جائحة كورنا التي لا زالت تفرض سلطتها على المغرب منذ مطلع شهر مارس من السنة الماضية، أربكت حسابات وتقديرات "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي" خاصة في ظل فرض حالة الطوارئ الصحية وما ارتبط بها من حجر صحي، وكان من الطبيعي أن تمنح اللجنة التنموية مساحة زمنية تتيح لها فرصة تعميق التفكير والتأمل بشأن التبعات المتعددة المستويات المترتبة عن هذه الأزمة الوبائية غير المسبوقة بالنسبة لتاريخ المغرب والعالم، وفي ذات الآن التقاط إشارات ما جادت به الجائحة من دروس وعبر، وهو ما تحقق للجنة بعد أن منحت مهلة إضافية بناء على موافقة الملك محمد السادس، بقصد رفع تقريرها النهائي إلى نظره في أجل أقصاه بداية شهر يناير المنصرم.
وإلى حدود كتابة هذا المقال، نكون قد دخلنا الشهر الثاني دون أن يظهر التقرير النهائي للجنة، في غياب أية آلية تواصلية من شأنها أن توضح السبب أو الأسباب التي أخرت عملية الإفراج النهائي عن هذا التقرير، ونحن على بعد أشهر قليلة من الاستحقاقات الانتخابية المرتقبة، ولما تتعطل قنوات التواصل والإخبار، تتحرك عجلات الترقب والانتظار ويرتفع معها منسوب السؤال والتفسير والتأويل، بحثا عن الحقيقة التي يتبين من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بشأن مشروع تنموي يعول عليه لإخراج المغاربة من عنق زجاجة الارتباك التنموي الذي كرس لسنوات طوال مقولات "مغرب الهامش" و"المغرب العميق" و"المغرب النافع" و"المغرب غير النافع"، وكسب رهانات الإقلاع التنموي الشامل.
إذا كان من الصعب قراءة فنجان الصمت والغموض الذي يحيط بعنق زجاجة التقرير التنموي المنتظر لرصد السبب أو الأسباب التي أعاقت عملية الإفراج عنه في وقته المحدد، فهذا لايمنع من توجيه البوصلة نحو ما تم إطلاقه من دينامية إصلاحية وتنموية، تجسيدا وتنزيلا لما ورد في مضامين خطاب الذكرى 21 لعيد العرش المجيد من قرارات وتوجهات ملكية استراتيجية، مرتبطة في شموليتها بمعالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة الوبائية القائمة ورسم معالم خريطة مغرب ما بعد كورونا، ومنها على الخصوص الإعلان عن تأسيس "صندوق محمد السادس للاستثمار" لدعم الاقتصاد الوطني والرفع من قدراته التنافسية، والإعلان عن "مشروع تعميم التغطية الاجتماعية على جميع المغاربة في أفق سنة 2025" الذي يعد ثورة ملكية اجتماعية غير مسبوقة في تاريخ المغرب، دون إغفال ما تحقق من مكاسب دبلوماسية مرتبطة في مجملها بدعم الوحدة الترابية للمملكة، وما سيترتب عنها من آثار اقتصادية وتنموية واستراتيجية متعددة الزوايا خاصة في جهات الصحراء المغربية.
وهذه المتغيرات وغيرها، لاشك أنها أربكت منهجية عمل "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"، وفرضت عليها إعادة النظر فيما تكون قد توصلت إليه من رؤى وتصورات وخلاصات، مما أخر عملية الإفراج عن تقريرها النهائي خلال الموعد المحدد له، وفي جميع الحالات، يفترض أن تكون خلاصات التقرير المنتظر، مستوعبة لواقع حال المغاربة بكل صراحة ومصداقية وموضوعية وتجــرد،واضعة الأصابع عند ما يعتري المشهد المجالي من مشاهد الارتباك والاختلال والبؤس والإقصاء، ملتقطة ما جادت به الجائحة الكورنيـة من إشارات ودروس وعبــر، مستحضرة عمق ما تعيشه بعض القطاعات الحيوية والاستراتيجية من مظاهر الأزمة وعلى رأسها "قطاع التعليم" الذي يعد الحجر الأساس لأي تصور إصلاحي أو مشروع تنموي، مستوعبة ما فرضته الجائحة من مبادرات وتدخلات إصلاحية ذات طابع استراتيجي، عاكسة لنبض المجتمع وما يحمله المغاربة من تطلعات وانتظارات وأحلام مشروعة في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والمجالية، مقدمة الحلول الناجعة والمتبصرة، التي من شأنها التأسيس لنموذج تنموي جديد في مستوى تطلعات وانتظارات المغاربة، ينقل المغرب إلى مصاف القوى الاقتصادية الصاعدة.
