الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (25)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (25) الكاتب الإيرلندي جيمس جويس (يمينا) وعبد الصمد الشنتوف

بالأمس، اتصلت بسوزان عبر الهاتف أسأل عنها، تفقدت أحوالها، خفق قلبي بشدة حين كلمتها، صوتها بدا لي رقيقا ورخيما. كنت قد افتقدتها كثيرا، هي أيضا افتقدتني كما أسرت لي بعد ذلك، لم نلتق منذ بضعة أسابيع. كانت حالتها النفسية سيئة للغاية لأن والديها قد انفصلا رسميا. استبد بها الحزن والأسى، والدها غادر المنزل ليعيش مع امرأة أخرى.

 

هكتور مازال يضغط عليها ويضايقها على أمل استرجاع العلاقة الحميمية التي كانت تربطهما سابقا. يرغب في ترميم العلاقة من جديد لأنه يحبها كثيرا. سوزان لا تكن له أي ود وتصر على تجاهله لأنها تحبني. مازال المعتوه يسأل عني بين الفينة والأخرى. أظنه يريد أن يعرف هل غادرت بريطانيا أم لا. أخبرتني بأنه ازداد حقدا وحنقا على العرب والمسلمين أكثر من ذي مضى. ربما لأنني العربي الذي حطم أحلامه، سيما وأني استملت قلب امرأة استبدت بعقله وعشقها بجنون. لقد أخطأ في تقديره لما اعتقد أن سوزان ستعود إليه بعد طردي من الورشة. لأنها  أفصحت عن حبها لي بوضوح، وقالت ستظل تحبني حتى لو رحلت إلى المغرب، ناهيك عن انتقالي إلى بلدة هورسماندن المجاورة للندن.

 

في الليل عندما آويت إلى فراشي اكتسحني حلم مرعب. وقف علي هكتور وأخذ يصرخ في وجهي ويتشاجر معي. أخذ يطاردني ويتوعدني إن لم أبتعد عن سوزان. كنت أحلم أني أمشي بين صفوف متراصة من الأشجار في الضيعة، فاعترض طريقي ومعه ثلاثة كلاب سوداء، انتابني خوف شديد فهربت منه، أخذت أركض وهو يركض ورائي. كلما أركض بقوة يركض بسرعة أكثر، لما ألوي ورائي أرى الكلاب تكشر عن أنيابها وتقترب مني. صرت أجهد على نفسي، هكتور يصرخ كالمجنون ويحرض الكلاب كي تعضني. لكني احتميت بشجرة تفاح باسقة. تسلقتها من شدة الخوف كقرد بخفة عالية، واستويت فوقها. أمسكت بتفاحة وقضمتها، استطبتها كثيرا، كانت لذيذة. نظرت إلى هكتور من أعلى الشجرة فوجدته واقفا قبالتي يشير لي بأصبعه ويحدق في. كنت أشعر بنظراته الحقودة تخترق جسدي. اشتد غضبه فأشار إلى كلابه أن تتسلق الشجرة، أخذ يدفعهم نحو الصعود إلى القمة كي يفتكوا بي، لكنني تصديت لهم بشجاعة وأخذت أقذفهم بالتفاح، أرعد وأزمجر في وجوههم بصوت قوي وكأني نمر محاصر، كنت أصدهم عني وأمنعهم من الصعود.

 

جدتي كانت دوما تقول أن الكلاب في الحلم هم الحساد. كلاب هكتور سوداء شرسة.

 

في الصباح استفقت على صوت مذياع بوريس، كان يستمع لأغنية بولندية رديئة بصوت مرتفع. نظرت قبالتي فوجدت حشمت يصوب عيونه تجاه بورتريه ضخم معلق على الجدار. شده البورتريه الذي يعود للملكة العنيدة فيكتوريا. كان مرسوما بعناية ودقة فنية عالية. ظل يتأمل فيه لبرهة وكأنه يرسمه من جديد في ذهنه. في نفس الآن كان ممسكا بكتاب سميك مكتوب على غلافه "عوليس".

سألته ما الذي أثار انتباهك في هذا البورتريه العملاق؟

- فرد علي ما أقرأه في هذه الرواية الجميلة له علاقة بهذه الملكة القاسية .

