Friday 8 August 2025
كتاب الرأي

عدنان المتفوق: قراءة متقاطعة لبعض مواد قانون المسطرة المدنية موضوع قرار المحكمة الدستورية

 
 
عدنان المتفوق: قراءة متقاطعة لبعض مواد قانون المسطرة المدنية موضوع قرار المحكمة الدستورية عدنان المتفوق
 بعد اطلاع المحكمة الدستورية على القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية، المحال إليها من قبل رئيس مجلس النواب بتاريخ 9 يوليو 2025، قصد البت في مدى مطابقته لأحكام الدستور؛
 وبعد دراستها للملاحظات الكتابية المقدمة من بعض أعضاء مجلسي البرلمان ورئيس الحكومة، المسجلة على التوالي بتاريخي 17 و18 يوليو 2025؛
وبعد فحصها للوثائق المرفقة بالملف؛
واستناداً إلى أحكام الدستور الصادر بتنفيذه الظهير الشريف بتاريخ 29 يوليو 2011؛
وكذا إلى القوانين التنظيمية ذات الصلة، لاسيما:
•القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية رقم 066.13،
•القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية،
•القانون التنظيمي رقم 106.13 بشأن النظام الأساسي للقضاة،
•القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة؛
 فإن المحكمة شرعت في دراسة مدى مطابقة مقتضيات القانون المعروض لأحكام الدستور ومنها على وجه الخصوص المواد 17 و 408 و 410 من مشروع قانون المسطرة المدنية:
الفقرة الأولى: عدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 17 من القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية
أولا: مضمون المادة 17 (الفقرة الأولى)
"يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام، داخل أجل خمس سنوات من تاريخ صيرورة المقرر القضائي حائزا لقوة الشيء المقضي به.
 يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض".
ثانيا: منطوق المحكمة الدستورية القاضي بعدم دستورية المادة 17
"حيث إن الفقرة الأولى من هذه المادة تنص على أنه: "يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام، داخل أجل خمس سنوات من تاريخ صيرورة المقرر القضائي حائزا لقوة الشيء المقضي به."؛
وحيث إنه، بالرجوع إلى الدستور، فإنه ينص في:
-الفقرة الأولى من الفصل السادس منه، بصفة خاصة، على أن: "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة..."، 
- الفصل 117 منه، على أنه: "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات... وأمنهم القضائي..."،
- الفقرة الأولى من الفصل 126 منه على أن: "الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع"؛
 وحيث إنه، يستفاد من أحكام فصول الدستور المستدل بها في ترابطها وتكاملها، وعلاقة بالنص المعروض أنه لا يسوغ، في ظل الدستور، أن يتم التصريح ببطلان المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به، إلا من قبل السلطة القضائية المستقلة، التي يمارسها القضاة المزاولون فعليا مهامهم القضائية بمحاكم التنظيم القضائي، طبقا للفقرة الأخيرة من المادة الثانية من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
وحيث إنه، وإن كان القانون قد أسند إلى النيابة العامة المختصة، وهي التي تناط بها حماية النظام العام والعمل على صيانته، طلب التصريح ببطلان المقرر القضائي المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، مما لا يشكل، في حد ذاته، مخالفة للدستور، فإن نفس الدستور كفل بمقتضى مبدأ الأمن القضائي، للمحكوم لصالحهم الحق في تمسكهم بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وإنفاذ آثارها؛ 
وحيث إنه، وإن كانت حماية المشرع للنظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية، تشكل في حد ذاتها، هدفا مشروعا لا يخالف الدستور، فإنه يتعين على المشرع، عند مباشرة ذلك، استنفاذ كامل صلاحيته في التشريع، والموازنة بين الحقوق والمبادئ والأهداف المقررة بموجب أحكام الدستور أو المستفادة منها، على النحو الذي سبق بيانه؛
 وحيث إن صيغة الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، خلت من التنصيص على حالات محددة يمكن فيها للنيابة العامة المختصة طلب التصريح ببطلان المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به التي يكون من شأنها مخالفة النظام العام، واكتفت بتخويل هذه الصلاحية للنيابة العامة المختصة، تأسيسا على هذه العلة، ومنحت، تبعا لذلك، للنيابة العامة، طالبة التصريح بالبطلان، وللجهة القضائية التي تقرره، سلطة تقديرية غير مألوفة تستقل بها دون ضوابط موضوعية يحددها القانون، بما يتجاوز نطاق الاستثناء على حجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، ويمس بمبدأ الأمن القضائي، فيكون المشرع بذلك، قد أغفل تحديد ما أسنده له الدستور في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية، ضمن النطاق الموضوعي للبند التاسع من الفقرة الأولى من الفصل 71 من الدستور؛ 
وحيث إنه، تبعا لذلك، تكون الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، غير مطابقة للدستور؛". 
