الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

خالد فضيل: المشهد السياسي والاجتماعي بالمغرب.. نهاية مرحلة !

خالد فضيل: المشهد السياسي والاجتماعي بالمغرب.. نهاية مرحلة ! خالد فضيل
لن يختلف المتتبعون والفاعلون ذووا الميولات الفكرية المنتصرة للبحث الموضوعي، حول حقيقة أن الصراع الضاري حول السلطة ، الذي نشب قبيل، أثناء وأعقاب الاستقلال، والذي تصادمت فيه المؤسسة الملكية مع جزء من الحركة الوطنية والديمقراطية واليسارية على امتداد عقود، لن يختلفوا، لا ريب ، حول أن هذا الصراع هو ما أتاح تشكل البنية التحتية للفساد بكل أشكاله، من جهة، والأرضية الصلبة للعدمية في شتى أصنافها ، من جهة أخرى .هذا الفساد وتلك العدمية اللذان جعلت منهما تطورات الأحداث والأشياء والظروف حليفين استراتيجيين في مخاصمة أي انتقال ديمقراطي ينجز مهام دولة المؤسسات والحق والقانون والتنمية والإنصاف الاجتماعي .
لقد وجد الحكم نفسه، آنذاك، في حاجة إلى حلفاء في الصراع ولم يكن ليكترث بمن يكونون لأن خياراته كانت محدودة في معركة وجود. من هنا جاء إلى الأمن أوفقير وإلى الاقتصاد حيتان الريع وإلى السياسة مفهوم الأعيان الذي بات يتطور، قدحا وقبحا، حتى أصبح يعني في الواقع وفي المخيال الشعبي، أصحاب المال المشروع الذين يحتمون بأي حزب إداري تأتي به موجه الإيحاء ولا يهمه سوى عدد المقاعد في الانتخابات، كفائته الوحيدة تكمن في إتقان فنون نهب خيرات البلاد وسلب إرادة الناس وترهيب من قد يجهرون بالحقيقة.
المقابل من ذلك وجدت فكرة الإصلاح نفسها مطوقة بقوة الفساد الغاشمة وبقدرة خطاب العدم على نثر اليأس في وعي الجماهير.
ورغم كل ما يمكن أن ينتجه الخطاب السياسي في توصيف قتامة أوضاع المغرب ما قبل 1995 على كافة المستويات، فإنه سيكون مجانبا للحقيقة والصواب والموضوعية، القفز على لحظات معينة كانت واضحة فيها إرادة المؤسسة الملكية في التخلص من الشوائب المعيقة للإصلاح حتى وهي في ذروة أزمة الثقة مع قيادات المشروع الديمقراطي.
هنالك وقائع تسند ما نذهب إليه من خلاصات نستدعيها في سياقها التاريخي لاعتقادنا أن ما كان يعيق طموح المؤسسة الملكية والقوى الحقيقية للإصلاح و القوات الشعبية ويشوش على التوافق بين هذه الأضلاع المركزية في ماضي و حاضر و مستقبل البلاد ، للانتقال من وضع سمح للوبيات الفساد و قوى النكوص بإعاقة ممكنات التغيير ، إلى وضع نصلح فيه كل الأعطاب التي شخصها التصور الديمقراطي وتقرير البنك العالمي وخطاب السكتة القلبية فيما مضى ودققها، مع العهد الجديد، سياسة المفهوم الجديد للسلطة و حقوقا توصيات الإنصاف والمصالحة واقتصادا وتدبيرا وتنمية بشرية التقرير الخمسيني، وضع يليق بالمغرب و يشعر فيه المغاربة بالكرامة والحريات والرعاية الاجتماعية و نظافة حياتهم السياسية من القذارة ، التي حتى و إن رغدت في المال تبقى قذارة لا تبعث إلا على القرف.
إن ما كان يعيق هذا الانتقال ما زال مستمرا، و ربما بشراسة أبشع، حتى الآن وما كان يجب الانتهاء منه، آنذاك، بالعمليات الجراحية الدقيقة مازال مطروحا الانتهاء منه بأي ثمن الآن.
