لازال المجتمع المغربي يتفاعل مع خطاب الملك الأخير في افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، الذي توعد فيه النخب السياسية بمختلف أطيافها حكومة ومعارضة وأعضاء البرلمان ومجالس منتخبة ومحليات بزلزال سياسي، قد يغير بشكل راديكالي المشهد السياسي في المغرب، ويؤسس لميكانيزمات ثورية مبتكرة، تقطع مع الأسلوب الشعبوي والعشوائي الذي يطبع عمل الحكومة والأحزاب والإدارة المغربية، ويدفع بتغيير عميق في هياكل الدولة.
و يؤكد الخطاب الملكي عزم المملكة من خلال رأس الهرم السياسي على القطيعة مع زمن التغاضي والتسامح مع المقصرين في أداء الواجب، ويشدد على أنه قد مضى وقت التنظير والتجريب، وأظلنا زمن التطبيق المباشر و الإعمال الصارم للقانون وإقامة حدوده، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن وقت "النقد من أجل النقد"قد ولى،وإنما هيإرادة راسخة "لمعالجة الأوضاع،وتصحيح الأخطاء، وتقويم الاختلالات"، تحذوها "مقاربة ناجعة ومسيرة من نوع جديد".
مسيرة من نوع جديد إذا، لأن المسيرة الحالية التي هي امتداد للبنكيرانية أوصلتنا إلى حافة الهاوية، فبعد التجربة البئيسة لحزب العدالة والتنمية في الحكم-التي لا تختلف كثيرا عن تجربة الإخوان المسلمين الكارثية في مصر- بات واضحا أن انضمام هذا الحزب الى العمل السياسي منذ ان أسسه الدكتور الخطيب، كان من أعظم الرزايا التي مني بها المغاربة في حياتهم السياسية وتدبير شأنهم العام، بل وأصبح عائقا مؤرقا في سبيل الإصلاح لن ينفع معه إلا زلزال يهد الزعامات الأسطورية، ويغير الطبائع المدخولة، ويقوم الأوضاع المختلة والذمم الفاسدة، ويزعزع الكيانات التي اهتزت وربت ثم تكلست كالصخور الثقيلة على كاهل المغاربة، وجعلت حركة التغيير بطيئة بل مستعصية.
عبد الإله بن كيران، أول تلك الزعامات المتكلسة التي ينبغي أن يأتي عليها الزلزال من قواعدها مهما تظاهر بالقوة والصلابة، واستغرق في الشعبوية والغوغائية، وبرغم جوعه الشديد إلى السلطة، وتمسكه المستميت بالأمانة العامة لحزبه لدرجة بلغت أن يعدل في القانون الداخلي للحزب للظفر بولاية ثالثة على طريقة الديكتاتورية الجزائرية، فإن الزلزال لا بد أن يجعل منه عبرة لمن يأتي بعده، لأنه أحد أبرز الوجوه التي تحملت مسؤولية الشأن العام ثم أخلت بمقتضياتها وتنصلت من مسؤوليتها، وأساءت إلى صورة السياسي،وكان بن كيران طيلة مدة رئاسته للحكومة مضرب المثل في الصلف والكسل والخمول، وتستدعي صورته إلى الذهن سوء التدبير وضعف الكفاءة وانحطاط الممارسة وسوقية الخطاب.
وكما أن النظام العسكري في مصر دشن مؤخرا حملة لجمع التوقيعات للجنرال عبد الفتاح السيسي، عنوانها"عشان تبنيها" لمطالبته بالترشح لفترة رئاسية ثانية، لتظهر الأمور كأنه يلبي رغبة شعبية وليس طموحا شخصيا، كذلك صرح بن كيرانبأن مرحلته قد انتهت إلا أنه قد يعود مضطرا نزولا عند رغبة المناضلين في الحزب "باش يبنيها حتى هو"، مؤكدا أن إلحاح المواطنين على بقائه في المشهد السياسي المغربي دفعه إلى عدم التخلي عنه، وطبعا لن تجد ديكتاتورا واحدا ظل على رأس حزبه مدى الحياة؛ إلا وحجته الدائمة هي أن الشعب والمناضلين لا يستطيعون التخلي عنه، تلك كانت حجة القذافي والخميني وستالين وفرانك...