وفي ظل ما يشهده المجتمع من مظاهر الاحتقان، ومن مشاهد اليأس وانسداد الأفق، واستحضارا لما يواجهه البلد من تحديات مرتبطة بالوحدة الترابية، لم يعد ممكنا أن نهدر زمن الإصلاح أو نراهن على برامج ومشاريع تنموية حاملة لمفردات المحدودية والفشل، كما لم يعد ممكنا أن نستمر في سياسة المساحيق أوالترميم أو التضييق على الحقوق والحريات أو التسويف أو المماطلة أو الإقصـاء، كما لم يعد ممكنا أن تظل الشوارع مسارح للاحتقان وملاذا للمحتجين واليائسيـن والغاضبين، لما لذلك من تداعيات على النظام العام ومن آثار سلبية على صورة وسمعة المغرب على المستوى الحقوقي، وما يشهده - اليوم - قطاع استراتيجي وحيوي من قبيل "التعليم" من مشاهد التوتر والاحتجاج والاحتقان، يقتضي استعجال فتح أبواب الحوار ومد جسور الثقة والتواصل مع الفاعلين الاجتماعيين في إطار من المسؤولية والصراحة والمكاشفة، وقد تبين بالملموس أن سياسة الأبواب الموصدة، لم تكرس إلا أحاسيس القلق والتوتر واليـأس وسط الشغيلة التعليمية التي باتت بكل فئاتها ومستوياتها مشبعة بفكر النضال والاحتجاج والاحتقان، وهو واقــع مقلق لا يمكن حصر آثاره في حدود هدر زمن التعلم والمساس بحقوق المتعلمات والمتعلمين في التعلم، أو اختزاله في إرباك سيرارات الموسم الدراسي الذي أوشك على نهايته، بل تمتد دائرة ذلك، لتلامس مستوى المساس بالأمن المجتمعي والتشويش على صورة البلد على مستوى الحقــوق والحريات، وعلى ما يبذل من مجهودات كبيرة في سبيل صون الوحدة الترابية للمملكة وإفشال كل خطط ومساعي الحاقدين والمتربصين.
وفي هذا الإطار، فبقدر ما نصر على الفتح الآني والمستعجل لقنوات الحوار والتواصل، لمعالجة واقع حال مهنة التدريس وفق رؤية شمولية تتحقق معها شروط الكرامة والاستقرار والتحفيـز والتجويد، بقدر ما نأمل أن تكــون "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"، قد انتبهت إلى "المنظومة التعليمية" وأدركت ما يتخبط فيه القطاع من مشاكل وإكراهات متعددة المستويات، واستطاعت أن تقدم الحلول والبدائل، التي من شأنها الإسهام في تنزيل رؤيــة إصلاحية حقيقية تعيد الاعتبار للمدرس (ة)لأنه أساس الإصلاح وصمام أمانه، ومفتاح نجاح أي "نموذج تنموي جديد"، فما يحدث اليوم في الشوارع، من مشاهد الغضب والاحتجاج والاحتقان في التعليم أو غيره، لا يعمق فقط بؤر الغضب والقلق واليأس، بل ويكرس فقدان الثقة في الفاعل السياسي والحزبي والنقابي، وفي السياسات العمومية بكل مستوياتها.
ولابديل إلا الإصغاء لنبض الشعب وتملك أدوات الحـوار والتواصل، وامتلاك القدرة على التفاوض البناء والإقناع والخلق والابتكـار في إطار "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، وإذا كنا اليوم نتوق ونتطلع لكبح جماح جائحة كورونا في أفق العودة التدريجية للحياة الطبيعية، فلابد أن نتوق ونتطلع أيضا إلى التصدي لجائحة "الصمت" و"الأبواب الموصدة" و"انعدام المسؤولية" و"العبث" و"الأنانية" و"الابتزاز" و"التسيب" و"التفاهة" و"الانحطاط"، فمغرب مابعد كورونا أو مغرب المستقبل، لايمكن بناؤه إلا بتملك قيم المواطنة الحقة وما يرتبط بها من مسؤولية ومكاشفة والتزام وتضحية ونكران للذات، وبالإسهام الفردي والجماعي في إدراك دولة الحق والقانون والمؤسسات والحريات والمساواة والعدالة الاجتماعيـة، على أمل أن يكون "النموذج التنموي المرتقب" في مستوى التطلعات والتحديات والرهانات، وعسى أيضـا، أن ننخرط أفرادا وجماعات في كسب رهانات هذا النموذج التنموي لما فيه خير للبلاد والعباد، وليس في مقدورنا اللحظة، إلا أن نتسلح بالأمل ونتطلع إلى المستقبل بعيون مشرقة مفعمة بالحياة، لأننا سئمنا الفشل والارتبـاك وضقنا ذرعا من القلق والترقب والاحتجاج والانتظـار ...