الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد السلام المساوي: إدريس الخوري.. مفرد بصيغة الجمع

عبد السلام المساوي: إدريس الخوري.. مفرد بصيغة الجمع عبد السلام المساوي

وفي البدء كانت الكلمة، كلمة اقرأ، كلمة أكتب، كلمة إدريس... قرأت وكتبت، كتبت وأبدعت؛ أنت مفرد بصيغة الجمع: أنت الكاتب والصحافي، القاص وصاحب المقالة، أنت الناقد والساخر، أنت المناضل والشجاع، أنت ولا أحد غيرك؛ أنت الثوري بمعنى القناعة والالتزام، أنت الحياة بروح الوجود... أنت اللحن والنغم ... أنت الكلمة... أنت إدريس الخوري والبقية تأثيث ...

كتب يونس مجاهد "رحل ادريس الخوري، أحد الكتاب والصحافيين المتميزين في تاريخ الكتابة والصحافة بالمغرب، تقاسمت معه المكتب بمقر جريدة الاتحاد الاشتراكي بالرباط، وجمعتنا علاقة طيبة.

كنت معجبا كثيرا بكتاباته وخاصة قدرته على أن يرى ما لا نراه نحن في حدث أو واقعة أو منظر، حيث كانت له قراءته المبدعة، بأسلوب السهل الممتنع.

ظل ادريس الخوري ملتزما ومتمسكا بأسلوبه العادي في الحياة إلى أن غادرنا، تاركا وراءه أوراقا تشهد أن أحد الأقلام الرفيعة والموهوبة مرت من هنا وتركت بصمتها القوية في مسار صحافة راقية وكتابة  عالية المستوى".

أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت...

المناضل الشرس... المروءة هي هي العنوان والشموخ سيد الميدان...

الآن ترحل... فجأة ترحل... هل تعبت؟! أنت طلقت التعب يوم ولدت... أنت لم تشك التعب أبدا... ترحل وتترك أهلك، إخوانك، أصدقاءك... تائهين حائرين... الصدمة كبيرة والفاجعة أكبر...

الرجال لا يموتون... العظماء لا يموتون... المبدعون لا يموتون... إدريس الخوري لا يموت ...

نعم لم تمت ولكن ساهمت في اقتلاع الموت من وطننا... ساهمت في إسماع صوت الإنسان... الحرية والإبداع... ساهمت في شق الطريق، توضيح الرؤية وبناء المسار...

لما نطقت.. لما بدأت الكلام؛ قلت "لا"... لا للاستغلال والمهانة...لا للذل والهوان...لا للقمع والاستبداد... لا للعار والخذلان... لا للنفاق والكتمان... لا للخيانة والنسيان... لا للجهل والخنوع... الكلمة رمز الوجود في البدء والختم... من هنا كتبت وأبدعت ...

قلت لا للموت... أمثالك لا يموتون... أحياء في الكلمة بل الكلمة حية بهم

ترحل بيولوجيا لتفرض حضورا أقوى... فأنت الحضور، بالأمس واليوم وغدا ...

وجودك كان له معنى... لم تأت إلى هذا العالم زائرا... لم تكن مؤقتا... بل أتيت فاعلا وخالدا... إنك مبدع... إنك مناضل... وطني أصيل... إنك إدريس الخوري ...

اعلم أنك اختفيت ولكنك لم تمت

هل نبكيك؟! وهل البكاء قادر على إطفاء النار التي اشتعل لهيبها في كياننا لحظة علمنا بخبر رحيلك عنا... لا... لن نبكيك لأنك لم تنته بل بدأت... كنت البداية دائما... ستستمر... ستخلد... ستستمر في كل من يؤمن بالكلمة... في كل من عرف أنك كنت تزرع الإبداع وتزرع الجمال... وتزرع حب الإنسان... تزرع حب الحياة ...

آه كم كنت تعشق الحياة وتعشق الليالي الضاحكات ...

اليوم يتعطل البكاء... لا نودعك ونبكيك، بل نقدر ونعتبر الخسارة الكبرى التي لحقت الابداع  ...

أعرف أنك قد اختفيت ولكنك لم تمت

نعم لم ولن تموت... تغنيت بالحياة... تغنيت بالحرية وعلمتها لنا أغنية حلوة وجميلة... سنحلم ونحلم.. وطني وطن الجميع... وطن الكرامة والعدالة ...

أعلم أنك اختفيت لكنك لم تمت

مسار مكتوب بالمعاناة والعشق... لكنه موشوم بالابتسامة والتفاؤل... كنت تعشق الكلمة... تعشق الحياة... إنك إدريس الخوري ...

أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم

كلمة واحدة في حقك أيها النبيل وأصير ملقحا ضد كل نزلات الخيانة والانحراف... فالرجل أنت والصدق فيك... والنبل ولد معك... إنك وطني مخلص... إنك مبدع أصيل...

أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت

"ما هموني غير رجال الا ضاعوا..." لا ثم مليون لا، الرجال لا يضيعون... الرجال لا يموتون ...

وأخيرا ترحل، ترحل عنا، ترحل فجأة... لن نبكيك... فأنت علمتنا الأمل والتفاؤل... علمتنا كيف نحيا... علمتنا الصمود والكبرياء لنعيش "منتصبي القامة مرفوعي الهامة "...

لقد حدث ما كان حتما سيحدث... وما كان مأمولا أن يتأخر حدوثه... حدث اليوم، أن إدريس الخوري، أفرغ آخر ما استطاع من نفس، ليسلم انفاس الإنسان العزيز لفضاءات التاريخ الرحبة والعطرة بأريج انبعاث النيات المخصبة لمشاتل ، تولد الشمس في مستقبل التاريخ....

أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تمت ...

الوطن يبكي ...

الكلمة تبكي...

الانسان يبكي...

عشاق الحياة يبكون عزيزهم... يبكون حبيبهم... يبكون رجلا رضع المروءة والكرامة في معبد الشجعان...

كان كريما ومات كريما...

كان مبدعا... أصيلا متأصلا...

السلام عليك يوم ولدت ...والسلام عليك يوم رحلت... والسلام عليك يوم تبعث حيا نظيفا...

ومات إدريس الخوري... وتيتمت الكلمة وتيتم الجمال...

كنت معنا دومًا وستظل معنا دائمًا.

لن نتركك تغادر، فأنت في بؤرة وجودنا.

لا أريد أن أتذكر،

لأنني لا أريد أن أنسى

ولا أريد أن أنسى

لأن الوجود أبقى

حتى في الغياب.

ادريس صنو وجود متعدد

وجود في الأعماق

وجود في الأماكن

وجود في الساحات

الضيقة والفسيحة

ادريس المبادرات التي كثيرًا ما أثارت فضول تساؤلات عميقة

هو وحده يملك كيمياء الربط بين الكلمة والجمال...

كما يراه

كما يتمناه

كما يعمل من أجله

بكل وقواه

وبين تلك المبادرات

الكثيرة في لحظات

حساسة من نضالنا

 المشترك

لن أقول وداعًا ادريس

لأنك لا تودع

أنت ترحب دومًا

أنت لا تودع أبدًا

أنت باق هنا الخوري

أنت في بؤرة وجودنا

جميعًا

في قلب كل رفيق

في قلب كل صديق

وفي قلب كل حبيب

أنت باق ادريس

كبيرًا

كما كنت كبيرًا

شهما كما كنت

مخلصًا كما كنت

ولم تبرح

أنت هنا

وأنت اليوم لم تفعل إلا أن حلقت إلى مثواك في البراري المزهرة لذاكرة الوطن، وهي التي تصون، برفق وفرح، حيوات أمثالك من مولدي التدفق في المجرى العظيم للأمل في أوصال وطن يقاوم الارتداد ويراوغ المطبات... ويمضي بهدوء وثبات وبعزم نحو الامتلاء بالكرامة لمواطنيه...

إدريس الخوري ممتد في المشترك المديد والعميق بيننا...

إدريس الخوري.. سيحفظ لك الوطن أنك كنت من أبنائه الأوفياء له، وقد بذلت من أجل تقدمه الكثير من الجهد بكفاءة إبداعية... لذلك لن تذهب بعيدا تحت التراب، لأنك ستذهب فوق التراب...

إدريس الخوري من مواليد مدينة الدار البيضاء، انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1968، عمل بجريدة المحرر ثم بجريدة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى أن تقاعد، فواصل كتاباته الصحفية، في مجموعة من الصحف الوطنية والعربية.

بدأ كاتبنا الراحل مشواره الأدبي، مثل صديقه الكاتب الراحل محمد زفزاف، شاعرا في مطلع الستينيات، لكن سرعان ما طلق الشعر، ليعانق فضاء الخاطرة وكتابة القصة والمقالة. عرف فقيد الإبداع المغربي، بحضوره الإبداعي الكبير، على مستوى كتابة القصة القصيرة تحديدا، التي ظل وفيا لها إلى أن توفاه الأجل، وله فيها عديد المجاميع القصصية الصادرة، منذ مجموعته القصصية الأولى "حزن في الرأس والقلب" (1973)، والتي عرفت طريقها إلى سلسلة "الأعمال القصصية الكاملة" في مجلدين اثنين، فضلا عن كتاباته الأخرى التي تندرج في إطار السرد الأدبي والنقدي والفني، وهي حول السينما والمسرح والتشكيل والرحلة والموسيقى والسياسة، جمعها إدريس الخوري في بعض كتبه المنشورة، من قبيل: "قريبا من النص.. بعيدا عنه"، و"كأس حياتي: كتابات في التشكيل"، و"فضاءات: انطباعات في المكان"، و"من شرفة العين"، و"التتياك السياسي"، وغيرها من الكتابات التي تزخر بها المكتبة المغربية اليوم...

هكذا، ظل كاتبنا الراحل قاصا وناثرا وكاتب مقالة من الطراز الرفيع، يتميز بأسلوبه الخاص في الكتابة وبلغته المميزة له، في التعبير والسرد وصوغ المفارقات الاجتماعية، ما جعل تجربته القصصية وكتاباته عموما، ذات نكهة ساحرة، بما تضمره من سخرية وصفية ونقدية مبدعة، بالنظر إلى كونها نابعه عنده من تراكم استثنائي في المعيش وفي التجربة الحياتية الذاتية.

وبوفاة الكاتب إدريس الخوري، يكون المغرب الإنساني والإبداعي والإعلامي، قد فقد إنسانا نادرا واستثنائيا، وكاتبا كبيرا، ومبدعا رفيعا وملتزما، وصديقا وفيا للشعب المغربي، بمختلف شرائحه الثقافية الاجتماعية، وأحد من خدموا الثقافة والصحافة والإبداع الأدبي المغربي، بشكل قل نظيره، على مدى عقود من الكتابة والإبداع والحضور والنضال والسفر والمغامرات وحب الحياة والنقاش والجدل والتضحيات...