الخميس 18 إبريل 2024
خارج الحدود

رصدها أبو وائل.. كيف مرغ ماكرون سمعة فرنسا في الوحل

رصدها أبو وائل.. كيف مرغ ماكرون سمعة فرنسا في الوحل الرئيس الفرنسي إيمانييل ماكرون

في بوحه الأسبوعي بموقع "شوف تيفي" يتعرض أبو وائل الريفي للانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تفصلنا عنها سبعة أشهر؛ مشيرا إلى أن ما يميز هذه الانتخابات هو سياقها الجديد الذي يتسم بخاصية داخلية وأخرى خارجية سيكون لهما أثر كبير في ما ستفرزه صناديق الاقتراع والدور الفرنسي إقليميا ودوليا مستقبلا.. معتبرا أن كل الرهانات الاستراتيجية لفرنسا كانت خاطئة، وتقديراتُها في العديد من الملفات كانت ضد مصالحها ولم تسهم إلا في توتير علاقاتها مع أصدقائها..

 

لم تعد تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية سوى سبعة أشهر لمعرفة الساكن الجديد في قصر الإليزيه، وبعدها تكتمل الخارطة السياسية بالانتخابات التشريعية بعد شهرين تقريبا. كالعادة، انطلق الصراع الانتخابي مبكرا وبدأت الحمى تتصاعد بين مختلف الفرقاء.

 

ما يميز الانتخابات القادمة هو سياقها الجديد الذي يتسم بخاصية داخلية وأخرى خارجية سيكون لهما أثر كبير في ما ستفرزه صناديق الاقتراع والدور الفرنسي إقليميا ودوليا مستقبلا.

 

تتمثل الخاصية الخارجية في تراجع الدور الفرنسي دوليا، سيما في مناطق محسوبة تاريخيا على النفوذ الفرنسي، كما تتمثل في الضربات المتتالية التي تتلقاها الدبلوماسية الفرنسية والمنظومة الدفاعية من المحسوبين في خانة أصدقائها، وخير مثال الصفعة التي تلقتها فرنسا بعد إلغاء أستراليا لصفقة شراء غواصات فرنسية لفائدة صفقة مماثلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإلغاء سويسرا لصفقة شراء الرافال الفرنسية وتعويضها بمقاتلات إف35، وطريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بشكل أحادي دون إخطار أو تشاور أو إشراك للفرنسيين وغيرهم من الحلفاء الأوربيين. ويزداد الحنق الفرنسي حين يضعف التضامن الأوربي معها كما يحدث هذه الأيام، حيث تشعر فرنسا بالعزلة وفشل رهانها على هذا الاتحاد الأوروبي.

 

لقد بدأ ماكرون ولايته الانتخابية بالدعوة إلى تأسيس جيش أوروبي موحد معتبرا حينها أنه يتوجب على الأوروبيين الدفاع عن أنفسهم في مواجهة روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة. وأعلن ماكرون عدم رضاه عن حلف الناتو وسياساته أكثر من مرة بسبب الانفراد الأمريكي بقيادة هذا الحلف وتعاملها مع حلفائها الأوربيين بمنطق التابع وليس الحليف، وقد عبر عن ذلك ماكرون بصراحة ومضض في بداية ولايته وهو على متن حاملة الطائرات شارل ديغول ردا على تغريدات لترامب انتقد فيها فرنسا وذكرها بهزيمتها أمام ألمانيا. حينها قال ماكرون بأن “العلاقة بين حليفين يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل وفرنسا حليفة للولايات المتحدة لا تابعة لها”. فماذا تحقق من حلم ماكرون ونحن على مشارف نهاية ولايته؟

 

أخطأت فرنسا التقدير حين فهمت بأن السياسة الأمريكية تجاه أوربا ظرفية ومرتبطة بمزاجية ترامب ونسيت أن تحولات دولية كبيرة يشهدها العالم قد تعصف بمجموعة من التحالفات خدمة لمصالح كل دولة على حدة بغض النظر عن الحزب الحاكم فيها، ومما سرع هذه التحولات جائحة كورونا التي جعلت كل دولة تفكر في مصالحها أولا. لذلك، فحلف الناتو صار من الماضي وينتمي إلى زمن الحرب الباردة ولن يكون له دور جماعي فعال ما لم يولد حلف مضاد كما كان الشأن مع حلف وارسو، ودون ذلك سيبقى رهن إشارة أمريكا وليس غيرها. على هذا المستوى من العلاقات بين الدول الكبرى، تراكم فرنسا الإخفاقات وتخسر مكانتها وسط حلفائها وتفشل جهودها في ريادة أوربا التي تتفكك يوما بعد آخر لأن اتحادها قام أساسا على الاقتصاد والدبلوماسية بينما بقيت قضايا أمنها ودفاعها تحت رحمة أمريكا. ولم يحصد الاتحاد الأوربي اقتصاديا غير الفشل وأصبحت دوله تشعر بعبء تحمل خسائر اقتصادات دول أعضاء بدون فائدة، وحتى الوجود الدبلوماسي للاتحاد الأوربي يتراجع بسبب تضارب مصالح دوله في العديد من القضايا والمناطق.

