الثلاثاء 23 إبريل 2024
سياسة

في الذكرى الأولى لتأمين معبر الكركرات.. الجزائر تأكل الطباشير وبوليساريو تمسح السبورة

في الذكرى الأولى لتأمين معبر الكركرات.. الجزائر تأكل الطباشير وبوليساريو تمسح السبورة خلق المغرب وضعا سياسيا وعسكريا جديدا بالمنطقة، جعله يؤمن الطريق الاستراتيجي نحو عمقه في غرب إفريقيا

من لم يفهم سياق تحولات التاريخ اليوم، عليه انتظار عام الفيل ليستوعب الدروس الابتدائية لسرعة التحولات الجارفة التي تجري تحت أقدام الدول والممالك اليوم، فالأحداث العميقة لمركبة التاريخ تنبئ بأننا على عتبة حقبة جديدة، لقد سرع وباء كورونا عجلة العديد من الوقائع، حتى قبل بروز الجائحة، ومنذ أزمة 2008 على المستوى الاقتصادي العالمي، كانت هناك معطيات بدأت تطل بعنقها على سطح العالم، خرائط وجغرافيات تتعرض للزحزحة التكتونية، انكسار طبقات هنا وهناك، بداية أفول هنا وبداية صعود نجوم جديدة هناك، إننا نحس اليوم ذات الأمر الذي تنبأ به الباحث المستقبلي الأمريكي هاري جونستون: "اذا كنا قد شهدنا، باحتفالية صاخبة، نهاية التاريخ، فعلينا الآن أن نعد لقداس جنائزي آخر: إن الجغرافيات تدنو من النهاية".

ما حدث يوم 13 نونبر 2020 في معبر الكركرات، الذي جعل المغرب يقطع المنفذ البحري عن أحلام جبهة بوليساريو، ويمدد الجدار الأمني العازل حتى المحيط الأطلسي وفرض واقع جديد في مواقع الصراع الذي وصل حد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، قلب معطيات الوضع الاستراتيجي، وانتقل الصراع من مناقشات التفاصيل في موائد المفاوضات المستديرة بين الجبهة والمملكة لتحقيق مكاسب جديدة إلى فرض واقع جديد بالمنطقة جعل المغرب يطالب بباقي شركائه الحذو اتجاه الخطوة الأمريكية والتأكيد على ألا شراكة مع المغرب إلا عبر القبول بامتداده الجغرافي الطبيعي في الصحراء حتى الكركرات، فيما أضحى كل هم خصوم الوحدة الترابية للمملكة يبحثون عن محاولة إرجاع عداد الوقائع إلى ما كان عليه الوضع قبل 13 نونبر 2020، لقد أحرز المغرب نقطة تقدم إستراتيجية، حتى التراجع عنها أصبح صعبا ويقتضي تنازلات كبرى من الطرف الآخر، الذي لا يملك سوى العودة إلى تندوف بدل الانتشار في المناطق العازلة التي أضحت حسب قيادة جبهة بوليساريو محررة، لقد منح التخبط الجزائري المغرب ورقة رابحة، كان قد مهد لها في 11 غشت 2016، وترك خط الرجعة مفتوحا بعد عملية تأمين موقعه ومد خط الطريق نحو باقي الدول الإفريقية في الجنوب الغربي من القارة السمراء، لمنحه جبهة بوليساريو بفتوى من القيادة العسكرية الجزائرية بشكل مجاني فرصة ذهبية لإقرار واقع جديد بالمنطقة.

 

