الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: المرض القاتل أوأنطولوجيا الموت المباغث

عبد الإلاه حبيبي: المرض القاتل أوأنطولوجيا الموت المباغث عبد الإلاه حبيبي
لعل من أفضال الحياة على الإنسان أن ينعم بصحة جيدة، ويرفل في نعيم السلامة البدينة والنفسية وهو معافى لا يشكو من أي ألم في جسده أو اختلال في إحدى وظائف أعضائه... هي نعمة قد لا يسعفنا الوقت لنتوقف عندها قصد تشريحها بأسئلة الغيب والشهادة حتى نكشف عما تخفيه من منافع وأسرار قلما ينتبه إليها من يجهل قيمتها، بل وندرتها في الأزمنة الحالية...
العادة تنهكنا، والألفة تغمر كل وعينا، حيث حينما يفاجئنا حدث ما، فاجعة مثلا، أو مرض غامض، أو موت أحد الأقارب أو الأصدقاء، نصاب بالدوار، بل قد تشل كل إرادتنا ونصبح غير قادرين على فهم ما جرى وما حدث...
صدمة الموت أو الغياب أو الدمار المفاجئ، أو أي حدث يخلخل العادة المألوفة أمر يكشف حقيقتنا، يزيل النقاب عن هشاشتنا، يضعنا أمام حقيقتنا ككائنات بشرية لا تقوى على تحمل الألم العظيم، فأحرى أن تجد نفسها فجأة في مواجهة مباشرة مع الموت...
ليس في الموت ما يعجب الناس، لأنه ظاهرة تنسف الحياة وتخلق المعاناة، وقد تسبب مأساة مدى الحياة حينما يكون المتوفى هو المعيل الوحيد أو المعيلة الواحدة لأسرة بكاملها... لهذا يخشى الناس الموت، ويتطيرون منها حتى ولو أدركوا في قرارة أنفسهم أنهم ملاقوه في موعد معلوم في السماء، لكنه مجهول في الأرض... لهذا سيظل الموت يقض مضجع البشرية مهما بلغت من تطور ورقي في كل المجالات وخاصة في ميادين الطب والعلاج والتكنولوجية التشخيصية التي تستعمل أدق المعدات في رؤية أبعد اختلال في الأعضاء الباطنية أو في غيرها من الخلايا والأنسجة والدورة الدموية والدماغ وكل مكونات الجسد البشري..
الموت حاضر في كل دورات الحياة والمحطات و التحولات، لأنه سقوط طبيعي لكل الكائنات الحية خلال مسارها الحيوي وهي تسعى نحو الاكتمال والتطور والنضج... لكن رغم ذلك يظل الموت سؤالا محيِّرا، غريبا رغم أنه موجود منذ بداية الخليقة ومستمر معها إلى الأبد...
ها نحن نعيش في خضم الموت، ولا نملك حلا لتفاديه، إنه يتربص بنا، يستعمل فيروسا أو فيروسات لقتلنا، لإزاحتنا من الحياة، إنه في لحظة احتفال بذاته، ينتشي وهو يبسط سلطانه، لا يخبر أحدا بفرائسه، بل يتسرب إلى الأجساد الطرية، بعدما ملأ جوفه بالأجساد الشائخة، يلتقط في طريقه أناس أصحاء، يكنسهم، ويستمر في غزواته دون أن يتمكن العلم ولا الطب ولا كل سلطات العالم من إيقاف زحفه على العالم، إنه حر طليق يفعل بالأجساد ما يشاء، لهذا فهو سلطان في أزمنة الحروب والأوبئة والمجاعات والكوارث...
ليس الأمر جديدا، ولا استثنائيا، يكفي أن نقرأ التاريخ لنرى كم دك الموت من البشر وانتشى بأجسادهم خلال مراحل رهيبة من تاريخ البشرية الغارق في الحروب والأمراض والكوارث الطبيعية... لكن الجديد هو أننا لم نتعود أن نموت كما قال الفيلسوف "بلانشي"، أي لا نقبل هذا التمرين، حيث نخصص كل حياتنا للتمارين الخاصة بالانتصار على الجوع والعطش والمرض والخمول والشيخوخة والقبح، لكن لا نخصص وصلات للقاء الموت في أنفسنا، في أجسادنا، في الحتمية البيولوجية التي تحتجزنا في طي قوانينها الخالدة... لهذا نحن في رعب غير معقول، وهلع غير مقبول لأننا نرفض أن نختزل الأمور وبعدها ستنهار كل الأوهام، ويصير الموت عنصرا مألوفا حتى ولو زار كل المساكن وأخذ من الأسر ما يشاء من الأفراد... ألم نرى كيف أصبح الموت لدى بعض الشعوب المقاتلة حالة طبيعية، أنظر إلى الفلسطينيين وهو يجمعون موتاهم بعد كل حرب، حيث لا يثنيهم الموت عن استئناف الحياة والإصرار على البقاء، لقد فهموا اللعبة الوجودية جيدا لهذا من الصعب القضاء على طموحهم مهما طال الأمد...
الوباء هو الموت المقنع بالأعراض وهو يتشخص في الحالة التي تظهر على المريض، لكن في عمق كل إنسان إرادة الحياة، ومعرفة غيبية بالموت، ووعي بحتمية المسار، لهذا وعندما يقع التوازن بين هذه العناصر يصبح من الممكن تجاوز جبروت الموت حتى ولو كان مرضا قاتلا..أو مسارا طبيعيا يمسي قابلا للفهم والتأويل مما يجعله موضوعا للفهم ، وهذا ما سيحوله إلى شيء تعرفه الذات وتراقبه وتنتج حوله معرفة تناسب حجمه في كل الشروط التي يظهر فيها ويتجبر... المعرفة إذن هو المطلب الذي به نتحرر من كل أصناف الخوف...والجهل هو الحليف الطبيعي للموت والمرض والفقر والاستيلاب...