الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

حسن مخافي: عمى الألوان السياسية

حسن مخافي: عمى الألوان السياسية حسن مخافي

كل عمل سياسي هو إحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع. يبدأ بعدم الرضى عن أوضاع معينة، والتطلع إلى تجاوزها وينتهي بالعمل على تغييرها. يرافق ذلك التأكد من إمكانية امتلاك الكفاءة و"القدرة" على حشد التأييد لوجهة النظر المدافعة عن التغيير والبحث عن الآليات التي بواسطتها تتبلور وجهة النظر، كي تصبح موقفا جماعيا فبرنامجا سياسيا فواقعا ملموسا.

 

من هنا تغدو كل ممارسة للسياسة بالضرورة بديلا عن ممارسة أخرى، وكل حزب سياسي مختلفا عن غيره، وتصبح السياسة في جوهرها جدلية للهدم والبناء تمليها الطبيعة المتغيرة للمجتمع نفسه. ومن هذه الجدلية نفسها تستمد السياسة طابعها النقدي الذي يفرض المراجعة الدائمة للمواقف والممارسات.

 

هذا يعني أن السياسة في جوهرها هي موقف جماعي من "هنا" و"الآن"، يأخذ طابعا مؤسساتيا عندما يتحول إلى حزب سياسي يبشر بوضع جديد، يجسده برنامج مؤطر برؤية واضحة إلى الواقع والإنسان.

من الطبيعي أن كل رؤية مهما ادعت الاقتراب من "الواقع" فإنها لا تمتلك حق استبعاد الرؤى المخالفة لأنها لا تحتكر "الحقيقة". وحين يتعلق الأمر بالمجتمع الموسوم دوما بالتعدد والتنوع والتحول، فإنه لا مجال للحديث عن الحقيقة في المطلق، بل عن الرأي والرأي المخالف، اللذين ينتظمان في حوار سياسي ذي أبعاد فكرية، قد يفضي إلى توافق على أرضية مشتركة تنتج تعايشا من نوع ما.

 

على أن كل توافق نابع من التنازل عن المبادئ الكبرى للرؤية التي يحملها كل طرف من أطراف التوافق، يصبح تلفيقا عندما يتم على حساب المبادئ والمرجعيات الكبرى للأحزاب السياسية. إذاك تكف "السياسة" عن أن تصبح سياسة لتصبح تواطؤا بمعنى ما.

 

على ضوء ما سبق فإن المشهد السياسي الوطني بات يغيب وجهة النظر التي من المفروض أن تكون مبنية على خلفية فكرية لها معالم واضحة، لصالح "توافقات" تجهز في الكثير من الأحيان على الأسس والمبادئ التي تستمد منها الأحزاب شرعيتها.

 

وهكذا فإن التحالفات السياسية التي تحاك عقب كل انتخابات برلمانية لا تنبني على تقارب بين البرامج التي هي تجسيد حقيقي لوجهة النظر، بل على تقاطعات ظرفية قد يكون من الصعب استساغتها بالمقاييس السياسية المتعارف عليها. ينسحب هذا على الأحزاب المشكلة للحكومة، كما ينطبق على الأحزاب التي توجد خارجها.

 

صحيح أن أحزاب التحالف الحكومي تجلس قبل تشكيل الحكومة إلى بعضها، وقد تصوغ ما تعتبره "برنامجا حكوميا". ولكن هذا البرنامج نفسه يجرد بعضها من هويته التي اكتسبها عبر التاريخ ويجعل بعضها الآخر يتنازل عن "مرجعيته" التي حشد بها أصوات الناخبين.

 

إن "البرنامج" الذي تصاحبه في بداية كل الولاية برلمانية ضجة إعلامية كبيرة يصبح مثار تساؤلات  عن طبيعة "التحالف الحكومي". ذلك أن كل حزب من أحزاب "الأغلبية" التي تكون قيد التشكل يضرب صفحا عن برنامجه الخاص الذي من المفروض أنه يمثل ميثاقا سياسيا وأخلاقيا بينه وبين ناخبيه، ولن يعود له ذكر بمجرد أن يلتحق بالحكومة.

 

الذريعة التي تساق غالبا لتسويغ  التخلص من البرنامج الانتخابي والاندماج في ما يسمى "برنامجا حكوميا"، يتسم بحكم اختلاف مكوناته بالهجنة والجمع بين المتناقضات، هجنة تتمثل في أن كل واحد من الأطراف الموقعة عليه يزعم بأن برنامجه الخاص متضمن في حده الأدنى في برنامج الحكومة.

 

ولكن، كيف يذوب الاختلاف في وجهة النظر والتباعد في الرؤى بجرة قلم؟ هنا نصبح أمام عدة احتمالات أهونها أن الأحزاب السياسية تنسى برامجها بمجرد انتهاء الانتخابات، وأخطرها أن البرنامج الحكومي الذي وقع عليه زعماء الأحزاب تحت أضواء الكاميرات ليس سوى وثيقة للاستهلاك الإعلامي تنتهي صلاحيتها بمجرد التوقيع عليها.

 

أما الأحزاب التي توجد خارج الحكومة فإن وضعها لا يقل ضبابية وغموضا. ذلك أن إمكانية التوصل إلى صياغة "برنامج عمل" بديل عن "البرنامج الحكومي" تجتمع حوله، ظلت معدومة، لأنها أولا لم تختر أن تتموقع في المعارضة، ولأنها ثانيا محكومة بالتباعد المرجعي والمزايدات السياسوية. ومن هنا فإن عملها داخل البرلمان لا يتعدى "ردود أفعال" على تدبير الحكومة للشأن العام، الشيء الذي يحول دون أن تصبح قوة اقتراحية تلعب دورا فاعلا ونافذا في إغناء النقاش السياسي العمومي بما يوفر الشروط الضرورية  للتداول بمعناه الدقيق. وإذا حدث أن اجتمعت أحزاب المعارضة حول مسألة ما، فإن ذلك يشكل خطوة محتشمة وجزئية وظرفية لا تحمل في طياتها أي أفق للمستقبل المنظور.

 

إن ممارسة السياسة في ظل هذا المشهد الشبيه بعمى الألوان، الذي يطبعه التشتت ويعوزه المنطق في أغلب الأحيان، قد أربك المشهد السياسي وأضفى عليه غموضا كبيرا. وإذا كان من الصعب في بلد مثل المغرب أن نتحدث عن فرز سياسي بلونين فقط ، هما اليمين واليسار كما هو الشأن في الديموقراطيات العريقة، فإن اختلاط الحابل بالنابل يسمح لمكون من مكونات الحكومة بكيل النقد لأدائها، ويبيح لمكون من مكونات لمعارضة أن يصفق لعملها. كل هذا يضعنا أمام سؤال عن طبيعة الأحزاب السياسية وقدرتها على النهوض بدورها الدستوري، أما وظيفتها في الرقي بالوعي السياسي وبإنتاج النخب وتأطير المواطن، فهو مسألة تثير الكثير من الشجون، لأن فاقد الشيء لا يعطيه...