 

للأسف، كل الرهانات الاستراتيجية لفرنسا كانت خاطئة، وتقديراتُها في العديد من الملفات كانت ضد مصالحها ولم تسهم إلا في توتير علاقاتها مع أصدقائها مثل أمريكا. وخير مثال مشاركة ماكرون في مؤتمر “التعاون والشراكة” الإقليمي ببغداد، والذي قدمت من خلاله فرنسا رسالة سيئة بأنها تبحث عن ملء فراغ الانسحاب الأمريكي من العراق ولعب دور أساسي في المنطقة منافس لأمريكا وضاغط على تركيا وقريب من إيران لتعويض فشلها في ليبيا وسوريا ولبنان.

 

وفي مقابل هذا التراجع، يلاحظ كذلك خسارة فرنسا لمناطق نفوذها التاريخية في إفريقيا وتخليها عن أصدقائها. وخير مثال ما عبر عنه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة رئيس وزراء مالي شوغيل كوكالا مايغا، حين قال بأن فرنسا تخلت عن مالي في منتصف الطريق حين سحبت قواتها بشكل أحادي مما اضطرها إلى البحث عن شركاء آخرين مثل روسيا. هذا مثال آخر على سوء تقديرات فرنسا في المنطقة، وهو ما تستفيد منه قوى تبحث لها عن موقع قدم في إفريقيا مثل الصين وروسيا وتركيا وإسرائيل وأمريكا. هل كان صوابا إقدام فرنسا على إنهاء “عملية برخان” وتعويضها بتحالف دولي يضم دول المنطقة وأوروبا؟ هل القرارات الخاصة بهذه الملفات تخضع فقط لحسابات الكلفة المالية؟ هل مراهنة فرنسا على تدخل جزائري في مالي كان خاطئا؟ وحدها الأيام القادمة ستوضح عدم رضى الفرنسيين، قبل غيرهم، عن هذا التدبير الذي يمرغ سمعة فرنسا في الوحل، ويضعف قوتها أمام شركائها في حلف الناتو والاتحاد الأوربي. ووحدهم الفرنسيون سيتأسفون على زمن الساسة الكبار الذين حافظوا على مكانتها ورمزيتها وكانوا يستحضرون رموز قوتها ويحسنون توظيف تنوعها ويقدرون قيمة مهاجريها ودورهم في بناء فرنسا ما بعد الحرب العالمية، أو فرنسا الجمهورية الخامسة.

 

لم يعد حلفاء فرنسا التقليديون يطمئنون لمصداقيتها بسبب إصرارها على منطق التبعية الاستعمارية لرغباتها، ولأنها تمارس عليهم نفس ما تشتكي منه في علاقتها مع أمريكا، ولأنها لا تحترم مبدأ الندية في الشراكة التي تحترم سيادة باقي الدول، وبدأ مسلسل هجرة منظمة الفرنكفونية يتسع وتعويضه بالانضمام لمنظمة الكومنولث مع ما يتبع ذلك من ضرب للغة الفرنسية والثقافة الفرنسية والارتباط بالاقتصاد الفرنسي. وسيزداد هذا الانضمام انتشارا بعد النجاح الذي عرفته دولة مثل رواندا في ظرف عقد من الزمن فقط. لا تعي فرنسا أن عنصر قوتها لا يقتصر فقط على إمكاناتها الذاتية بل يكمن خارجها أساسا.

