الخميس 18 إبريل 2024
اقتصاد

كومينة: استقلالية بنك المغرب لا تجيز التعالي على السلط الدستورية

كومينة: استقلالية بنك المغرب لا تجيز التعالي على السلط الدستورية والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري (يمينا) ومحمد نجيب كومينة

تثير خرجات والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، بعد كل اجتماع فصلي للجنة بنك المغرب التقريرية، كثيرا من الأسئلة حول تصور الرجل، الموظف السامي الموكول إليه تسيير مؤسسة عمومية أساسية تقوم مقام بنك الدولة، لدوره من جهة ولأدوار المؤسسة التي يتولى تسييرها من جهة.

 

ذلك أن والي بنك المغرب يتجاوز خلال خرجاته تلك، في الندوات الصحفية التي يعقدها، حدود اختصاصات بنك المغرب حتى بعد توسيعها بشكل مضطرد مند 2005 بواسطة تعديلات متوالية، بإيعاز منه، هدفت إلى جعل هذه المؤسسة تستلم من الحكومة عددا من الاختصاصات أو تقتسمها معها عندما يكون ذلك غير ممكن، كما هو الشأن بالنسبة للقرار السيادي والسياسي المتعلق بقيمة العملة الوطنية، وهي تعديلات تنخرط في مسار يجعل من بنك المغرب مؤسسة محافظة، إذا شئنا استعمال وصف كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي الأسبق، روغوف، لاتجاه تكريس استقلالية الأبناك المركزية، تحد من قدرة الحكومة على اتباع سياسة مالية أو ميزانية توسعية في ميدان النفقات العمومية تحفر العجز وترفع رصيد الدين العمومي وتنتج مفعولا تضخميا.

 

وفي الندوة الصحفية التي عقدها عبد اللطيف الجواهري، بعد اجتماع لجنة بنك المغرب، شاء أن يمضي بتجاوز حدود اختصاصه إلى حدود قصوى عندما عبر عن جملة من المواقف السياسية المتضمنة لإملاءات تتعلق بإصلاحات هيكلية، وأيضا بالتعاقد مع صندوق النقد الدولي حول خط ائتماني جديد، مفروض أن من يتخذ القرار بشأنها هو الحكومة ولا أحد غيرها أو بالنيابة عنها وأن من يزكيها أو يعدلها أو يسقطها، عندما يتعلق الأمر بإصلاحات يلزم أن تمر من مسار تشريعي، هو البرلمان الذي يعكس، ومهما كانت انتقاداتنا لشروط إفرازه ولتركيبته ولأدائه، تعبيرا عن إرادة الناخبين في بلد اختار أن تجري فيه الانتخابات بشكل منتظم وأن يفرز مجلس النواب الحكومة وأغلبيتها النيابية ولم يعد فيه مجال للحكومات التكنوقراطية التي لا ترتبط بالشرعية الانتخابية والشعبية. وهذا ما لم يكن ليمر هكذا دون أن يثير كل الديمقراطيين الحريصين على تطور الانتقال السياسي ببلادنا نحو ديمقراطية حقيقية تستجيب لتطلعات الشعب المغربي وتخدم سمعتنا ومصالحنا في عالم مترابط، وأيضا على تفعيل دستور 2011 الذي نص على فصل السلط وتعاونها وأفرد أبوابا لكل سلطة وللمؤسسات الدستورية واختصاصاتها بتفصيل غير مسبوق في دساتير المغرب السابقة منذ 1962.

 

والبين أن تجاوز والي بنك المغرب لحدود اختصاصاته، التي تطرق لها في البلاغ الذي قرأه وتم نشره بعد اجتماع لجنته التقريرية، يعكس نوعا من التوتر الذي يحس به هذا المسؤول بعدما فرضت أزمة 2008 المالية والاقتصادية العالمية، ثم جائحة كورونا، اعتماد سياسة نقدية تيسيرية، وانتهى جراء ذلك براديكم استهداف التضخم كهدف مركزي للأبناك المركزية، حيث لم تنتج عن السياسة النقدية التوسعية Quantitative easing التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي وتبعه البنك المركزي الأوروبي، ودشنها قبل ذلك البنك المركزي الياباني، أي مفعول تضخمي لاعتبارات لا يتسع المجال للخوض فيها، بل إن خطر اللاتضخم désinflation ظل هو الخطر الذي يثير التخوفات نظرا لنتائجه الكارثية المحتملة على الاستثمار والإنتاج. ومعروف أن عبد اللطيف الجواهري صاحب خطاب محافظ في هذا المجال وحرصه على توسيع مدى استقلالية بنك المغرب وتوجهه لجعلها استقلالا كاملا يجعل من البنك المركزي دولة لوحدها يعكس هذا التوجه، إذ أن الاستقلال الذي سعى اليه لم يكن ليتصوره المحافظ فولكر الذي كان وراء استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نهاية سبعينات القرن الماضي، والذي انتصر للنقدوية monétarisme في ظل أزمة الانكماش والتضخم التي عرفها عقد سبعينات القرن الماضي.

 

ذلك أن الكينزية تعود اليوم بصيغة جديدة وتفرض تفاعلا جديدا بين السياسة النقدية والسياسة الميزانية لتخطي خطر انكماش لا تضخمي، بل إن السياسة النقدية تتسم اليوم بمرونة غير مسبوقة باعتماد الأبناك المركزية معدلات فائدة مديرية أو مركزية سالبة أو قريبة من السالبة، وتسهيل إعادة التمويل وشراء مختلف أنواع السندات وتوفير السيولة، وهذا ما لا يمكن أن يرضي النقدويين الذين يبحثون عن التضخم وينذرون بمجيئه. ومن الواضح أن توجه الأبناك المركزية نحو مزيد من المرونة يتم اليوم بتفاعل مع السياسات الميزانية الجديدة، ذات الطابع الكينزي، التي لم تفلت منها حتى ألمانيا التي كانت قد جعلت من محاربة التضخم هدفا مركزيا وأولويا لبنكها المركزي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يؤدي إلى تقلص مجال استقلالية تلك الأبناك المركزية ويجعلها تعود الى أدوارها الأصلية في خدمة النمو والتنمية كعناصر لا يمكن للاستقرار المالي أن يقوم بدونهما.

 

هذا فيما يتعلق بسياسة بنك المغرب نفسها، التي لا ننفي أنها تحررت نسبيا من الدوغمائية وكان لتحررها ذاك أثر إيجابي فيما يتعلق بمختلف مهن ووظائف البنك، لكنها مدعوة للتكيف باستمرار والاتسام بكثير من المرونة في عالم يتزايد فيه اللايقين وتتسارع تغيراته، وبالشكل الذي يستدعي اكتساب مؤهلات جديدة.

 

ولابد من الإشارة إلى أن ما يثير أكثر فيما عبر عنه والي بنك المغرب هو أنه بدعوته لتجديد اتفاقية الوقاية والسيولة يدفع نحو تقييد يد أي حكومة تتولى تسيير الشأن العام ودعم رأيه المضاد بشكل مطلق لأي تمويل مباشر، ولو في شكل تسبيقات تعاقدية، للخزينة والذي يجعل من السياسة النقدية قيدا أيضا.

 

لا اعتراض لي، أو لغيري، على تعبير  عبد اللطيف الجواهري عن آرائه الشخصية من مختلف القضايا، التي يمكن أن تفيد بحكم خبرته الميدانية الطويلة، لكن خارج نطاق مسؤوليته كموظف سام يتولى تدبير سياسة عمومية.