدمين، لم يكونوا متقوقعين على ذواتهم عبر التاريخ، بل كانوا في تواصل وتفاعل مستمر ودائم مع بقية شعوب العالم ومع إخوانهم الأمازيغ عبر مختلف بقاع شمال أفريقيا. وتبعا لذلك لا غرابة في أنهم تأثروا بأشقائهم الأمازيغ علماء الدين الذين وضعوا اللبنات الأولى للديانة المسيحية وأسسوا الأصول الرئيسية للاهوت المسيحي. إذ من المعلوم أن هذه العقيدة تدين بالكثير لهذا الشعب، حيث تخبرنا نصوص الإنجيل وكتب التاريخ أن “سمعان القوريني الليبي” كان أحد حواريي المسيح، بل هو من حمل الصليب ليصلب عليه المسيح.
وعلى ذكر الكتاب المقدس لدى المسيحيين، فإن أحد الأناجيل الأربعة قد كتبه مبشر أمازيغي من ليبيا أيضا، وهو القديس “مرقس الإنجيلي” أحد تلامذة المسيح وسفرائه التبشيريين. وعلاوة على هذين القديسين المؤسسين، سيظهر علماء دين أمازيغ كانت بصمتهم واضحة في رسم معالم هذه الديانة، وهنا يجب التذكير بكل من القديس “تورتيليان القرطاجي” (القرن الثاني)، والقديس “آريوس القوريني الليبي” (القرن الثالث) الذي ينتسب إليه المذهب الآريوسي، والقديس “دوناتوس أمقران” (القرن الثالث) الذي تنتسب إليه الحركة الدوناتية، والقديس “أوغوسطين النوميدي” (القرن الخامس) الذي نظر للاهوت المسيحي. والأكثر من هذا أن الأمازيغ قد تمكنوا من اعتلاء كرسي البابوية ثلاث مرات، الأولى كانت مع القديس فيكتور الأول (القرن الثاني) البابا الرابع عشر للكنيسة الكاثوليكية، والثانية مع القديس ملتيادس (القرن الرابع) البابا الثاني والثلاثين، فيما كانت الثالثة مع القديس “اغلاسيوس” (القرن الخامس) البابا التاسع والأربعين.
وعلى الرغم من الفتح الإسلامي للمغرب خلال الحقبة الأموية، فإن الكتابات التاريخية تؤكد أن الديانة المسيحية قد ظلت صامدة ومستمرة بين الأهالي وفي بعض الثغور قرونا طويلة بعد ذلك، حيث ظل التعايش السمة الغالبة على العلاقات بين المسلمين المغاربة وأشقائهم المسيحيين، حيث يشير أغلب المؤرخين إلى أن اعتناق بعض المغاربة للديانة النصرانية قد امتد إلى العصرين المرابطي والموحدي مشددين على أن الجماعات المسيحية لم تختف من المغرب إلا خلال القرن الخامس عشر، وذلك بسبب حملهم على الإسلام أو الجلاء عن المغرب التي سنها الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي الكَومي.
ومع تضعضع السلطة المركزية نهاية العصر المريني / الوطاسي ستعود المسيحية إلى البلاد، وإن بشكل محتشم، مع الحملات البرتغالية ثم الاسبانية التي احتلت مجموعة من الثغور المغربية، حيث سيتم تأسيس مجموعة من الكاتدرائيات والكنائس لا سيما في سبتة وأصيلا وطنجة ثم مليلية. غير أن الحضور المسيحي بالمغرب سرعان ما سيبدأ بالتنامي خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين بفعل توافد الكثير من المستوطنين والمعمرين الأوروبيين القادمين مع الحملات الاستعمارية الفرنسية والاسبانية، حيث ازدهرت حملات التبشير والتنصير بالمغرب وبناء الكنائس بمختلف المراكز المغربية خلال الفترة الكولونيالية، وتوزعت هذه الكنائس ما بين المذهب الكاثوليكي والأنجليكاني والفرنسيسكاني والبروتستانتي.
إذا كان استقلال المغرب عن فرنسا سنة 1956 وعن اسبانيا سنة 1975 قد حد بشكل كبير من استمرار المد المسيحي في البلاد بفعل اضطرار الكثير من المستوطنين والمبشرين إلى العودة إلى أوطانهم، فإن الحضور المسيحي قد عاد إلى وهجه القديم خلال الفترة الأخيرة، ويعزى ذلك إلى عاملين أساسيين: أولهما تحول المغرب إلى مركز استقرار للمهاجرين القادمين من الدول الأفريقية جنوب الصحراء الذين يدين أغلبهم بالمسيحية، وثانيهما تحول العديد من المغاربة عن الإسلام واعتناقهم للعقيدة المسيحية.