        تمنح المادة 17، في فقرتها الأولى، النيابة العامة حق تقديم طلبات ببطلان أحكام قضائية نهائية، حتى في الحالات التي لا تكون فيها طرفًا في النزاع، وذلك بمجرد الادعاء بوجود مساس بالنظام العام.
 وتُمارس هذه الصلاحية خارج الآجال العادية للطعن، مع امتداد إمكانية تقديمها إلى أجل طويل نسبيًا يبلغ خمس سنوات من تاريخ اكتساب الحكم لقوة الشيء المقضي به.
هذا الامتياز الممنوح للنيابة العامة يُمارَس في غياب أي تقييد أو شروط موضوعية تضبط حالات تدخّلها، وهو ما استدعى تدخل المحكمة الدستورية للفصل في مدى دستوريته.
ثالثا: المرتكزات الدستورية المعتمدة من المحكمة
 استندت المحكمة الدستورية في رقابتها على جملة من النصوص والمبادئ الدستورية، في مقدمتها:
•الفصل 6 من الدستور: الذي يكرس سمو القانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة.
•الفصل 117: الذي يُحمّل القاضي مسؤولية حماية الحقوق والحريات وضمان الأمن القضائي.
•الفصل 126: الذي ينص على إلزامية الأحكام القضائية النهائية لجميع الجهات.
     
كما استحضرت المحكمة المبادئ الآتية:
•مبدأ الأمن القضائي بوصفه ركيزة لضمان استقرار المراكز القانونية.
•حجية الأحكام القضائية النهائية كشرط لضمان الثقة في القضاء.
•ما نص عليه القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية من حصر وظيفة القضاء في القضاة المعينين بالمحاكم.
رابعا: تحليل منطوق قرار المحكمة الدستورية
 أقرت المحكمة الدستورية بشرعية أن تسند للنيابة العامة مهمة طلب بطلان حكم قضائي، إذا كان هذا الأخير يمس النظام العام، وذلك تماشيًا مع وظيفتها في السهر على حماية هذا المبدأ.
واعتبرت أن حماية النظام العام تمثل هدفًا مشروعًا ومتوافقًا مع الدستور من حيث المبدأ.
غير أن المحكمة، رغم إقرارها بمشروعية الغاية، قضت بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 17، لعدة أسباب جوهرية، من بينها:
1-غياب التحديد الدقيق للحالات والضوابط الموضوعية
 المادة لم تبيّن بوضوح المقصود بمخالفة النظام العام، ولم تحدد الحالات التي تُجيز التدخل، ما أدى إلى ترك سلطة تقديرية واسعة وغير مقيدة بيد النيابة العامة، وكذا المحكمة المختصة بالبث في طلب البطلان.
هذا الغموض يُهدد استقرار المراكز القانونية ويُضعف مبدأ حجية الأحكام النهائية.
2-المساس بمبدأ الأمن القضائي
الصياغة الحالية للمادة تنطوي على مساس صريح بالأمن القضائي، الذي يقتضي استقرار الأحكام وعدم قابليتها لإعادة النظر إلا في حالات استثنائية وبموجب شروط دقيقة ومحددة.