 

الخاصية الداخلية التي تؤطر سباق الانتخابات الفرنسية هي وصول موجة التطرف اليميني ذروته وبلوغه درجة التأثير على التيارات الفرنسية التقليدية التي صارت بدورها مقتنعة بركوب موجة معاداة الهجرة والضرب في كل اتجاه لإذكاء شعبوية سيتضرر منها الجميع. سبق لأبي وائل أن تنبأ بأن فرنسا قد تشهد قريبا حكم اليمين المتطرف، واستطلاعات الرأي تبرز تصاعدا في نسبة شعبية مرشحي هذا اليمين بصورة سريعة ومزعجة. قد يبدو الأمر عاديا في ظل تصاعد هذه الموجة في دول كثيرة في أوربا، ولكن غير العادي أن تصيب هذه العدوى باقي التيارات فتلجأ للعب بالنار. وغير العادي أن يتعامل الإعلام الفرنسي معها باحتشام في دولة تدعي أنها دولة الأنوار ومهد ثقافة حقوق الإنسان ودولة المساواة والإخاء والحرية.

 

لذلك، كان غريبا قرار فرنسا وسط هذا الأسبوع بتشديد شروط منح التأشيرات وتخفيض نصيب دول مغاربية منها بمبررات واهية وغير منطقية تخفي الخلفيات السياسوية والحسابات الانتخابية التي بات اليمين المتطرف يفرضها في السباق الانتخابي على الجميع. كيف تريد فرنسا التدخل في سيادة دول لتفرض عليها تعاملا تفضيليا حول شروط قبول مهجرين قسرا بدون توفر شروط استقبالهم؟ لماذا تريد فرنسا من المغرب قبول مهجرين بدون إجراء اختبار الكشف عن فيروس كورونا؟ لماذا لا تستحضر فرنسا هنا مبدأ التعامل بالمثل المعمول به في العلاقات الثنائية بين الدول؟ لماذا تريد فرنسا الحفاظ على سمعتها حقوقيا بعدم إجبار المهجرين على الخضوع لهذا الاختبار بسبب طابعه الاختياري وتجبر دولا أخرى على إخضاعهم لذلك في ترابها بعد دخولهم؟ أليس هذا هو ما استنكرته فرنسا على أمريكا حين تتحدث عن علاقة حليفين وليس تابع ومتبوع؟ ألا يعتبر هذا القرار تصديرا لأزمة داخلية فرنسية إلى دول أخرى؟ ألا تعزز مثل هذه القرارات الأحادية فرضية اعتبار فرنسا للدول المغاربية دركيا للحدود وكلاب حراسة تتولى تدبير مشاكلها الداخلية بالنيابة عنها؟

 

لن يقود هذا التجاوب مع المنطق الانتخابي لليمين المتطرف فرنسا إلا إلى مزيد من التهميش والعزلة لأن منتهاه غير واضح ولا يمكن التحكم فيه. وقد وعدت مارين لوبن بإجراء تعديل دستوري يكرس أولوية التشريعات الفرنسية على التشريعات الأوربية في حالة فوزها. فما تأثير هذا المقترح على مكانة فرنسا وريادتها أوربيا؟

 

وعود اليمين المتطرف في فرنسا تمس إرادة العيش المشترك في فرنسا وتهدم النسيج المجتمعي الفرنسي المتنوع وتقر بمواطنة بدرجات وتشيطن المهاجرين وتحملهم إخفاقات النخبة الفرنسية الحاكمة لعقود وتغرق البلاد في شعبوية وشعبوية مضادة سيتضرر منها كل الفرنسيين وكل فرنسا. والأكيد أن استغراق النقاش العمومي فيها لن يوصل فرنسا إلى حل مشاكلها وتجاوز عثراتها لأن التشخيص خاطئ من أساسه.

على فرنسا أن تعي أن الزمن غير الزمن، وأن العلاقة مع الشركاء لا تكون بمنطق الإملاء والابتزاز والضغط، وأن الخيارات أمام كل الدول صارت متعددة، وأن قوتها مستقبلا لن تظهر إلا في نجاحها في التخلص الذاتي من مشاكلها وليس تصديرها إلى دول أخرى.

لا يسع أبو وائل، وهو يتابع مثل هذه القرارات التي تستهدف الدول المغاربية مجتمعة إلا التأسف على حالة الشتات التي تسود هذا الاتحاد الذي كان يمكن لفرنسا أن تعمل له حسابا لو كان في أفضل حالاته. للأسف، الغباء الاستراتيجي لحكام الجزائر لا يعي أن مثل هذه القرارات ليست إلا مقدمة وأن تصاعد هذه الموجة لن يعود بخير على دول الاتحاد المغاربي المطلوب منها أن تكون متنفسا لأزمات فرنسا الداخلية وتؤدي فاتورة فشلها وتراجع وجودها دوليا.

 

(عن موقع "شوف تيفي")