السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الصمد بن شريف: حدث استثنائي

عبد الصمد بن شريف: حدث استثنائي عبد الصمد بن شريف

كانت مدينة السعيدية ذلك اليوم هادئة تماما. سماء ممعنة في زرقة آسرة. كانت تتقاطع مع زرقة البحر وضوء شمس متوسطية لتشكل لوحة طبيعية باذخة الجمال والروعة. كانت شواطئ المدينة الفسيحة والممتدة على عدة كلمترات، تضم أفواجا من المصطافين القادمين من مدن ومناطق مغربية مختلفة، للتخفيف من شدة الحر والقيظ. رغم أن المدينة كانت متواضعة في كل شيء. فنادق محدود وبسيطة. ومقاه ومطاعم قليلة. وبنية تحتية هشة وفضاءات غير مهيأة. لكن تلك الظهيرة من يوم 23 يوليوز 1999. كانت طويلة وحاسمة وذات حمولة وجدانية ومشاعر جياشة. كنت جالسا رفقة الصديق محمد العباسي في فندق متواضع غير بعيد عن الشاطئ. وبعد لحظات باغتنا أحد المسؤولين بنطق جملة ثقيلة. عزاؤنا واحد في وفاة جلالة الملك الحسن الثاني. كان وقع هذه الجملة مزلزلا عصف بالمكان والزمان وأفرز حالة نفسية وذهنية ووجدانية اختلط فيها كل شيء. غادرنا للتو الفندق. لم يكن الخبر قد انتشر على نطاق واسع. لكن لما بثت القناة الأولى خبر رحيل المغفور له الحسن الثاني. وحلت حصص القرآن الكريم محل البرامج المعتادة. علم جزء كبير من سكان وزوار مدينة السعيدية بالحدث. ورغم أنني كنت أقضي عطلتي السنوية، حاولت الاتصال بمساعدة التحرير في القناة الثانية المرأة الطيبة والنبيلة خديجة الناصري. لكن الضغط على خطوط الهاتف كان كبيرا. وسرعان ما اتصلت بي هي قائلة: يجب أن تلتحق بالقناة في أقرب وقت. كان ذلك قرار الإدارة. توجهت وصديقي محمد العباسي إلى مخيم التنس البسيط الذي كنت مقيما فيه رفقة المناضل الصالحي عبدالقادر وآخرين. هناك وجدت المصطافين في حالة ارتباك وحيرة. وبحكم أن بعضهم كان يعرفني انطلاقا من ظهوري على الشاشة. فقد طرحوا علي بعض الاسئلة من قبيل. هل الأوضاع عادية وهل ستهجم علينا الجزائر؟ كانت أجوبتي محفزة على  ضرورة إحساس الناس بأنهم في بلد آمن تحكمه المؤسسات وأن الأمور لا تدعو إلى القلق. كان طبيعيا أن يطرح المواطن البسيط هذا النوع من الأسئلة. لأن الأمر يتعلق بحدث استثنائي، رحيل ملك بصم تاريخ المغرب، وطبعه بما هندس وخطط له من مشاريع. وما بناه من مؤسسات رغم السياقات السياسية والاجتماعية التي تميزت بالصراع والتوتر والصدامات الدامية عبر محطات مختلفة. ورغم الاختيارات التي أثارت حنق فئات عريضة من المغاربة.

 

لملمت أغراضي وغادرت المخيم، وتركت مدينة السعيدية غارقة في أجوائها الصيفية التي علاها حزن عام. توجهت إلى مدينة بركان بمعية الأخ العباسي، وكان شقيقي مصطفى في انتظارنا. أسئلة كثيرة كانت تستقر في أذهاننا  ونحن جيل رضع حليب السياسة مبكرا وأدى ضريبة غالية في سبيل بناء المجتمع العادل والدولة الديمقراطية. جلسنا في مقهى ابن سيناء التي عادة ما كانت تتردد عليها نخبة بركانية تسجل حضورا لافتا في فصل الصيف. وهناك جمعتنا الصدفة مع أحد أنجال الراحل البكاي الذي شغل منصب الوزير الأول في أول حكومة. سافرنا جميعا إلى ردهات التاريخ وحكى السي محمد  بفرنسية أنيقة مجموعة من الوقائع. كنا ننصت إليه خاصة وأنه قضى سنوات في سلك الجندية. وفاز في الانتخابات البرلمانية سنة 1963 عندما ترشح باسم الحركة الشعبية كما كان رئيسا لجماعة بركان. وكان خطاب نجل البكاي لهبيل يتسم بمسحة دينية، خاصة وأنه تفرغ على امتداد سنوات للاطلاع على المذاهب الفقهية وإتقان اللغة العربية وقراءة مختلف التفاسير التي كتبت عن القرآن الكريم.