سيكون مؤسفا جدا السماح لمن أفسدوا و نهبوا و لطخوا و أمعنوا في مسخ الفعل السياسي و الاجتماعي ولا يخشون إلا على الثروة والحظوة والنفوذ ، سيكون مؤسفا السماح لهم بالاستمرار في المشهد الوطني في مرحلة مجابهة تحديات دولية شائكة مرتبطة بتأمين الاستقرار الاستراتيجي للبلاد ووحدتها الترابية وأوراش وطنية كبرى من حجم المشروعين الاجتماعي والتنموي الجديدين، الواعدين والكفيلين بحجز المغرب بطاقة نادي الدول الصاعدة و سيكون مقلقا للغاية اجترار عوائق الإصلاح في ثنايا مشروع إصلاحي بهذا النبل وبهاته الأبعاد .
ليس بمقدور من قلبهم على البلاد و الناس، استساغة أي تعايش بين إرادتين و توجهين وسرعتين .إرادة الإصلاح التي أفصح عنها الملك منذ صيف 1999 وتوجه الدمقرطة والحداثة والتقدم الذي يترجمه عبر المبادرات و العمل الدؤوب و السلوك السياسي وسرعة التعاطي مع المعضلات الكبرى التي تتوهج أكثر وأكثر رغم كل الإكراهات و بين إرادة لا تبتغي ، في المقابل ، سوى احتلال المؤسسات وتعزيز المصالح وإعادة الانتشار في رقع التحكم بشراء الضمائر واستغلال بؤس الناس وإشهار ورقة القرب من مراكز القرار وتوجه ، في النقيض، يمقت الدمقرطة والمحاسبة وحقوق البشر وبطئا، عكس مجريات الانتقال، يعمل على رعاية أسباب التأخر واحتجاز إمكانيات الجماعات الترابية والجهات و الدوائر البرلمانية ليرعب بها المواطنين وقد يعبث بكبريائهم ويجعلهم يتسولون ليبقوا خزانا للأصوات أيام الانتخابات .لم يعد ممكنا الرهان على نخب تظهر على شاشات القيادات والفضائيات لتتحدث عن القيم و هي تستند في السياسة على أعيان فاسدين ، لم يعد ممكنا الرهان عليها و هي لم تقدم أي شيء للعهد الجديد و للمواطنين غير الممارسات المشينة و السماجة و الصلافة و دفع الناس إلى البؤس وإلى اليأس .
هناك من نهب خيرات مناطق بأكملها ومنح الساكنة الفقر ومنح الدولة احتجاج الناس ومازل يتنقل من حزب إلى حزب في بحث محموم عن غطاء سياسي للفساد وعن وضع اليد على ما فوق الأرض وما تحت التراب و مازالت أحزاب تزعم النزاهة وتنشد قيادة الحكومة تجد لهم موطئ قدم ليمعنوا فيما أساؤوا للبلاد والمؤسسات والناس فيه .
أين كان هؤلاء عندما أحرق البوعزيزي نفسه في تونس وامتد الصدى إلى عموم جغرافيا العرب من المحيط إلى المحيط؟
أين كانوا عندما كانت الدولة تبتز على ضفاف الوثيقة الدستورية قبيل يوليوز 2011 من قبل من لم يكن الإشكال الدستوري يوما على سلم أولوياتهم؟
أين كانوا حينما احتاجهم الناس ليبلغوا الاستياء قبل أن يغمر الشوارع في الريف وجرادة ومناطق أخرى من الوطن؟
أين كانوا حين كانت الدولة تنتظر دور الوساطة بينها وبين الشارع لئلا يوظف احتجاج اجتماعي مشروع في أجندات إقليمية ودولية تركت أكثر من توجس والعديد من علامات الاستفهام؟
لقد كانوا، بكل بساطة، فاقدين للمصداقية ملفوظين من الملإ وعلى الملإ بل وقد يكون منهم من تأبط الثروة وجواز السفر وتأهب للهروب الكبير .
