الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الهاشمي نويرة: توافق بلا معنى «مدني» !

الهاشمي نويرة: توافق  بلا معنى «مدني» !

يُخطِئُ مَنْ يعتقد أنّ إثارةَ حركة «النهضة» لمسألة قانون الأوقاف هي مُجرّد ردّة فِعْلٍ على طَرْحِ رئيس الجمهورية لمبادرة المساواة الكاملة بين الجنسين.

وقد يكون تَوْصِيفُ موقف «شيخ» النّهضة بأنّه رجوع الى الأَصل الماضوي الذّي ميّز فِكْرَ «الاخوان» غير دقيق لأنّ هذا التّوصيف يجيب فقط على مسألة سياسية آنيّة وعلى قضية داخلية تهمّ تطورات الوضع داخل حركة «النّهضة».

فأمّا المسألة السياسية فهي متعلّقة بضرورة «مجابهة» مبادرة رئيس الجمهوريّة الخاصّة بالمساواة الكاملة بين الجنسين، لخطورة هذه المبادرة على تماسك الأسس التّي انبنى عليها «فكر الاسلام السياسي» وكذلك ممارسة الأحزاب «الاخوانية» عبر التاريخ، خصوصا في ضوء «الصّدمات» المتتالية التّي تتلقّاها القاعدة الاخوانية والتّي لم تستوعب تكتيكات ومناورات قياداتها وتحديدا رئيس الحركة راشد الغنّوشي، بل إنّ جُزْءًا مهمّا مِنْ قيادات «النهضة» وجد صعوبة فِي هَضْمِ وتَفَهُّمِ مواقف «الشيخ» بما هدّد ويهدّد وِحدَةَ هذا الحزب الذي لم يَستطِعْ أن يرقى الى مرتبة المدنيّة لأنّ ذلك يتطلّب نَسْفًا كَامِلاً للأسس الفكرية والايديولوجية التي قامت عليها حركات «الاسلام السياسي» ...

وإنّ هذه «الشيزوفرينيا» في السلوك «السياسي» لحركة «النّهضة» من شأنها أن تزيد في تعميق الأزمة داخل هذه الحركة وهي أزمة قد يصعب على المدى القريب والمتوسط السيطرة عليها وكَبْتُهَا داخل أُطُرِ وهياكل «النّهضة».

ومعلوم أنّ مِثْلَ هذه التّنظيمات تَدُولُ وتَزُولُ إذا قلّ الانضباطُ داخلها وضَعُفَتْ فيها سُلطة «الشّيخ» أو «الامام» أو «المرشد» .. وهي سلطة كانت تستمدّ قوّتها مِن كَوْنِ مَنْ يَحْمِلُهَا يستند في ذلك الى مرجعيّة دينية وأنّ هذه المرجعيّة الدينية هي التي تتحكّم في لُعْبَةِ السيّاسة بصفة مطلقة ومتعالية ومفروضة على الجميع.

وكان «الزّعيم» داخل هذه التنظيمات يجمع في الغالب بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية.

وبالطبع فإنّ المَسَّ مِنْ قُدسيّة هذه المرجعية هو بداية انهيار لسلطة المركز وتَدَاعٍ مَحْتُومٍ لِسَائِرِ الجسد، وذلك هو دَيْدَنُ كلّ التّنظيمات التّي تمثّل «الديمقراطية» داخلها مسألة شكلية وظيفتها التّسويق للصّورة المدنية حفاظا على «الذات» وَدَرْءًا للمخاطر.

وتَكْمُنُ قوّة مبادرة الباجي قايد السّبسي في كونها حشرت «الشيخ» في زاوية ضيّقة يستحيل عليه الخروج منها بما قد يكون دفعه الى الموقف الأقصى والموغل في الماضوية والرجعيّة : طرح قانون الأوقاف، مُقْفِلاً بذلك باب المدنية الى حِينٍ، لَنْ يَتَحَكَّمَ فيه مستقبلا بحُكْمِ طبيعة قاعدة الحركة المعادية لكلّ حِسّ مدني حقيقي.

رئيس حركة «النهضة» يحاول ويسعى اذن إلى التخلّص مِنَ المأزق السّياسي الذي وضعه فيه رئيس الجمهورية وذلك بانتقاله مِنْ أقصى السلوك المدني الظاهري إلى أَعْتَى المشاريع تطرفا وماضوية ورجعية آمِلاً في المصالحة مع قواعده ومع قيادات حزبه التّي لم تستوعب لعبته السياسية، ولكنّ هذا الظاهري يُخفي في الواقع دوافع قد تكون أهمّ بكثير.