فتح الباب واسعًا لإعادة النظر في الأحكام دون ضوابط يعرّض مصداقية القضاء للخطر.
3-توسيع غير مبرر للاستثناء على قاعدة حجية الشيء المقضي به
تجاوز المشرع نطاق الاستثناء على هذه القاعدة دون مراعاة مبدأ التناسب، ما أخلّ بالتوازن المفترض بين حماية النظام العام وضمان استقرار الأحكام القضائية.
4-إخلال بمبدأ الشرعية التشريعية
اعتبرت المحكمة أن المشرع لم يمارس صلاحياته الدستورية بشكل كامل ودقيق، لا سيما ما نص عليه البند التاسع من الفقرة الأولى من الفصل 71 من الدستور، الذي يقر بأن قواعد التنظيم الإجرائي للدعاوى تدخل ضمن المجال التشريعي، مما يتطلب صياغة دقيقة ومقيدة.
خلاصة رأي المحكمة الدستورية
حسمت المحكمة الدستورية الجدل المتعلق بالمادة 17 من القانون الخاص بمسطرة إلغاء المقررات القضائية، وصرّحت بعدم دستوريتها، استنادا إلى تأويل دستوري يضع في صلبه صيانة الأمن القانوني وحجية الأحكام القضائية.
 ورأت المحكمة أن منح النيابة العامة صلاحية طلب بطلان أحكام نهائية دون تحديد دقيق للضوابط القانونية يشكل إخلالًا بالتوازن بين حماية النظام العام واستقرار المراكز القانونية.
 وقد بيّنت أن المشرع لم يمارس صلاحياته وفق ما يقتضيه الفصل 71 من الدستور، إذ جاءت المادة خالية من معايير موضوعية تضبط تدخل النيابة العامة، مما يفتح الباب أمام سلطة تقديرية غير مقيدة.
واعتبرت أن هذه الصياغة تمس مبدأ الأمن القضائي وتوسع بشكل غير مبرر من نطاق الاستثناء على حجية الأحكام النهائية، ما يشكل خرقًا لمقتضيات الشرعية التشريعية.
خلصت المحكمة إلى أن الفقرة الأولى من المادة 17 غير مطابقة للدستور، بسبب غياب تحديد دقيق للحالات التي تُبرر تدخل النيابة العامة، وتوسيع غير مبرر لصلاحياتها، ما يُهدد الأمن القضائي ويُضعف حجية المقررات القضائية النهائية.
إيجابيات القرار:
•يكرّس مبدأ استقلال القضاء واستقرار الأحكام.
•يعزز مبدأ الأمن القضائي كأحد أركان المحاكمة العادلة.
الفقرة الثانية: في شأن المادتين 408 (الفقرة الأولى) و410 (الفقرة الأولى)
أولا: مضمون المادتين 
المادة 408/1
 "يمكن لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أن يقدم طلب الإحالة إلى هذه المحكمة المقررات التي قد يكون القضاة تجاوزوا فيها سلطاتهم".
المادة 410/1
 "يمكن لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تقديم طلب الإحالة من أجل التشكك المشروع أمام هذه المحكمة عند عدم تقديم طلب في الموضوع من الأطراف."
كلتا الفقرتين تمنحان لوزير العدل (عضو السلطة التنفيذية) صلاحيات التدخل في مسار الدعوى القضائية، وهو ما أثار إشكالًا دستوريًا بخصوص مبدأ فصل السلط واستقلال السلطة القضائية.