علينا التحلي بالشجاعة والوضوح الكافيين لقول ما يجب قوله دون لف ولا دوران. لا يمكن استنطاق التاريخ أكثر مما نطق والناس وأطفالنا وعهد الحسن الثالث سيحاسبوننا، بكل تأكيد، سواء بقينا على قيد الحياة أم كنا في ذمة الله.
إنه لمن دواعي الاستغراب والدهشة و التساؤلات المؤرقة أن يومئ البعض لإمكانية إعادة إنتاج تجربة صيف 2008 بتوجه وأدوات ومنطق يعود إلى ما جرب في 1977 .
هذا ديباناج سياسي لا يليق بالمرحلة إطلاقا والأكيد أن تجارب على هذا المنوال لن تعيد نفسها ،في أحسن الأحوال ، إلا في شكل باب مسدود وإثارة لغضب الناس .المثير في الأمر هو إدراك حزب الأصالة والمعاصرة نفسه لهذه الحقيقة .هذا الإدراك الذي جعل مؤتمره الأخير وأمينه العام الحالي يقران بالأخطاء القاتلة المقترفة على امتداد إثنا عشرة سنة ويبتغيا العودة للأصول و لفكرة حركة لكل الديمقراطيين ولتصور براغماتي للتحالفات و لترتيب جديد للخصوم وللقطع مع من قدموا إليه لإخفاء فسادهم في جلباب السلطة أيام لم تكن تفصله و لو شعرة عن السلطة . لن يستطيع من خبرهم المغاربة منذ سبعينات القرن الماضي ويعلمون أسباب نزولهم و السياق و يجيئونهم اليوم بمرشحين رحلوا عمن عزم استعادة قراره السياسي والتخلص من التماهي مع السلطة وبرموز لا يذكرون المغاربة سوى بالسياسة بعد أن افتقدت العمق الفكري وأسقطت من جدول أعمالها قضايا الناس ، لن يستطيع من يعتمدون على الممارسة السياسية والاجتماعية العتيقة للأعيان القدامى والجدد أن يتحدثوا باسم الانتقال إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ولن تسعفهم لا الكلمات ولا الحس الفطري للجماهير في ادعاء أنهم قادمون بعرض سياسي جديد حتى وهم يلوحون و يلمحون إلى القرب من دائرة صناعة القرار .الدولة ، ياسادة، لم تعد في حاجة لمن يتحدث باسمها في الحقل السياسي طالما تحظى المؤسسة الملكية بثقة ورهانات وحب المغاربة وطالما أثبتت صرامتها عندما يتعلق الأمر بالوحدة الترابية الوطنية وبتطلعات المواطنين وطالما أبدت قدرتها على التعايش مع كل القادمين من صناديق الاقتراع بصرف النظر عن مرجعياتهم و أهدافهم و نواياهم المعلن منها و المضمر في تكتيك هنا أو تقية هناك .على النخب السياسية المغيبة للفكر والرؤية والبرنامج و لمصالح البلاد و الناس و المعولة على المال والحظوة و الأعيان الفاسدين، على تلك النخب أن تعلم أنها قد تفوز بالمقاعد في المؤسسات وقد تتصدر المشهد النيابي حتى، لكنها وبهذه النمطية الرعناء وبهذا المنطق الضارب في الاستهانة بمصير البلد والناس و بهكذا عدم التحاق بروح العهد الجديد ، فإن استمرارها في المشهد الوطني لن يجلب لا النمو و لا الثقة و لا إصلاح أعطاب الإدارة ولا التفادي النهائي لأجواء خيمت شتاء 2011 وخريف 2016 ومستهل 2018 . وسيكون سخيفا أن نذكرها بما نطق به لطفي بوشناق وهو يمسك عودا ويذرف الدموع لئلا ترتبك بلاده من جديد .
