يشكل الفساد عقبة تعرقل كافة أشكال التغيير والتطور الإجتماعي والإقتصادي وتهدد التنمية المجتمعية بمفهومها الشامل، وتهدد أمن واستقرار المجتمعات اليشرية و تنزع ثقة أفراد المجتمع في من يديرون امورهم والأخطر من هذا كله يؤدي الفساد في المجتمعات النامية، مثل المغرب، إلى تأخر مؤشر التنمية، مما دفع هيئة الأمم المتحدة إلى إعلان الحرب على الفساد، باعتبارها أمرا ضروريا لإنجاح عملية الحد من الفقر وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية . وبما أن الفساد يقوض أسس التنمية تقويضا جليا، فإن القضاء عليه أصبح شرطا ضروريا بالنسبة للدول النامية لكي تتجاوز عجزها الاقتصادي وتحقق التنمية المرجوة .
وقد اعتبر البنك الدولي الفساد ظاهرة عالمية، تمس جميع الدول، بل وجميع القطاعات، عامة كانت أو خاصة، وفي هذا السياق يعرف الأنشطة التي تدخل في خانة الفساد بأنها إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادة عندما يعمد وكلاء أو وسطاء، لشركات أو أعمال خاصة، بتقديم الرشاوى للاستفادة من سياسات وإجراءات عامة، للتغلب على منافسين أو تحقيق أرباح خارج إطار القوانين الجاري بها العمل . كما يمكن أن يكون الفساد عن طريق استغلال الوظيفة العامة، دون اللجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال عامة . هكذا يتبين أن البنك الدولي يحدد الفساد في ارتشاء الموظفين لتسهيل عقد الصفقات، والحصول على مواقع متقدمة في مجال اتخاذ القرار، مع الحصول على امتياز توظيف الأقارب .
وفي هذا الإطار اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية دولية لمكافحة الفساد سنة 2003، دخلت حيز النفاذ سنة 2005، وحتى يناير 2013 صدقت عليها 165 دولة، وتعتبر هذه الاتفاقية الصك الدولي الأكثر شمولاً وقوة في مكافحة الفساد على نطاق عالمي، حيث تلزم الدول الأطراف فيها بتنفيذ مجموعة واسعة ومفصلة من التدابير لمكافحة الفساد، تهم قوانينها ومؤسساتها وممارساتها، كما تحث الدول على التعاون القضائي الدولي وتوفير آليات قانونية فعالة لاسترداد الموجودات والمساعدة التقنية وتبادل المعلومات .
وتتضمن هذه الاتفاقية 71 مادة، تضم الطرق الكفيلة بتفعيل عملية محاربة الفساد وكيفية تقديم المساعدة التقنية وتبادل المعلومات وتحليلها، وكذا بناء القدرات في مجال تخطيط سياسة إستراتيجية لمكافحة الفساد، بالإضافة إلى كيفية تحديد شروط المقاضاة والجزاءات . والأهم من هذا كله أنها تحث الدول على أن تنظر، رهنا بدستورها والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، في اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم تعمد موظف عمومي إثراء غير مشروع، أي زيادة موجوداته زيادة كبيرة لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياسا إلى دخله المشروع .
وقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في المغرب سنة 2008، إلا أنه لم يترجم مقتضياتها بقوانين زجرية تجرم الفساد الإداري بقوة، مع العلم أن دستور 2011 ينص على أن الاتفاقيات الدولية التي يصدق عليها المغرب، في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، ودعا إلى العمل على ملاءمة تشريعاته مع ما تتطلبه تلك المصادقة . هكذا حسم الدستور في مسألة سمو الاتفاقيات الدولية التي صدق عليها، أو انضم إليها، لتحديد طبيعة المرجعية القانونية ذات الأولوية، وكذا الآليات الكفيلة بملاءمتها مع التشريعات الوطنية، والالتزام بما يترتب عن ذلك قانونيا وسياسيا . ذلك أن الإدماج القانوني للاتفاقيات في التشريع الوطني، يفضي إلى تقييد الاختصاص الداخلي بما يتلاءم مع القواعد القانونية الدولية، خاصة وأن المغرب قد صادق على اتفاقية فيينا لسنة 1969 بتاريخ 26 شتنبر 1972، والتي لا تجيز في مادتها 27 لأحد أطراف الاتفاقية التحلل من الالتزام بها مقابل التمسك بمقتضيات القوانين الداخلية للدول المتعاقدة .
وفي سياق إدماج المغرب للاتفاقيات الدولية تمت إضافة الفرع الثاني من الباب السابع من القانون الجنائي المغربي، سنة 2003، لإدماج الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد عائلاتهم في القانون الوطني، وهو ما من شأنه ضمان احترام هذه الاتفاقية ونفاذها . إلا أن المغرب لم يقم، منذ تصديقه على اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد في سبتمبر 2003، بما يفيد ملائمة هذه المعاهدة مع القوانين الداخلية، على الرغم من أن الفساد يعد من بين أهم العوامل التي تعوق الاستثمار والتنمية فيه، لدرجة اتخذ معها طابعا منهجيا وأصبح القاعدة لا الاستثناء .
