لمتكد تخرج حكومة التحالف الثلاثي من عنق زجاجة أزمة جواز التلقيح، التي رفعت من منسوب الجدل وجرعات الاحتجاج، حتى دخلت في أزمة جديدة، حركت من جديد محركات الاحتجاج والاحتقان، بعد المستجدات التي أعلنت عنها وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، بخصوص مباراة الأطر النظامية للأكاديميات، المرتقب إجراؤها غضون شهر دجنبر المقبل، وهذه المستجدات "غير المسبوقة " كانت كافية لإخراج شرائح واسعة من الشاب العاطل من حاملي الشهادات، ومن الطلبة الجامعيين إلى الشوارع للاحتجاج، مطالبين بالتراجع الفوري عن الإجراءات الجديدة، وعلى رأسها إعادة النظر في السن المحدد لاجتياز المباراة (30 سنة )، بمبررات "تكافؤ الفرص" و"ضيق أفق التوظيف".
هذه المستجدات التي نزلت عبر بلاغ وزاري ومذكرات أكاديمية جهوية، لم تؤجج فقط جمرة الاحتقان الاجتماعي، بل أثارت نقاشات مجتمعية متعددة الزوايا حول مدى دستوريتها وقانونيتها، أخذا بعين الاعتبار ماورد في الوثيقة الدستورية التي نصت في الكثير من الفصول على المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص، وما ورد في بعض الأطر القانونية التي حددت السن الأقصى للتوظيف، ومنها على وجه التحديد ماورد في النظام الأساسي للأطر النظامية للأكاديميات الذي اشترط في بعض مواده "ألا يقل سن المترشح عن 18 سنة ولا يزيد عن 40 سنة، ويرفع الحد الأقصى لسن التوظيف إلى 45 سنة بالنسبة لفئة معينة من الأطر".
وإذا ما تركنا النقاش ربما غير المجدي في الشق الدستوري والقانوني، فالحكومة وتحديدا الوزارة الوصية على القطاع يبدو أنها ماضية في فرض ما أعلنت عنه من إجراءات وتدابير جديدة، غير مبالية بالأصوات المحتجة في الشوارع ولا بالفعاليات السياسية والبرلمانية والثقافية والأكاديمية الرافضة للقرارات الجديدة، ومبررها في ذلك، الرغبة في بلوغ وإدراك "النهضة التربوية" في ضوء مخرجات النموذج التنموي الجديد، وأهداف ومقاصد القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وإذا كانت هذه "النهضة التربوية" لا يمكن قطعا الاختلاف بشأنها، فبلوغها وإدراكها، لايمكن أن يبنى على المآسي الاجتماعية وعلى وأد الآمال والإجهاز على الأحلام، والإسهام في إشاعة ثقافة اليأس والإحباط وانسداد الأفق في أوساط أجيال صاعدة، يفترض أن تكون هدفا للنموذج التنموي المرتقب وغايته الكبرى.
وحتى إذا ما تم الإقرار بصواب ونجاعة ما تم تنزيله من مستجدات، فإن السؤال الحقيقي يبقى مرتبطا بمصير شرائح واسعة من المعطلين الذين تجاوزوا عتبة 30 سنة، ومصير عشرات الآلاف من الطلبة الذين يتابعون دراستهم الجامعية، بعد أن تقلصت فرصهم في ولوج قطاع تعليمي يعد الأكثرتشغيلا وامتصاصا للبطالة، مقارنة مع باقي القطاعات الوزارية، وعليه، فالنقاش الحقيقي اليوم، ليس فيما اتخذته الوزارة من تدابير وإجراءات صارمة ودقيقة بخصوص مباراة الولوج إلى مهن التدريس،بل في الحلول المقدمة أو التي يجب تقديمها، لتمكين الآلاف من العاطلين من حاملي الشهادات الجامعية من الحق في الشغل والحياة الكريمة، لأن الأكاديميات في جميع الحالات، ستشغل ما مجموعه 17 ألف من الأطر النظامية في دورة دجنبر 2021، في حين مصير الذين لم يوفقوا في النجاح النهائي في المباراة، يبقى معلقا إلى أجل غير مسمى، ويضاف إليهم الآلاف من حاملي الإجازة الأساسية وربما الماستر، الذين باتوا خارج المباراة بسبب عتبة "30 سنة".
حكومة التحالف الثلاثي التي وصفت بالحكومة الاجتماعية، لابد أن تدرك في هذا الوقت المبكر، أن قيمتها في بورصة المجتمع عرفت نوعا من التراجع، بسبب أزمة جواز التلقيح، وما يشهده التعليم من احتقان، دون إغفال الارتفاع المهول في الأسعار وتداعيات ذلك على مستوى المعيش اليومي للمواطن، وهي مطالبة بتصحيح المسار، عبر الوفاء بما طرحته في برنامجها الحكومي من وعود والتزامات، وأن تمضي قدما في إعطاء دينامية حقيقية للحـوارالاجتماعي بجدية ومسؤولية وتشاور والتــزام، بما يضمن النهوض بالأوضاع الاجتماعية والمادية للموظفين والأجراء، حرصا ليس فقط، على السلم والتماسك الاجتماعيين، بل والحفاظ على ثقة المواطنات والمواطنات، الذين كبر سقف آمالهم وانتظارتهم، وارتفع منسوب تطلعهم إلى تغيير حقيقي بعد عقد من الزمن تحت ضوء المصباح.
ثقة لايمكن قطعا كسبها، إلا بالانخراط في تنزيل قرارات مسؤولة من شأنها إحداث التغيير المشروع، القادرعلى تذويب جليد اليأس والإحباط وانسداد الأفق، وتعبيد طرق ومسالك الأمل والحياة، وإذا كانت المرحلة هي مرحلة تنمية بامتياز، في ضوء الرهان على تنزيل المشاريع المرتقبة ذات الصلة بالنموذج التنموي الجديد، بما يضمن المرور إلى مرحلة "المسؤولية" و"الإقلاع الشامل"، فهذا يفرض إنتاج سياسات عمومية خادمة للتنمية الشاملة، ومقوية لجرعات الأمل والتفاؤل في مختلف الأوساط المجتمعية خاصة الطبقة المتوسطة وما دونها، والرهان على تخليق الحياة العامة عبر تفعيل آليات محاربة الريع والفساد والمساس بالمال العام، والانكباب على تقديم "حلول مبتكرة" تقوي الإحساس بالتغيير، أما السياسات المنتجة للاحتجاج والاحتقان، أو المكرسة لمشاعر اليأس والغضب وفقدان الثقة وانسداد الأفق، فلا يمكن القبول بها، لأنها تعرقل الإصلاح وتشوش على الطموح المشروع في بلوغ التنمية الشاملة، وأخطر من هذا، تجعل الشوارع ملاذا آمنا للرافضين والقانطين واليائسين والمحبطين، بكل ما لذلك من آثار على السلم الاجتماعي وعلى النظام العام، على أمل أن تكون الحكومة الجديدة عند حسن الظن وفي مستوى الثقة والتطلعات، وإلا ما الفرق بين حاضر "الحمامة" وماضي "المصباح"...