الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: كيف تؤسس "طاعة الوالدين"  لطاعة القوانين...

عبد الإلاه حبيبي: كيف تؤسس "طاعة الوالدين"  لطاعة القوانين... عبد الإلاه حبيبي

ليس في الأمر غرابة كثيرة، بمجرد ما يتعلم الطفل احترام من أنجبه، وتفانى في تنشئته، وتعليمه، وتغذيته، وحمايته من كل الأخطار، يكون قد تَمثّل قيمة اجتماعية أساسية، بل قيمة روحية لها عمق غيبي عميق... الطاعة ليست مرادفا هنا للعبودية، أو التنازل عن الحرية في سبيل نيل محبة وعطف الوالدين، بل هي انضباط تلقائي يمليه الضمير الجماعي، حيث لا يفسح أي مجال للترافع باسم الحرية ضد طاعة الآباء، كل تشويش على هذا المبدأ يتم إبعاده بنص ديني لا يقبل التأويل ولا التأجيل...

 

لكن وبعيدا عن المقاربة الدينية، وبالالتصاق أكثر بعنوان المقال، نود معرفة مدى أثر هذه الطاعة على تهيئ الطفل لتقبل احترام الأنظمة والقوانين التي سيجد نفسه مطالبا بالخضوع لها كشرط لاندماجه الاجتماعي وتوافقه السيكولوجي...

 

لعل من أبرز أدوار المدرسة في بعدها التقليدي هو تمرين الأطفال، أولا، على احترام النظام، بل وتعويدهم على العيش فيه، أي الخضوع للقواعد المنظمة والإجراءات المؤطرة للحياة المدرسية... فبمجرد ما يلج الطفل المدرسة يجد نفسه داخل الصف، أي وسط النظام، وعليه انتظار الأوامر التي يصدرها المعلمون والمربون أو المسؤولون الإداريون، بهذا المعنى يكتشف، تدريجيا، أنه لا مكان لأي فراغ يمكن ملأه بالذاتية والارتجال أو المزاجية...

 

بهذا المعنى، وفي هذا السياق، يمكن تفسير بعض جوانب فشل المدرسة كمؤسسة تربوية بالعودة إلى هذا المبدأ الأخلاقي العام، أي بعدم قدرتها على تحقيق الهدف الأخلاقي المؤسس لكل الممارسات التربوية اللاحقة، بمعنى فشلها في ترسيخ حب طاعة النظام لدى روادها... بمعنى آخر، إذا لم تفلح  المدرسة في تعليم التلميذ فهم وتمثل واحترام الأنظمة التربوية، فهذا يعني أنها فاشلة  في تحقيق أهم مبدأ يؤسس لفلسفتها الأصلية، حتى ولو كانت تتوفر على أجود الأطر في تعليم الرياضيات والفيزياء والفنون وغيرها، لأن الهدف الاسمي من كل تربية هو مساعدة الإنسان على ترويض غرائزه، وتنظيم حياته، والتعرف على قواعد السلوك القويم، وتعبئة طاقاته العقلية والنفسية لتسهيل اندماجه في محيطه، وتواصله الناجح مع من يحيطون به... وبشكل عام أن النظام هو السبيل المؤدي إلى الفهم المنظم، والإدراك السليم، والعمل المثمر، والتفاعل الناجح مع الآخرين..

 

من هنا كان مطلب طاعة الوالدين مبدأ مركزيا في التربية الأخلاقية عند المغاربة، ولم يتم نسيانه أو التقليل من حضوره إلا بعد أن سيطرت على المدرسة مقاربات أنتجتها فترة التنافس السياسي بين الدولة والاتجاهات الاسلاموية التي تريد أن تحتكر التربية الدينية لتمرير مشروعها السياسي الأيديولوجي باسم الإصلاح الديني، مما سيؤدي إلى إعادة ترتيب القيم الدينية والاجتماعية من جديد، حيث ستظهر مفاهيم حقوقية حداثية في حلة إسلامية تحاول أن تؤصل للحرية والتسامح والسلم والحوار وغيرها من القيم السياسية التي ستتحول إلى دروس وأنشطة تربوية لكنها في العمق لن تحقق مبدأ "فهم واحترام وطاعة القوانين" أي القبول الطوعي بالامتثال لكل التشريعات الصادرة عن الدولة...

 

لقد أثبت التجارب التربوية أن الأب هو الرأس الذي يمثل الصورة الإنسانية للإله، بمعنى أن الأب يعلم الابن طاعة الواجبات الأخلاقية والدينية وحتى الاجتماعية، لهذا كان دوما موضعا خصبا للتمرد والنبذ وأحيانا 'القتل الرمزي"، وصورته تمثل السلطة القامعة للطبيعة الأولية، حيث هو الذي يعلم احترام نظام الجلوس والأكل وقواعد الحديث والتصرف مع الكبار والأقران وإنجاز الواجبات المدرسية وغيرها...

 

لهذا ارتبط سلوك طاعة القوانين بهذه الخلفية الأسرية، التي بدونها يستحيل إعداد الأطفال للتعامل الإيجابي مع ما سيتعرضون له من سلط وتشريعات وتنظيمات... وقد تأكد بالملموس أن الأسر التي تسود فيها علاقات واضحة بين الأبناء والآباء، حيث يعرف كل طرف حدوده، وينهض بواجباته، ويحترم المهام المنوطة به، في هذه الأسر ينشأ الأطفال بنفسية متوازنة، وعقلية متفتحة، وقبول إرادي بالخضوع للأنظمة السائدة، بل وحتى فهم حدود مناقشتها وبيان آثارها السلبية والإيجابية دون رفض تمردي مزاجي لها... لهذا فطاعة الوالدين المشار إليها دينيا ليست أمرا بسيطا، أ ومبدأ أخلاقيا ثانويا، بل هو المفتاح الذي بدونه لا يمكن نهائيا ولوج نفسية الطفل والتأثير فيه... وإذا ما نشأ الطفل في بيئة أسرية مضطربة، أو مفككة، فإنه حتما سيصاب بفقدان البوصلة الأخلاقية، وسيكون دوما مستعدا لممارسة العصيان والانضمام إلى كل حركة فكرية شاذة، أو سياسية متطرفة تمجد العنف، وتلعن الخضوع للأنظمة وتنادي بالحرب على كل الثوابت والمقدسات المنسابة في الخطابات الأخلاقية السائدة... لهذا بات من المستعجل الاهتمام أكثر بالعلاقات الوالدية، ودعم الأسر المعوزة، وتأطيرها فكريا ووجدانيا، وتطعيمها بالمعطيات العلمية الضرورية للقيام بواجبها التربوي على أكمل وجه، حتى لا تنتج العصابيين، أي المرضى النفسانيين، الذين قد يتحولون إلى نماذج للتماهي والتقليد من لدن الصغار، في صورة فنانين متمردين، آو دعاة مضطربين، أو مغامرين خطرين على الناس وعلى أنفسهم...