فالفساد يحول دون تحقيق مبدأ التنافسية، ويفضي إلى اتخاذ قرارات خاطئة، الأمر الذي يفضي إلى التخطيط لمشاريع خاطئة بأسعار خاطئة، وتنفيذها من طرف المقاولين الخطأ، وبالتالي تسليم مشاريع دون المستوى المطلوب، تعوق تحقيق التنمية عوض أن تسعى إلى تحقيقها . وهذا ما أشار إليه عاهل البلاد غير ما مرة، كان آخرها خطابه السامي بمناسبة حلول الذكرى 18 لتربع جلالته على العرش، حيث أكد على أن الاختيارات التنموية تبقى عموما صائبة، إلا ان المشكل يكمن في العقليات التي لم تتغير وفي القدرة على التنفيذ . هذه العقليات التي لم تتغير للأسف رغم صدور تقرير البنك الدولي وخطاب السكتة القلبية لسنة 1995، ورغم تبني المفهوم الجديد للسلطة سنة 1999، والتصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد سنة 2003، وإحداث الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة سنة 2007، وتبني المفهوم الحكامتي لتدبير عمومي حديث....
فبالرغم من المجهودات المبذولة في مجال إصلاح الإدارة المغربية، من أجل تحقيق أهداف التنمية وتأطير وتفعيل مختلف أوجه الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وبالرغم من التحولات الإيجابية التي تم تحقيقها في هذا الجانب، إلا أن غياب الآليات القانونية والمؤسساتية تقوض هذه المجهودات . من هنا أصبحت الانتقادات التي يوجهها المغاربة، من العامة إلى أعلى سلطة في البلاد، للإدارة والفساد الذي يعرقل عمل أجهزتها، تدفع إلى التساؤل صراحة عن الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، إذا كانوا كلهم عاجزين عن محاربة الفساد بجميع أشكاله .
إن فهم الفساد لا يتطلب الإكتفاء بتعداد مظاهره، بل يتعدى ذلك إلى تحليل مدى تأثيره في التنمية الاقتصادية والإجتماعية، أي البحث عن ماهية الفرص الإقتصادية المتاحة، ومن يستعملها أو يستفيد منها . إن الأمر يتعلق بتنوع في مظاهر الفساد وأسبابه وتأثيره في المجتمع بأشكال متباينة، وهو ما يتطلب إجراءات مضادة ملائمة ومصممة بعناية، لأن المفروض في الإدارة أن تتوخى في قراراتها تحقيق المصلحة العامة بالدرجة الأولى، وإذا تدخل الفساد فقدت المصلحة صفة العمومية .
وسواء كان الفساد، في صفته المخملية، والذي يشكل تهديدا كبيرا للأموال العامة، أو فسادا عاديا، يقع فيه صغار الموظفين في تعاملهم مع المرتفقين، فإنه يؤثر على أخلاقيات وحسن سير العمل، وعلى قيم المجتمع، وينعكس بشقيه، وبشكل جلي، على الممارسات اليومية لعمل الإدارة، فصبح الرشوة مقوما تحفيزيا للموظف لتنفيذ وظيفته، مع العلم أنه يتلقى أجرته مقابل أداء هذه الوظيفة، حينها تتحول الوظائف العامة إلى أدوات للإثراء الغير مشروع، لذلك ما إن يذكر الفساد في القطاع الحكومي حتى تتبادر إلى الذهن مباشرة الرشاوى التي تدفع أو تؤخذ نتيجة منح عقود أو خدمات . وحتى المواطنين أصبحت لديهم قناعة بأنه لا يمكن تحقيق حاجياتهم الإدارية بدون دفع مقابل، لدرجة أصبحت للرشوة عدة مسميات لتبريرها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وجود آفة تنخر الجسد الاجتماعي وتؤثر على الأداء الإداري .
إن هذه الآفة التي يتم اليوم تبخيسها تقود إلى العديد من النتائج السلبية التي تنعكس على عملية جذب الاستثمارات الأجنبية، وتؤدي إلى تدني مستوى استثمار رؤوس الأموال المحلية، وهدر الموارد المالية، بسبب تداخل المصالح الشخصية بالمشاريع التنموية العامة، وارتفاع الكلفة المادية كنتيجة لهدر المال العام، وكذا هجرة الكفاءات الاقتصادية نظرا لغياب التقدير والمحسوبية والمحاباة في تولي المناصب . مما يجعل من أي عملية إصلاحية لمحاربة الفساد بكل أشكاله، دون تبني تغييرات حقيقية متواصلة وشاملة تسييرا وتنظيما ومشاركة ورقابة، إجراءا قاصرا عن تحقيق الهدف المنشود .
منبر أنفاس