الاثنين 6 مايو 2024
مجتمع

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود 4

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود 4

البيت العتيق رمز للتوحيد، وما جعل الطواف إلا لذكر الله، وكونه عكس عقارب الساعة، تنبيه إلى الأصل، وعمق الجذور، وهو تبيان لامتداد حياة المسلم من منطلقها إلى نهاية أربه ليكون في جنات الخلد بإذن الله، وهي بذلك الأطول والأزكى والأنفع، يمتح من الأصل والجذر الممتد في التاريخ من حيث التوحيد والانتماء، والمتواصل من حيث ترك الأثر، واستكمال الحفاظ على معاني التوحيد لله تعالى، والسعي لتوريثها للأجيال، طمعا في رضى الله تعالى وفي الاجتماع بالنبئين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا...

في الطواف يلهج الطائفون بالذكر والتهليل والتسبيح، ويجأرون إلى الله تعالى بالدعاء يسألونه تحقيق المأمول، وتلبية الحاجات والرغبات، وأعظمها سؤال مغفرة الذنوب، وتحصيل رضى المولى، والفوز بالجنة دار الرضوان... كل الناس يدندن حول هذه الغايات، وفي الطواف تتجلى آيات الله تعالى في خلقه، حيث يدعو كل بلسانه، خفية وإعلانا، وقد يقرأ من مكتوب بلغته، أو يكرر مع قارئ مرافق له،.. اللغة هنا أداة لتقريب التعبير عن المراد بإخلاص.. في كل ذلك سعة وبعدا عن التحريج...

من أبرز آيات الطواف اتحاد الهدف، بوحدة المدعو سبحانه وتعالى، والتقاء الأجساد، والأنفاس، والمشاعر؛ حيث ترتفع درجة حرارة المشهد برؤية أشكال أداء الطواف، والتداخل بين الطائفين، والدهشة التي تأسر القلوب، وتأخذ بالألباب، فمنهم من يختار الطواف منفردا، ومنهم من يصطحب مرافقا، ومنهم من يأتيه ضمن مجموعة، وربما بالدعاء خلف مطوف أو مرشد...

ومن خلال طريقة أداء الطواف يمكن تمييز الطائفين، ومعرفة مستوى تعلمهم وتخلقهم، ودون ذلك، لكن الجامع بينهم وحدة المعبود المطلع على القلوب... في لحظات الازدحام في الصحن خاصة تكاد تجزم أن الطائفين لا يتحركون بإرادتهم، وكأنهم واقفين على بساط يموج بهم بتناسق تام...

في الشوط الواحد قد يلامس جسدك أجساد طائفين من كل الجنسيات والقوميات والألوان، قد يسير بجانبك أحدهم وآخر أمامك وثالث خلفك وهكذا... وقد تلجأ للوقوف حتى يمر طائف أو مجموعة طائفين؛ كل ذلك يقع ولا مفر منه، والناس في تفهمه مختلفون؛ منهم من يتضجر، ومنهم يتجاهل، ومنهم من يرى في الأمر حكمة تتعلق بما ينبغي أن تكون عليه وحدة المسلمين، وأن يكونوا كما ورد في الحديث الشريف :"المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"..

وفي الطواف يتجاوز عما عمت به البلوى من عدم القدرة على السلامة من لمس النساء الرجال والرجال النساء، لا سيما عند شدة الزحام، فكل رفيقين أو أكثر، لاسيما الأزواج، والآباء والأمهات والأبناء والبنات، ومرافقي الضعفة وذوي الحاجات؛ يجتهدون في عدم ترك بعضهم، حذرا من التيه في الحشود المتلاطمة، والتركيز على صيانة الطواف من البطلان، والحرص على اتمامه دون خلل...

مشاهدة الطواف من سطح المسجد الحرام، أو من أي مكان عل، عبرة للناظر، حيث تبدو الصورة أو المشهد في غاية الجمال والجلال.. إنهم جموع وفقهم الله إلى زيارة بيته، والمشاركة في عرض تعبدي، لا يوجد له مثيل في ملة مطلقاً، وحين تقام الصلاة ينتظمون على شكل دوائر خلف الإمام حول البيت، فتكون الصورة آية في الروعة...

لعلنا نحتاج جميعا إلى التأمل في عباداتنا لنستجلي بعض معانيها وعبرها، ونستمتع بأدائها...