النخبة العسكرية الجزائرية وحكاية الإمبراطور العاري

تفيد التحولات الجارية على أرض الواقع أن العديد من اليقينيات أخذت تتعرض لمعاول الهدم أو التشكيك على كافة المستويات، وحدها النخبة العسكرية الحاكمة بالجزائر وقيادة جبهة بوليساريو، تبدو مطمئنة لقناعاتها المستجلبة من زمن الحرب الباردة البائد، بدل رؤية الوقائع بعين فاحصة، ولعمري يذكرني هذا بحكاية الإمبراطور العاري، حيث تقول الحكاية إن خياطين نصبوا على إمبراطور بادعائهما القدرة على نسج ملابس من لا يراها يعتبر ابنا غير شرعي كما في الحكاية المغربية أو منافقا ومختلسا حسب الحكاية الغربية، وليختبر الإمبراطور حاشيته، أرسل كبير وزرائه إلى الخياطين، الذين حين دخل عليهما الوزير لم يجد لا حياكة ولا ثوبا، لكنه خشي أن يصرح بأنه لا يرى ثوبا فيُتهم في ذمته، ويعرض نفسه للعقاب، فأخذ يثني على اللباس غير المرئي ويعتبره قمة في الإبداع، وهو ما راق للإمبراطور الذي أوصى الخياطين الأفاكين بصنع ثياب جديدة له، من لا يراها يعتبر مشبوها، وكذلك كان تعرى الملك وتظاهر الخياطان النصابان بأنهما يلبسانه أثوابه الجديدة، وخرج في موكبه على الناس، الكل من حاشيته ومن الجمهور كان يثني على الثياب الجديدة للإمبراطور العاري ويباركون له في انبهار، إلا رجل لم يكن له ما يخسره، فصدح بالحقيقة: "إن الإمبراطور عاري وبلا ملابس"، فتجلت الحقيقة للكل الذي أصبح يتحدث عن الإمبراطور العاري مثل دودة، فرغم الضغوط التي عاشتها الجزائر بسبب رئيس مشلول كان يطمح لعهدة خامسة، وحراك شعبي جعل الجزائر تنطوي على نفسها لمعالجة مشاكلها الداخلية، مقابل انتقال الجار الغربي من وضعية الدفاع إلى إستراتيجية الهجوم، حتى بدأت تتساقط الكثير من الأقنعة مثل أوراق التوت، ومع ذلك تستمر النخبة العسكرية الحاكمة في إقناع نفسها بأنها ترتدي ملابس أنيقة، حتى وهي عارية تماما.

 

ملحمة الكركرات تخلق وضعا جديدا بالمنطقة

يوم 13 نونبر تحل الذكرى الأولى لما حدث في معبر الكركرات في خريف العام الماضي، بتأمل ما حدث خلال سنة من تأمين المغرب للمعبر الحدودي الذي يقع على بعد 12 كيلومترا من الحدود الموريتانية، من إعلان جبهة بوليساريو عن تحللها من معاهدة 1991 لوقف إطلاق النار وحدوث مناوشات جزئية تم تصويرها كما لو أنها عمليات حربية على الخطوط العازلة في بعض المقاطع من الجدار الأمني المغربي العازل، ولجوء الجزائر إلى التصعيد الذي وصل حد قطع علاقتها الدبلوماسية مع المغرب من طرف واحد ومنع الطائرات المدنية والعسكرية من عبور الأجواء الجزائرية حتى سحب نفسها من الحضور من مائدة المفاوضات التي تشرف عليها الأمم المتحدة في قضية النزاع المفتعل الذي طال أمده في المنطقة، واعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على كافة أقاليمه الصحراوية، وما كرسته المملكة من مكاسب في معركة السفارات والقنصليات الدبلوماسية بعاصمتي الصحراء المغربية، العيون والداخلة.. سنة من التحولات كشفت أن ما حدث في الكركرات دفع العسكر الحاكم في الجزائر إلى سياسة الهروب إلى الأمام بخطوات تعتبر في التدبير الاستراتيجي، ردود فعل على إحساس بالهزيمة عبر محاولة تصعيد الخطاب الدبلوماسي وحشوه بالتهديد العسكري عبر خلق معارك صغرى فيما يشبه إعداد حطب النار التي امتلك المغرب حد الساعة الكثير من الحكمة في عدم تمكين الجزائر من بغيتها في خلق ضربة المروحة وإن اختلف السياق المغربي عما كانت عليه الجزائر اتجاه فرنسا عام 1830.. لذلك فالنخبة العسكرية في الجزائر تأكل الطباشير فيما تقوم جبهة البوليساريو بمسح السبورة ببيانات عسكرية في حرب لم تقم منذ انتصاب الجدار الأمني في الصحراء.

 

حدث معبر الكركرات في ذكرى عامه الأول

لم يعد اليوم ممكنا خلق مرويات جديدة وتأليف حكايات خارج ما تم إرساؤه على أرض الواقع يوم الجمعة 13 نونبر 2020 في معبر الكركرات، من جهة لم يعد لبوليساريو أي منفذ نحو المحيط الأطلسي بعد بناء الجدار الأخير بهندسة عسكرية متطورة،، لقد تم القطع مع منفذ عبور عناصر بوليساريو نحو المحيط الأطلسي، كما أنه لم يعد لتجار المخدرات وعصابات الجريمة المنظمة مجالا خصبا للعب، وهذا أثر على الموقف الموريتاني الذي وجد نفسه أمام تفضيل خيار جار هادئ وآمن يضمن استقرار وصول المواد الغذائية والسلع والبضائع، بدل تكلفة عبور عناصر مسلحة من جبهة بوليساريو.