ثانيا: منطوق المحكمة الدستورية بعدم دستورية الفقرتين من المادتين 408 و 410
حيث إن الفقرتين تنصان بالتوالي، على أنه: "يمكن لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أن يقدم طلب الإحالة إلى هذه المحكمة المقررات التي قد يكون القضاة تجاوزوا فيها سلطاتهم"، وعلى أنه: "يمكن لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تقديم طلب الإحالة من أجل التشكك المشروع أمام هذه المحكمة عند عدم تقديم طلب في الموضوع من الأطراف"؛
وحيث إنه، بالرجوع إلى الدستور، فإنه ينص في:
-الفقرة الثانية من الفصل الأول منه على أنه: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط..."،
- الفقرة الأولى من الفصل 87 منه، بصفة خاصة على أنه: "تتألف الحكومة من رئيس الحكومة والوزراء..."، 
-الفقرة الأولى من الفصل 89 منه، على أنه: "تمارس الحكومة السلطة التنفيذية."، 
-الفقرة الأولى من الفصل 107 منه على أن: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية."، 
-الفصل 117 منه على أنه: "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون."؛ 
 وحيث إن المادة التاسعة من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، تنص على أنه: "يمارس أعضاء الحكومة اختصاصاتهم في القطاعات الوزارية المكلفين بها، في حدود الصلاحيات المخولة لهم بموجب المراسيم المحددة لتلك الاختصاصات المشار إليها في المادة 4...، والنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل"؛ 
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تنص على أنه: "تمارس السلطة القضائية من قبل القضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة."؛ 
وحيث إن المادة 25 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة تنص على أنه: " يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة وإشراف ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين."
        وحيث إنه،  يستفاد من أحكام الدستور والقوانين التنظيمية المستدل بها، علاقة بالفقرتين المعروضتين، أن الوزير المكلف بالعدل عضو في الحكومة التي تمارس السلطة التنفيذية، والتي تعتبر السلطة القضائية مستقلة عنها، و أنه يترتب عن استقلال السلطة القضائية، في ظل الدستور، عدم إسناد الاختصاصات المتعلقة بحسن سير الدعوى، في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية، إلا لمن يمارس السلطة القضائية دون سواها، وهو ما تحقق في الفقرتين المعروضتين اللتين أسندتا إلى محكمة النقض البت في طلب الإحالة من أجل تجاوز القضاة لسلطاتهم، أو من أجل التشكك المشروع  بناء على طلب الوكيل العام للملك لدى هذه المحكمة، بوصفه أيضا رئيسا للنيابة العامة، وساهرا على حسن سير الدعوى في مجال اختصاصها، وعلى حماية النظام العام والعمل على صيانته، وهو ما يجعل هاتين الحالتين تختلفان عن الحالة الواردة في الفقرة الأولى من المادة 411 المعروضة والتي خولت وزير العدل إمكانية تقديم طلبات الإحالة، على سبيل الوقاية، من أجل الأمن العمومي و هو طلب لا يمس باستقلال السلطة القضائية؛
وحيث إنه، تبعا لذلك، فإن الفقرتين الأوليين من المادتين 408 و410 مخالفتان للدستور فيما خولتا للوزير المكلف بالعدل من تقديم طلب الإحالة من أجل الاشتباه في تجاوز القضاة لسلطاتهم أو من أجل التشكك المشروع؛"
ثالثا: مرجعية المحكمة الدستورية في قرارها
 استندت المحكمة الدستورية إلى مجموعة من النصوص الدستورية والتنظيمية لتبرير رأيها، من بينها:
من الدستور:
الفصل 1 (الفقرة الثانية): يؤسس النظام الدستوري للمملكة على فصل السلط.
الفصل 87 و89: يبينان أن الحكومة (بما فيها وزير العدل) تمثل السلطة التنفيذية وتمارس اختصاصاتها في هذا الإطار.
الفصل 107: يؤكد استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
الفصل 117: يبين اختصاص القاضي بحماية الحقوق والحريات وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون. 
من القوانين التنظيمية:
المادة التاسعة من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها: توضح أن اختصاصات الوزراء تحدد وفق نصوص تنظيمية، ولا تشمل التدخل في مسار الدعاوى القضائية.
القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية (المادة 2): يؤكد أن ممارسة السلطة القضائية محصورة بالقضاة العاملين في المحاكم.
النظام الأساسي للقضاة (المادة 25): يحدد تبعية قضاة النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.