وهو خير مثال على الدور المهم الذي يلعبه الملك في المغرب لتخليص الشعب من أمثال هؤلاء الديكتاتوريين تحت التمرين، الذين إذا لم تقص أجنحتهم مبكرا، نبتت لهم مخالب وأنياب الديكتاتور المتمرس، وطوروا بشكل سريع غريزة الافتراس، وكما في المثل "حتى واحد ما خرج من كرش مو معلم"، ولكنه مسار بدأه مع رضاعة فنون الديكتاتورية من معلمه الأول عبد الكريم مطيع في الشبيبة الإسلامية السيئة الذكر، ثم تدرج واشتد عوده مع إخوانه في حزب الخطيب، ثم تمرس فيها بعد توليه زعامة الحزب ورئاسة الحكومة، لذلك من الصعب فطامه على كبر، لكنه ليس أمرا مستحيلا.
ابن كيران لن يرعب الإرادة الملكية ويفل من عزمها باالتهويل الذي يقوده فلوله في شبيبة العدالة والتنمية؛ للترويج له والنفخ فيه والزعم بأن له شعبية طاغية، فقد ظل يزايد على المؤسسة الملكية وعلى الشعب وعلى المنطق، وحتى على الواقع المزري الذي خلفه وراءه، وأبدى رعونة شديدة في نكران فشله، مستسلما لنرجسية كاذبة تصور له نفسه على هيئة الزعماء الأفذاذ الذين قضوا عمرهم في النضال، بينما لا يعدو أن يكون دونكيشوت آخر يحارب طواحين الهواء بسيف من خشب، مع الفرق أن دون كيشوت كان يتوهم جنودا وعساكر، و"دون كيران" يتوهم تماسيح وعفاريت.
إن الرجل بلغ به التأله و الأنانية أن يغري السلطة بحزبه، عندما دعى الملك إلى حل الحزب إذا ثبت تورطه في"غرام" من الخيانة أو تسبب في تأخير مشاريع الحسيمة، طبعا كان يكفيه أن يدعو الملك إلى أن يقيله ومن معه، لكن الرجل لا يتصور الحزب من دونه، من باب "الأسد أو لا أحد"، وتلك صفة المستبد مثل هيلتر في أيامه الأخيرة عندما كان محاصرا في ملجئه تحت الأرض، وأيقن أن الحلفاء على بعد كيلومترات معدودة من برلين، أمر مستشاره ومهندسه ألبرت شبير، بأن يأمر قيادة الرايخ بإلقاء القنابل على شعبه، لأن الألمان لا يستحقون العيش من بعده، فهو الشعب، ومن دونه لا يستحق أحد الحياة.
لاشك أن فطام بابن كيران والإطاحة به، سوف يمهد الطريق للإطاحة بالرؤوس المتكلسة الأخرى، كالرفيق الحاج نبيل بنعبد الله الذي خرب المدن بدل أن يعمرها، وإدريس لشكرومحند العنصر الذين لم يستوعبوا ولن يستوعبوا مضمون خطاب العرش، على غرار ما حدث مع العماري وحميد شباط.
طبعا ابن كيران لن يستسلم بسهولة، وسوف يحاول إحداث قلق للسلطة، وليس بعيدا أن يؤلب أفرادا من الشباب العاطفي من قبيلته،ساخني الرؤوس، إلى الخروج في مظاهرات تطالب بعودة الزعيم إلى "قعدته" في الحزب، لكنها مرحلة مصيرية لا مفر من مواجهتها مهما كانت المخاطر والتحديات.
لابد إذا حسب منطوق الخطاب الملكي من "تسمية الأمور بمسمياتها دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي، وضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام التقدم الشامل الذي نطمح إليه".