كانت إستراتيجية شنقريحة هي فتح جبهة جديدة في قلب الجنوب من خلال معبر الكركرات الإستراتيجي الذي يربط المغرب بعمقه الإفريقي، وتوسيع مساحة ما تدعي بوليساريو أنه مناطق محررة، ثلاثة أسابيع من الاستعراض والاستفزاز بمعبر الكركرات، اتسم المغرب بضبط نفس غير متوقع، من جهة وضعت حكمة الرباط وعدم سقوطها في ردود أفعال سريعة وغير مدروسة، جبهة بوليساريو في مأزق دولي، جلب عليها سخط العالم بما فيها الأمم المتحدة، ومن جهة أخرى سمحت لصناع القرار بالمملكة باستكمال بناء خطة دقيقة بناء على استجماع معلومات استخباراتية وحشد دعم دولي، فكانت ضربة المكنسة في 13 نونبر 2020.

في صباح الجمعة 13 نونبر من السنة الماضية، أقامت القوات المسلحة الملكية طوقًا أمنيًا عند المركز الحدودي للكركرات، "هذه العملية غير الهجومية وبدون أي نية قتالية تتم وفقًا لقواعد اشتباك واضحة تتطلب تجنب أي اتصال مع المدنيين واللجوء إلى استخدام السلاح فقط للدفاع عن النفس"، يوضح البلاغ الوحيد الصادر عن القوات المسلحة الملكية.
الأمر كان أشبه بنزهة عسكرية للجيش المغربي، في 25 دقيقة بالضبط تم كل شيء، فوجئت عناصر بوليساريو ولم يكن أمامها سوى الفرار. بعد أن أشعلت النار في الخيام التي أقيمت على بعد كيلومترين ونصف جنوب المركز الحدودي المغربي.

هذا يبرز أن الأجهزة الاستخباراتية المغربية كانت على علم بتطور خطة بوليساريو التي أشرف على وضعها مجاهد وشنقريحة رفقة رجلهم في المكتب الاستخباراتي لبوليساريو، لذلك كان تدخل القوات المسلحة الملكية مفاجئأ لمن كان يوزع بيادق لعبة الشطرنج من الجهة الأخرى، وزاد الدعم الدولي والثقل العربي من عزلة الجزائر التي جاء بيانها مرتبكا، يدعو "أطراف" النزاع لضبط النفس وعدم خرق اتفاق إطلاق النار.. أكثر من ستين دولة وازنة ثمنت بشكل صريح التدخل المغربي بالكركرات، وحتى تصريح الخارجية الروسية على لسان ثعلبها سيرجي لافروف ذي الوزن الدبلوماسي الكبير.. لم يغضب الرباط ولم يرض الجزائر أثناء حديثه عن وجود تشابه في وجهات النظر بين موسكو والجزائر، أي أنه لم يكن هناك تطابق في الرؤى وهو ما يبرز تحولا نوعيا في موقف روسيا بعد نجاعة الدبلوماسية المغربية التي انفتحت على الحليف التقليدي للجزائر منذ الحرب الباردة، فكان بين الخارجيتين المغربية والروسية أشبه بنسخ التأويل الجزائري لتصريحات سفير روسيا بها، بل إن جنوب إفريقيا ذاتها لم تزد في بيان خارجيتها -على غير المعتاد- عن دعوة الأطراف إلى ضبط النفس.. هل هناك عزلة دولية أقوى من هذه التي دخلتها الجزائر بشكل غير مسبوق.

 

الكركرات أكبر من نقطة عبور

تم الرهان على المعبر الحدودي الكركرات منذ مدة غير يسيرة في الصراع بالمنطقة، لأنه مفتاح تقاطع الطرق وممر تجاري دولي يربط القارة الإفريقية بالقارة الأوربية، وهو الامتداد الغربي البري لكل منتجات المغرب نحو موريتانيا وباقي غرب دول الساحل، لذلك لم يتحرك المغرب حين احتلت جبهة بوليساريو المنطقة العازلة بتيفاريتي، رغم أنها تدخل ضمن المناطق الخمس التي سلمها لبعثة المينورسو بموجب اتفاق إطلاق النار عام 1991، وأقامت عليها الجبهة منشآت إدارية وعقدت على أرضها مؤتمرها، وأخذت تروج لمفهوم المناطق المحررة.. لكن لماذا تحرك المغرب لتأمين المعبر الحدودي للكركرات؟