 

مساء ذات اليوم استضفنا السيد على الكعواشي في منزله، وكان آنذاك يتحمل مسؤولية الكاتب الإقليمي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في بركان. جرى نقاش طويل ومتشعب بيننا. كنا نستعرض التاريخ بكل طراوته وعنفوانه، ونطرح جملة من الأسئلة حول راهن المغرب ومستقبل البناء الديمقراطي والآفاق المنتظرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

 

صباح الغد. غادرت بركان صوب وجدة استعدادا للسفر جوا إلى الدار البيضاء. ورغم أن الرحلة كانت مبرمجة عصر نفس اليوم، إلا أنها تأخرت كثيرا، بسبب حالة الارتباك التي طالت حركة الطيران على خلفية رحيل الملك الحسن الثاني. وتأسيسا على ذلك، ظللت مرابطا لفترة طويلة في مطار وجدة أنجاد. ولم أصعد إلى الطائرة إلا في حدود العاشرة ليلا.

 

عندما وصلنا إلى مطار محمد الخامس، كان علي أن اتدبر أمري لأصل إلى القناة الثانية. لم يكن هناك من وسيلة سوى انتظار القطار الذي ركبته وأنا في حالة تعب شديدة. ولما وصلت إلى مقر القناة الثانية، وجدت أغلبية العاملين خاصة المسؤولين والصحافيين كانوا حاضرين. وكانوا يتناولون وجباتهم داخل قاعة التحرير. بعد أخذ قسط من الراحة والاطلاع على مختلف التفاصيل المرتبطة بخطة القناة للتعاطي مع حدث عظيم. رافقت الزميل والصديق محمد مماد إلى منزله حيث قضيت الليلة هناك.

 

صباح الغد، استيقظنا باكرا، وتسلحنا بجرعة عالية من الحماس المهني. توجهنا إلى القناة، لمباشرة مختلف الاستعدادات المتعلقة بتغطية مراسيم تشييع جنازة الملك الراحل الحسن الثاني. أتذكر أننا عقدنا اجتماعا برئاسة المدير السابق للقناة الثانية العربي بلعربي وبحضور محمد مماد باعتباره كان مسؤولا عن قسم الأخبار. وأعتقد أنه كان هناك صحافيون ومخرجون وتقنيون. كان المدير العام القادم من عالم التدبير والمال والأعمال والمنحدر من أسرة ليست بعيدة عن الإعلام والسياسة، يبدو متوترا بعض الشيء وقلقا. لأن تدبير حدث له رمزية خاصة يتطلب حنكة وخبرة وجرأة مهنية وشجاعة فكرية. باغتي السيد بلعربي قائلا. هل تتولى لوحدك تغطية جنازة الملك الراحل أم يكون إلى جانبك الصحافي محمد العمراني وحميد ساعدني؟ كان علي أن أكون دبلوماسيا ومهنيا في الرد. قلت له ليس هناك أي مشكل في أن أقوم بالمهمة. لكن يستحسن إشراك الزميلين في تغطية هذا الحدث الاستثنائي والمؤثر. فاستقر الرأي على هذه الصيغة.

 

عندما ذهبنا إلى الاستوديو بعد فترة وجيزة من التحضير وأخذ عدد من المعطيات والمعلومات عن المسار الطويل والمركب لرجل استثنائي مثل الملك الحسن الثاني. كنت أحاول أن استثمر قراءاتي ومعرفتي في الربط بين وقائع تغطية الجنازة ومجموعة من المحطات والأحداث، التي كان فيها الراحل فاعلا وصانعا وشاهدا.

 

مؤكد أنه في عالم الصحافة، كما في عالم السياسة والثقافة، كل شخص له أسلوبه وطريقة تفكيره وفهمه وتمثله للأحداث، والعمل الجماعي إذا كان منسقا ومنسجما ومهيئا بشكل مهني تكون له مردودية مقنعة.

 

عبد الصمد بن شريف، صحافي وكاتب