الأربعاء 1 مايو 2024
منبر أنفاس

سليمان العلوي: التفاهة نظام جديد يهددنا

سليمان العلوي: التفاهة نظام جديد يهددنا سليمان العلوي

"التفاهة"، كلمة تتردد كثيرا بيننا اليوم لدلالة، في الغالب، على محتوى غير مفيد، أي غير ذي قيمة. ومعلوم أن الشيء إن كان ذو قيمة صار مطلوبا ومرغوبا، وبالمثل يقل تقدير الناس له عندما تنعدم أو تنقس قيمته. غير أن المتتبع للمحتويات التي تقدمها بعض المنصات الإعلامية والرقمية، رسمية وغير رسمية، سيلاحظ أن معظم ما يستأثر بالاهتمام والتتبع لا يمكن إلا أن يصنف في خانة "التفاهة" تبعا لمحتواه.

 

وإذا كنا قد قلنا بدءا أن المرغوب يكون مرغوبا لقيمته، فهل معناه أننا أصدرنا حكم قيمة خاطئ على محتويات تشهد نسب متابعات وتفاعلات قياسية تعبر عن رغبة المتتبع/ المستهلك فيها، أم أننا أسأنا تقدير المعنى الدقيق "للتفاهة"، فأدرجنا بذلك في خانتها ما لا يتصل بها من قريب أو بعيد ؟ كل هاته التساؤلات دُفِعنا إلى طرحها ونحن نفكر في موضوع المحتويات التي تقدم في مختلف منصات "السوشل ميديا" خاصة منها المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

 

الداعي إلى تناول هذا الموضوع هو القدر الكبير من التأثير الذي أحدثته محتويات تلك القنوات، فقدرتها على الانتشار والامتداد جعلت منها منصات تستأثر بالمتابعة والتفاعل أكثر من غيرها، بل أضحت وسائل تساهم بالقدر الوفير في صناعة جيل يعيش واقعا مشروطا بحتميات وظروف اجتماعية وثقافية معينة، لكنه متصل في الآن نفسه بعالم رقمي شبيه بأخطبوط يسعه مد أطرافه إلى كل بقاع العالم، فهو قادر على اختراق حتى تلك العوالم التي كان يفترض أن تكون خاصة بالفرد وخياراته. وهذا التوصيف ليس محصلة بحث أو تفكير عميق، فالجميع يقر اليوم بزحف "الحياة الافتراضية/ الرقمية" على الواقع الاجتماعي للأفراد، بل قد اختلطا حد التمازج. والمحَصلة أن "صناع التفاهة" قد احتلوا مراتب لم يكونو ليحظو بها في أية فترة سابقة من تاريخ البشرية.

 

والمثير في كل ذلك أن "التفاهة" لم تعد، كما يفترض أن يكون، متوارية من حيث أهميتها وقيمتها خلف القضايا والوقائع الرئيسية للمجتمعات، بل أصبحت "نظاما" مكتمل الأركان، مثلما تحدث عن ذلك الآن دونو في كتابه "نظام التفاهة" الصادر سنة 2015، حيث يرى أننا نعيش فترة مختلفة عن كل فترات التاريخ البشري، فالتأثير وسلطته بعيدة عن من يخول لهم تميزهم وقدرتهم ذلك، بل السلطة( نقصد سلطة التأثير) مبسوطة ومتاحة في يد التافهين الذين استطاعوا خلق نظام جديد قادر على احتواء عدد كبير من مناصريه/ضحاياه. وهي الفئات التي تخص "نظام التفاهة الجديد" بقدر من الحفاوة والتقدير، ويعلنون ولاءهم له بمضاعفة استهلاكهم لمحتوياته، فيتغول ويتجبر التافهون معلنين أحقيتهم في ريادة وقيادة مشهد تنكر لكل من يفترض أن تتردد أسماؤهم في فضاءاتنا وتطفو رموزهم بحمولتها فوق كل الفئات الأخرى تقديرا لمنجزاتهم في مجالات تميزهم المختلفة. لكن التفاهة، بجنودها الأوفياء، حجبت كل معالم الخلق والإبداع والتميز، ووشحت نفسها سيدة مقتدرة علينا، وأحكمت نفوذها إلى أن صار معظم أفراد المجتمع مريدين لها، طامعين في نصيبهم منها، كمنتجين أو مستهلكين لها. فكيف استطاعت التفاهة أن تحدث كل هذا؟

 

يبدو أنه لا يسع بضع أسطر أن تقدم إجابات حاسمة في موضوع مركب ومتشابك الأطراف، بيد أن بعض الأسباب والاعتبارات التي جعلت "التفاهة" تحظى بما تحظى به اليوم واضحة وجلية، إذ من خصائصها مثلا :

- القدرة على الانتشار والتوغل بين الأفراد المستهلكين لها في وقت وجيز أكثر من أي محتوى آخر.

- استهدافها "لعامة الناس" من خلال تقديم محتوى يلامس البعد العاطفي للأفراد بأسلوب هزلي أو "شعبوي".

- الاستثمار في المتداول بين الناس أو خلق مواضيع تحفز التفاعل العاطفي للأفراد (الفضائح، التحديات، العلاقات العاطفية)...

 

من كل ذلك يتضح أن "نظام التفاهة" وجد بيئة خصبة ومناسبة للتغول. فتدني الوعي الاستهلاكي-الإعلامي للأفراد جعل منهم فئة مستهدفة بهذا النوع من المحتوى. والمؤسف أن تداعيات استهلاكها تظهر بسرعة في المجتمع، حيث تفاقمت السلوكات اللاأخلاقية، وتدنى الذوق الفني والثقافي، وتراجع تأثير الوسائط التربوية الأساسية (المدرسة، الأسرة...)، الأمر الذي يجعلنا أمام ضرورة البحث المعمق والتفكير الجاد، لفهم وإدراك ما يحدث من تحولات من جهة، ثم للتدخل لتصويب المسار من جهة ثانية.