وتقديرنا أن «شيخ النهضة» على وعي تامّ بأن مرحلة التوافق انتهت لأنّها أصبحت مِنْ عوائق الانتقال الديمقراطي وتركيز باقي المؤسّسات الدستورية فضلا عَنْ كَوْنِ هذا التّوافق ـ الذّي غالبا ما وُصِفَ بأنّه مخالفٌ لطبيعة الأشياء ـ لن يساعد الباجي قائد السبسي والحكومة على تجاوز المطبّات والألغام الدستورية التّي شَلَّتْ فيما يبدو النظام السياسي والعمل الحكومي.

ذلك أنّ الدستور أرسى نظاما سياسيا هجينا تشتتت فيه الصلاحيات وتداخلت بشكل أثّر على العمل الحكومي والفعل التنموي، وهذا اضافة الى أن هذا الدستور أسّس لوجود هيئات مستقلّة لا رقابة ولا سلطان عليها وقد أصبحت بالتدرّج دولة موازية لا تخضع لأيّ سُلطة تنفيذية كانت أم تشريعية وهو الأمر الذي زاد في تآكل الدولة وتفتّتها ..

وَوَعْيُ «الشّيخ» بهذا الأمر قاده بحُكْمِ طبيعة تفكيره الموغلة في الماضوية إلى اللجوء والاستنجاد بالأصول بما في ذلك توظيف عودة الاستقطاب بين «الاسلاميين» وغير الاسلاميين وهو يعتقد جازما أنّ في ذلك انقاذا لمسار «النهضة» الداخلي ومُحافظة على سَنَدٍ قويّ لحركة «الاخوان الدولية» عند الاقتضاء .. فرئيس حركة «النّهضة» يخوض في الأوّل والأخير معركة وجود «الاخوان».

وفي المقابل فإن وعي الباجي قايد السّبسي بوصول «التوافق» مع «الشّيخ» الى نهايته قاده الى طرح مبادرة تسمو على الواقع المعيش وترنو الى المستقبل، مُقَادًا في ذلك بفكره الليبرالي المستنير وهي مبادرة مِنْ شأنها أن تُجمّع الطيف المدني باستثناء مَنْ تَاهَ في ثنايا الثوريّة الزائفة والانتهازية المقيتة والحقد الأعمى والرغبة المسمومة في الثّأر ومَنْ ارتمى في أحضان البؤس الفكري الذي تمكّن ببعض النخبة مِنْ أصحاب الدكاكين الحزبية والجمعياتية والحقوقية.

الباجي قايد السبسي قد يكون اقتنع أخيرا بأنّ وجود الدولة مهدّد وبأنّ أكبر تهديد لهذا الوجود هو سياسية التوافق مع «النهضة».

كان هدف «التوافق» جلب احزاب دينية الى منطقة الدولة المدنية لكن الواقع انه صار مطية الاحزاب الدينية لاختراق الدولة المدنية وهي سياسة مثّلت غطاء للنهضة حتى تستكمل هيمنتها على مفاصل الدولة بعدما أَحْكَمت تعطيل منظومة الحُكْمِ عن طريق شبكة الألغام الدستورية الموضوعة وهو توافق مكّنها أيضا مِنَ السّيطرة على تسيير أهمّ القطاعات الاقتصادية ومِنْ ذلك الصناعة والتجارة والتشغيل وتكنولوجيا الاتصال وهي الى ذلك تسير بخطى حثيثة للسّيطرة على الحُكْمِ المحلّي ..

ولا نخال الرئيس قد غابت عنه مِثْل هذه التقييمات لنوايا «النّهضة» وخطورة ذلك على مستقبل الدولة المدنية وعلى النموذج التونسي المتفرّد، والسؤال يبقى هل أنّ الباجي قايد السّبسي يمتلك وسائل تنفيذ سياساته وتصوّراته المجتمعية ؟!.

والرأي عندنا أنّه بامكانه ذلك شريطة النجاح في تجميع النّاس حول مشروع تنموي ومجتمعي حتى لا تجد المشاريع الماضوية بيئة حاضنة وتربة خصبة للتمكّن والانتشار. وضربة البداية لهذا المسار ستكون «انتهت الفسحة...»