لنذكر أن الرباط سبق أن نشرت في غشت 2016 فريقا من الأمنيين وعمالا لبناء طريق على شريط ضيق في معبر الكركرات، الذي أصبح معروفا بقندهار، بالقرب من الحدود المغربية مع موريتانيا، بمبرر مكافحة الجريمة المنظمة.. فاتهمت بوليساريو المغرب على الفور بانتهاك وقف إطلاق النار بإدخال أفراد مسلحين إلى المناطق العازلة، ونشرت جنودا بدورها على نفس الممر الحدودي.. لم تكن المسافة الفاصلة بين مليشيات بوليساريو والقوات المغربية تتعدى 100 متر.

وفي نهاية فبراير2017 أمر الملك محمد السادس القوات المسلحة الملكية بالانسحاب الأحادي من معبر الكركرات، خطوة اعتبرت إشارة عن حسن نية اتجاه المنتظم الدولي خاصة مساعي الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريتس وهو على أهبة تقديم تقريره لمجلس الأمن الدولي، كان تكتيكا ذكيا حسب العديد من المراقبين، من جهة لأن المغرب أرسى واقعا جديدا من خلال توطيد وتوسيع طريق رئيسي نحو موريتانيا ومنها إلى باقي الدول الإفريقية، وأعطى أيضا إشارة للاتحاد الإفريقي الذي عاد المغرب إلى أحضانه، لقد حققت المملكة أهدافها في ظرف وجيز، وانسحبت لكن منجزها على أرض الواقع ظل قائما.. أضحت الكركرات أكثر من معبر، إنها موقع استراتيجي والمتحكم فيه يلعب بأوراق اقتصادية وسياسية وعسكرية في المنطقة.. ولهذا السبب نفهم كل أشكال التصعيد الجزائري اليوم ضد المغرب الذي يشبه الدعوة المفتوحة إلى حرب عسكرية مع المملكة.

كان هناك مخطط مدروس بدقة هدفه خنق المغرب وعزله في الجنوب، كان سيتم الدفع بصحراويين مدنيين نحو المعبر الحدودي بالكركرات على دفعات، ونصب الخيام والاعتصام على طول المنطقة العازلة، وكما حدث في مخيم اكديم إزيك، يتم حمل مدنيين في شاحنات عسكرية وحافلات جزائرية وقطع مسافة ألف كيلومتر بخيامهم ومؤنهم، حتى يحولوا ما وقع في تندوف في منتصف السبعينيات إلى واقع جديد اليوم بالكركرات، حيث تسيطر بوليساريو على المنطقة وتؤسس بها قواعد جديدة وملحقات إدارية، وتعلن عن إقامة الدولة الصحراوية على كامل المنطقة المعزولة وتضع المغرب والمنتظم الدولي أمام معطى جديد وواقع إنساني وسياسي غير مسبوق، إنه الحلم الجزائري للوصول إلى منفذ بحري على المحيط الأطلسي، من جهة سيتخلص العسكر الجزائري من ثقل مخيمات لحمادة التي لن يستمر الجزائريون في تحمل أعبائها وتكلفتها إلى الأبد، وليس مفاجئا أن يحدث ذلك بتزامن مع الذكرى العاشرة للمخيم السيئ الذكر.. لكن ضربة 13 نونبر السنة الماضية، كانت أشبه بعملية جراحية بسيطة سريعة وغير متوقعة وتمت بسرية تامة دون إسالة قطرة دم واحدة، قلبت المعادلة وخلقت شروطا جديدة على الميدان بالمنطقة ذات الموقع الجيو استراتيجي الحيوي.

لقد خلق المغرب وضعا سياسيا وعسكريا جديدا بالمنطقة، جعله يؤمن الطريق الاستراتيجي نحو عمقه في غرب إفريقيا، لتتركز مطالب منازعيه في العودة إلى ما قبل 13 نونبر الماضي، وبحكم أن بوليساريو ظلت تلعب في المناطق المعزولة التي أصبحت تعتبرها مناطق محررة، فإن أي نقاش حول الوضع السابق سيمنح المغرب قوة تفاوضية وأوراقا لعب جديدة في رقعة الشطرنج التي غير معطياتها ميدانيا.