ولئن غضضنا الطرف عن الانتخابات القادمة، اعتبارا للملابسات المحيطة بها ، بدءا بإخفاق تجربة حزب العدالة والتنمية الذي تتحدث عنه الأرقام مرورا بمقت الناس للنخب الحالية وصولا لدروس و عبر الجائحة ، سيبقى السؤوال المنتصب ، طبعا ، هو ما المطروح في مرحلة تجابه فيها البلاد معادلات دولية شديدة التعقيد وتنشد في الآن نفسه تقعيد نموذج تنموي جديد بمواصفات الصعود الاقتصادي و دولة الرعاية الاجتماعية؟
يبدو، في تقديرنا، أن خطاب القوى الديمقراطية كان مجانبا للحصافة عندما كان ينادي بتقليص صلاحيات و حجم وزارة الداخلية ، كما كان على هامش فهم مقتضيات تحقيق مكاسب المغرب على صعيد العلاقات الدولية لما كان يطمح إلى جعل وزارة الخارجية حقيبة سياسية .أوراش المشروع الاجتماعي والنموذج التنموي و الأهمية القصوى للتواصل الجاد مع المواطنين وتنقية السياسة من الشوائب، تستدعي إعادة هيكلة الإدارة الترابية لتصبح أكثر حضورا و كفاءة وقدرة على أجرأة تصور الدولة للإصلاح .كما أن تضاريس المعادلات الدولية يتطلب تعزيز أداء العمل الدبلوماسي بالخبراء في المجال والذين لا يخضعون لتقلبات المشهد السياسي و الانتخابي كما هو عليه الآن.
المغرب في حاجة مرحليا ، وفي انتظار أن تنضج شروط أخرى ، إلى ولاة وعمال أقاليم ذووا بروفايلات تجمع بين المهارة في المجال الاقتصادي و الحس الاجتماعي و القدرة على التوقع وعلى الإنصات وإلى رؤساء جهات من نخب تمدرست في العصامية و المشروعية والحلال وتمرست في مجالات المال والأعمال و التواصل وإلى منسقي فرق نيابية يتقنون لغة الاقتصاد والاجتماع و يجعلون الوطن فوق الأحزاب و إلى تعزيز اختصاصات المراكز الجهوية للاستثمار وإدماج مدرائها في سلك العمال (les gouverneurs ) وإلى رجالات سلطة ينهلون من تعليمات الدولة و ليس من إغراءات المفسدين .كما أنه في حاجة إلى سياسة خارجية مبنية على قراءة دقيقة للخرائط الجيوستراتيجية و على حشد ناجع للتحالفات في الاقتصاد والسياسة و المصالح و إنجاز نبيه لاختراقات في جبهات الخصوم وإعادة الإمساك بزمام المبادرات على صعيد القضايا الساخنة في العالم .
أكيد أن مغربا آخر صار ممكنا أكثر من أي وقت مضى وأن مرحلة جديدة تنبثق من صلب تراكمات عقود من السياسات والصراعات والتجارب والمبادرات والصعاب لتقطع مع حقل سياسي واجتماعي موبوء وتقفز بالبلاد نحو الأفضل ونحو النقاء قد بدت معالمها في الأفق المنظور. رأس المال الوطني والطبقة الوسطى وعموم الفئات الشعبية مقتنعون بالأهمية الحيوية للالتفاف أكثر وأكثر حول المؤسسة الملكية في انتظار التفافهم حول توافق تاريخي بين هذه المؤسسة وقوى فكرية وسياسية واجتماعية ستفرزها أوجاع مخاض المرحلة بقوة قوانين التاريخ. المطلوب، فقط، ألا يذخر الحريصون على انتقالنا الديمقراطي لا جهدا ولا حزما ولا فرضا ولا سنة تقتضيهم المعركة ضد الفساد كي ننتهي من مرحلة التعايش التكتيكي مع اللوبيات إياها وننتقل إلى مرحلة الحسم الاستراتيجي مع كافة أشكال وبنيات وعناوين و جيوب مقاومة الإصلاح.
هنا، بالضبط، يكمن، في اعتقادنا ،جوهر الإصلاح و من هذا المنعطف الإجباري يجب العبور إلى مرحلة المؤسسات ذات المصداقية والتنمية ذات الوقع الاجتماعي والسياسة المتصالحة مع الناس .