الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

فاضل: البيعة عند المغاربة بين التأصيل والتفعيل

فاضل: البيعة عند المغاربة بين التأصيل والتفعيل الدكتور عبد الرزاق فاضل، باحث في الدراسات الإسلامية
يخلد الشعب المغربي يوم 30 يوليوز الذكرى الثانية والعشرين لتربع أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره لله على عرش أسلافه المنعمين. (وقد أعلن بلاغ لوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة عن تأجيل جميع الأنشطة والاحتفالات والمراسيم، بما فيها حفل تقديم الولاء التي تقام بالمناسبة بسبب جائحة كورونا. واعتبارا لاستمرار العمل بالتدابير الوقائية) وكان حفل الولاء يحضره ممثلون وأعيان ومنتخبون وساسة وأمناء الأحزاب الوطنية وغيرهم من كل الأقاليم والعمالات، لتقديم فروض البيعة والطاعة والولاء، وتجديد العهد للعرش العلوي المجيد أمام جلالته، وذلك في جو يعكس تقاليد البيعة الشرعية المغربية الأصيلة التي دأب عليها سلاطين الدولة العلوية التي حري بنا أن نقف حول ماهيتها وتاريخها، وما توحي به من المعاني وترمز إليه من الدلالات من خلال النقط التالية:
مفهوم البيعة:
 
من لطائف هذا المصطلح، اشتقاقه من فعل ‭)‬باع‭(‬، المعتبر من المشترك اللغوي الدال على الشيء وضده، أي: البيع والشراء معا، ومن جمال صيغته أيضا، إن زيدت فيه حرف الألف وهي ألف المشاركة ليصير بايع للدلالة على التفاعل بين طرفيه المتبايعين، أولاهما المبايِع، وثانيهما المبايَع، ليتأكد أن البيعة تكون بين طرفين بما يتطلبه ذلك بينهما من تعاقد والتزام، ومن ثم قال ابن منظور: ‭)‬البيعة: الصفقة.. والبيعة المبايعة والطاعة‭(‬ مادة بيع
ويقول ابن خلدون: ‭)‬اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، يطيعه في كل ما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره)‬. المقدمة3/589
من خلال هذا التعريف يتبين أن المبايِع يكون في ذلك أصالة عن نفسه في أمره ونيابة عن غيره من أمور المسلمين, لما له عليهم من الولاء والنيابة والتمثيل.
تأصيل البيعة
 
ولو تأملنا في تاريخ الأمم والملوك، وتداول الرياسة عند الأقوام والشعوب، لا نكاد نقف على هذا النوع من إسناد المأمورية إلى زعيم من الزعماء، بالأسلوب الذي نراه في شريعتنا الإسلامية السمحة ألا وهو أسلوب البيعة، والذي تبناه الرسول صلى لله عليه وسلم في أول ملاقاته لنفر من سكان يثرب في ما يعرف ببيعة العقبة الأولى السنة الثانية عشر من البعثة، فبايعه كل واحد منهم على أن لا يشرك بالله شيئا، ولا يسرق.... على غرار بيعة النساء قبل مشروعية الحرب، وأيضا في ما يعرف ببيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشر من البعثة، والتي خاطبهم فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: ‭)‬أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبنائكم‭(‬ سيرة ابن هشام 1/402. وهي التي أكدها القرآن الكريم بقوله: ‭)‬إن الذين يبايعونك إنما يبايعون لله...) الفتح الآية 10، وقوله سبحانه: (‬لقد رضي لله عن المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة...‭(‬ سورة الفتح الآية 18، وأيضا في بيعة النساء والتي خاطبه في شأنهن سبحانه بقوله: (‬يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله....‭(‬ سورة الممتحنة الآية 12.
ومن ذلك أيضا قوله صلى لله عليه وسلم: ‭)‬ألا تبايعونني على الإسلام)‬ وقوله: ‭)‬من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‭(‬ أخرجه الإمام مسلم.
كل هذا قرآن وسنة فعلية وقولية يؤكد أن أسلوب البيعة صار عقدا شرعيا مقدسا في الإسلام، وعلى هذا الأسلوب دأب الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون وأمراء الأندلس وسلاطين المغرب مند المولى إدريس الأول إلى عصرنا هذا.
تفعيل البيعة عند المغاربة
 
لاشك أن أسلوب البيعة المستمد من أصوله الشرعية, وبما يحمله من قداسة دينية، والذي دأب عليه المغاربة أباً عن جد، لا يمكن اختزاله فيما يوازيه من احتفالات رسمية، بل يتعداه إلى غير ذلك من الرموز والمغازي والاعتبارات والدلالات الشرعية، والمتمثلة في:
أن المغاربة عبر تاريخهم ظلوا متشبثين بعقد البيعة الشرعية, والذي يتولى توثيقه السادة العدول بالمملكة السعيدة، وكمثال على ذلك: عقد بيعة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره لله، الموقعة من لدن نقيب الهيئة الوطنية لعدول المغرب، ورؤساء المجالس الجهوية للعدول البالغ عددهم اثنين وعشرين عدلا، عدد محاكم الاستئناف بوزارة العدل، ومخاطَب عليها في الأخير من لدني قاضييْ التوثيق بابتدائيتي الرباط وسلا.
اعتبار المغاربة تكرار مراسيم البيعة كل عام هو تجديد للعهد, وتأكيد لمبدأ الثقة في من تمت بيعته من لدنهم.
اعتبار المغاربة البيعة أسلوبا حضاريا من شأنه إنشاء عدالة اجتماعية، وفق أسس وركائز قوية ألا وهي الملك والشعب.
اعتبار المغاربة البيعة عقدا شرعيا له قداسته بين المتبايِعيْن مستمدا تلك القداسة من القرآن الكريم، وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
اعتبار المغاربة البيعة امتدادا للتاريخ الإسلامي بما تحمله من أمجاد من شأنها تقوية الروابط الاجتماعية بين الراعي والرعية.
اعتبار المغاربة البيعة ذات أهداف وطنية وليست بأغراض شخصية.
اعتبار المغاربة البيعة ميثاقا وعهدا ورباطا يؤلف الشرائح المجتمعية ويصون الوحدة الوطنية تحت قيادة العرش العلوي المجيد.
اعتبار المغاربة البيعة من الأعراف العتيدة، والتقاليد الفريدة, والقيم العريقة التي سار عليها سلاطين المغرب، ودأب عليها ملوك الدولة العلوية.
اعتبار المغاربة البيعة إرثا حضاريا، وموروثا ثقافيا من شأنهما ربط الحاضر بالماضي والانفتاح على المستجد.
اعتبار المغاربة البيعة خصوصية تاريخية للمغرب من شأنه الحفاظ عليها وتنزيلها على أرض الواقع.