بذلك فالمحكمة ترى أن منح وزير العدل (عضو السلطة التنفيذية) صلاحية تقديم طلبات إحالة في قضايا ترتبط بتجاوز القضاة لسلطاتهم أو التشكك في حيادهم، يمس باستقلال السلطة القضائية، وبالتالي يخرق مبدأ فصل السلط الذي يعد من الدعائم الدستورية.
التمييز المهم الذي أجرته المحكمة:
المحكمة ميزت بين الحالات التي يسمح فيها لوزير العدل بالتدخل (مثل الحالة في المادة 411، التي تتعلق بالأمن العمومي والوقاية دون المساس بجوهر السلطة القضائية) وبين الحالات التي تمس بمسار الدعوى وسيرها داخل المحاكم (كما في المادتين 408 و410).
وبهذا، اعتبرت أن إشراف الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض فقط على هذه الطلبات يُعد احترامًا للاستقلال القضائي لأنه يمثل رأس النيابة العامة وليس جهة تنفيذية.
رابعًا: خلاصة قرار المحكمة
 الفقرتان الأولى من المادة 408 والأولى من المادة 410، بما منحتاه من اختصاص لوزير العدل:
•غير دستوريتين
•تخالفان مبدأ فصل السلط
•تمسان باستقلال القضاء
•تتجاوز الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية
وبالتالي، أبطلت المحكمة الدستورية هاتين الفقرتين في الشق المتعلق بوزير العدل فقط، وأبقت على صلاحيات الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.
خامسًا: أهمية قرار المحكمة الدستورية في تعزيز استقلال السلطة القضائية
يشكل قرار المحكمة الدستورية بشأن الفقرتين الأوليين من المادتين 408 و410 من قانون المسطرة المدنية محطة بارزة في ترسيخ مبدأ استقلال القضاء، حيث أكدت المحكمة عدم دستوريتهما لما تضمنتاه من منح وزير العدل، بصفته عضوًا في الحكومة، صلاحية تقديم طلبات الإحالة في قضايا ذات طابع قضائي صرف، كالشطط في استعمال السلطة أو التشكك المشروع.
وقد شددت المحكمة على أن هذا الاختصاص يجب أن يظل حكرًا على الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، باعتباره رئيسًا للنيابة العامة، الساهر على حسن سير الدعوى وحماية النظام العام، تطبيقًا للفصلين 107 و109 من الدستور.
ويعكس هذا القرار انسجامًا واضحًا مع روح دستور 2011، الذي أعاد تنظيم العلاقة بين السلط، وأكد على ضرورة النأي بالسلطة القضائية عن كل أشكال التأثير الخارجي، حتى في ما يتعلق بالمساطر الإجرائية، تأكيدًا على أن استقلال القضاء لا يقتصر على الأحكام والقرارات، بل يشمل كذلك آليات تحريك الدعوى وتنظيم سيرها.
خاتمة:
تبرز أهمية هذا القرار في كونه يشكل خطوة نوعية نحو استكمال مسار بناء سلطة قضائية مستقلة فعليًا، بعيدة عن وصاية السلطة التنفيذية أو تدخلها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
فمن خلال التأكيد على أن وزير العدل لا يملك أي دور قضائي بعد انتقال الإشراف على النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، يكون القرار قد وضع حدا نهائيا لأي تداخل بين السلطتين القضائية والتنفيذية.
كما يعزز القرار مكانة القضاء كسلطة مستقلة، قائمة بذاتها، مصونة من التأثيرات السياسية والإدارية، ويؤكد على أن احترام الشكل الإجرائي ليس مجرد مسألة شكلية، بل يمثل ضمانة جوهرية من ضمانات المحاكمة العادلة.
إن استقلال القضاء، كما كرّسه الدستور، لا يتحقق إلا من خلال احترام دقيق لحدود تدخل كل سلطة في مجال اختصاصها، وهو ما سعت المحكمة الدستورية إلى تكريسه من خلال هذا القرار، الذي يُعد مرجعًا في ضبط توازن السلط وضمان سيادة القانون.
عدنان المتفوق، الكاتب العام لجمعية نادي قضاة المغرب