شدني الفضول فاستأذنت الجلوس بجانبه ليروي لي قصة هذه الملكة العجوز التي احتلت نصف العالم. استرسل في الحديث وأخذ يروي لي قصة فيكتوريا على لسان أروع أديب في تاريخ الأدب الإيرلندي. رواية "عوليس" تعد من أجمل الروايات العالمية ومع ذلك صاحبها الإيرلندي جيمس جويس لم يحظ بجائزة نوبل للآداب.

 

ينحدر حشمت من جبال القوقاز، تكسو وجهه لحية كثة، عيناه غائرتان، ويدرس التاريخ بجامعة إسطنبول.

- قلت له إنك تشبه أستاذي "ولد عيسى" كثيرا، فهو أيضا لديه لحية مشذبة وينحدر من جبال الريف، وكلاكما تشبهان اللبناني جورج عبدالله، أضفت ممازحا !

- ضحك وسألني ماذا يدرسك؟

- أجبته: مادة التبريد بمعهد التكنولوجيا في طنجة.

 

يعشق حشمت الأدب الإنجليزي ومدمن على قراءة روايات جورج أورويل. قلت له أنا متخصص في مادة تكييف الهواء ولا شأن لي بالأدب العربي ولا الإنجليزي. كما لا أعرف الكثير عن تاريخ الملكة فيكتوريا. كل ما أعرفه هو محطة فيكتوريا للقطارات بوسط لندن.

تابع حديثه وقال: في رواية "عوليس" تصيح إحدى الشخصيات من مدينة دبلن (حتى عظيم الأتراك أرسل إلينا قروشه، لكن الإنجليزية حاولت تجويع الأمة في وطنها، وبينما كانت الأرض مليئة بالمحاصيل اشترتها الضباع البريطانية وباعتها في ريو دي جانيرو).

 

في سنة 1845 اجتاحت إيرلندا مجاعة خطيرة باتت تعرف بمجاعة البطاطس، وعندما علم السلطان التركي عبدالمجيد بالمجاعة قرر إرسال عدة سفن محملة بالبضائع مع عشرة آلاف جنيه استرليني لنجدة الشعب الإيرلندي، في حين لم ترسل الملكة فيكتوريا من مالها الخاص سوى خمس جنيهات، ونظرا لكون إيرلندا واحدة من مستعمرات بريطانيا، رفضت الأخيرة أن ترسو السفن التركية المحملة بالمساعدات الغذائية بميناء دبلن، لذا رست السفن في ميناء مدينة دروهيدا وأفرغت حمولتها خلسة. ومن صور الوفاء والشكر الإيرلندي للأتراك إرسال النبلاء وعامة الشعب برسالة شكر للسلطان التركي، ووضعهم النجمة والهلال على شعار نادي دروهيدا لكرة القدم.

 

 تقول الرواية:

"كان تأثير مجاعة البطاطس كبيرا على الإيرلنديين، وتعد من أخطر المجاعات التي اكتسحت أوروبا. فقد تقلص عدد السكان إلى ثلاثة أرباع، إذ قضى مليون إيرلندي نحبهم وهاجر مليون آخر إلى أمريكا. حينما استقلت إيرلندا سنة 1919 عن التاج البريطاني هاجم الإيرلنديون بدبلن تمثال فيكتوريا فحطموه وأخذ أحدهم يضرب التمثال ويلوح بخمس جنيهات في وجهه. كان يقصد التذكير بالدعم المهين الذي قدمته الملكة للشعب الإيرلندي في مواجهة أكبر مأساة إنسانية حلت بهم".

 

الساعة السابعة صباحا، استيقظ عصمت وهو يعاني من ألم في عنقه، طفق يشتم وسادته المنهكة التي خذلته ويصب جام غضبه عليها. وسادتي أنا لم تخذلني رغم رداءتها ووجود بقعة صلصة طماطم عليها. عصمت يمتلك بنية قوية وقامة فارهة، يمشي كعملاق بابل. بجثته الضخمة ورأسه المسطح يزداد ألما، لأن عنقه لا يتحمل وزن رأسه الثقيل. حينما أراه من الخلف يمشي برأس مائل تتراءى أمامي عقارب ساعة محطة واترلو وهي تشير إلى السادسة إلا خمس دقائق. كلما يحدث له شنآن مع أحمد يسخر منه وينعته بصاحب الرأس المربع. يقول له رأسك يشبه سيارة سيمكا الفرنسية، فينفجر زملاءه ضحكا.

الأتراك لا يقبلون التنابز سوى مع بعضهم البعض، لأنهم شعب عنيد شديد الحساسية ومزاجهم عصبي قاس يتعكر بسرعة.

 

ذات يوم استعمل عصمت دورة المياه فترك خلفه رائحة تزكم الأنوف، ولما جاء بعده بوريس خرج مهرولا من المرحاض واضعا يده على أنفه، فأخذ يحتج بأعلى صوته مشبها عصمت بالخنزير، هذا الأخير لم يحتمل هذا الوصف فأخذ يصرخ ويذكره بحذائه الوسخ الذي تنبعث منه رائحة عطنة. رد عليه بوريس بكلام مشين يسب الأتراك ويقدح في تاريخهم، فما كان من عصمت إلا أن انتصب واقفا وقد جحظت عيناه، انتفضت ثائرته وطفق يمطره بوابل من الشتائم. كانت أول مرة أكتشف فيها مدى حزازات دفينة بين الأتراك والبولنديين. بل معظم شعوب أوروبا يبغضون الأتراك لدواع تاريخية صرفة. ارتدادات هذه الحقبة التاريخية وصلت إلى مزرعتنا بهورسماندن، وتمثلت بجلاء أمامي في حساسيات قائمة بين الأتراك والبولنديين داخل المرآب. يوظف الأوروبيون الأساطير ويتلونها على أبنائهم لإخافتهم من الأتراك، مرد ذلك يرجع إلى كراهية ناجمة عن صراعات تاريخية مريرة بينهما. عندما كنت أشتغل مع القبارصة في ورشة الأحذية كنت أمزح مع زميلي قسطنطين، سألته ذات مرة لماذا أنت بدين؟ يبدو أنك استحوذت على طعام إخوتك. ضحك ورد علي: حينما كنت طفلا صغيرا كانت أمي تطبخ لي طعاما لذيذا، لكني كنت أستعجل في الأكل ولا آتي على كل ما في الصحن، فأنهض بسرعة لاستئناف اللعب مع الأطفال في الزقاق، كانت أمي تهددني بالقول، عليك أن تأكل كل ما في صحنك، وإلا سيأتي التركي ويخطفك. ربما هذا هو السبب لماذا أنا بدين حتى اليوم. قلت له نفس الشيء يصنعه الإسبان مع أطفالهم لثنيهم عن فعل ما، يقولون لهم سيأتي المورو من المغرب ويأكلونكم.

 

على الرغم من اعتزاز حشمت بزعيمه أتاتورك إلا أنه يفتخر أيضا بمجد الإمبراطورية العثمانية. يقول حشمت أن معركة موهاكس تعد من أشهر المعارك التي انتصر فيها الأتراك على الأوروبيين. لقد سحق فيها السلطان سليمان القانوني مملكة المجر وملكها لويس الثاني سنة 1526 .

- استدرت نحوه وسألته: وما قصتكم مع البولنديين إذن؟

- أجابني قائلا: انتصرنا عليهم بقيادة السلطان عثمان الثاني في معركة تسوتسورا سنة 1620، وبقينا هناك مائة سنة بعد ذلك .

قلت له :

- يبدو أنك ملم بكل تفاصيل تاريخ تركيا وأوروبا، الآن بدأت أستوعب الدرس جيدا وفهمت لماذا يتوجس الأوروبيون منكم كثيرا. لقد كنتم سادة العالم تسيطرون على البحر المتوسط والأسود في القرون الخوالي، أما الآن فتم تقزيمكم وحوصرتم في شبه جزيرة الأناضول. تبسم حشمت وقال: ذلك موضوع تاريخي متشعب لا يتسع المجال لنخوض فيه الآن، هيا بنا إلى الحقل لقطف التفاح، فدافيد ينتظرنا بشاحنة الجرار عند بهو المزرعة.