الجمعة 22 نوفمبر 2024
سياسة

الحرّادجـي: قراءة لموقع فجيج في أطروحة موريس فوجاس عن الحدود المغربية "الجزائرية"

الحرّادجـي: قراءة لموقع فجيج في أطروحة موريس فوجاس عن الحدود المغربية "الجزائرية" عبد الرحمان الحرّادجـي،ومنطقة العرجة الواقعة بشمال واحة فكيك
في سياق نزول الجيش الجزائري لمنطقة العرجة بفجيج، الذي أرغم الفلاحين بفجيج على إخلاء ضيعاتهم، وواحاتهم، تحت مسمى أن هذه المنطقة التي يمتلكها فلاحو فكيك، منذ ستينات القرن الماضي، أبا عن جد، تابعة للتراب الجزائري.
 " أنفاس بريس" تنشر، هذه المساهمة لعبد الرحمان الحرّادجـي، أستاذ بشعبة الجغرافيا، بكلية الآداب والعلوم الانسانية - جامعة محمد الأول، وجدة، وهي المساهمة التي شارك فيها في أعمال الندوة التي نظمتها ونشرتها المندوبية السامية لقدماء المقاومين بفجيج عام 2003، تخليدا للذكرى المئوية لقصف الواحة "Bombardement de Zénaga" عام 1903 من قبل الجيش الاستعماري الفرنسي"ـ تعميما للفائدة:
السياق العام لأطروحة موريس فوجاس (Maurice FAUJAS)
قد لا يُهم الحديث أو البحث عن ترجمة وافية ودقيقة مفصلة عن مؤلف هذه الأطروحة بقدر ما يهم مؤلَّفه. كان موريس فوجاس Maurice FAUJAS يعمل محاميا فرنسيا لدى محكمة الاستئناف بمدينة گرونوبل وقدم أطروحة لنيل الدكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية بكلية الحقوق بجامعة گرونوبل سنة 1906 أمام لجنة مكونة من دولاپراديل(G. DE LA PRADELLE) وهيتيي (I. HITIER) وريبو(A. RIBOUD) . وتقع هذه الأطروحة في 140 صفحة من الحجم الصغير توزعتها ثلاثة أقسام تناول أولها معاهدة للا مغنية المبرمة سنة 1845 وتناول ثالثها اتفاقيتا 1901 – 1902 بينما تناول القسم الثاني المرحلة الفاصلة بين الفترتين الأوليين (1845 – 1901).
أما فيما يتعلق بالمضمون فقد وردت هذه الأطروحة محللة للمعاهدات والاتفاقيات من زاوية سياسية واقتصادية مبعدة لكل جانب قانوني وذلك في انسجام تام مع الهاجس الاقتصادي والاستعماري الذي قاد السياسة الفرنسية في شمال إفريقيا إسوة بمثيلاتها الأوربية التي تسابقت وتنافست على احتلال بقاع العالم غير الأوربية طمعا في ثرواتها ومواردها وأسواقها. وهكذا فقد جاءت هذه الأطروحة "العلمية" بعيدة عن المعايير العلمية الأكاديمية سيما وأن موضوعها قانوني أساسا، يتطرق لمعاهدات واتفاقيات يضبطها القانون الدولي من الناحية المبدئية. لم يتطرق الباحث بأدنى قسط من الموضوعية التي يتطلبها البحث العلمي في مفهومه العميق إلى الجوانب القانونية والتاريخية والجغرافية لهذه الحدود التي لم يتناولها في سياق تحليل جيوسياسي، وإنما تحدث عن وثائق وسرد وقائع منتقاة بعناية[1] من تاريخها السياسي مشيرا إلى المكاسب التي حققها تقدم الاجتياح الاستعماري بهذه الخطوة أو تلك أو بهذه المعاهدة أو تلك دون إغفال تحليل الوضعية الجديدة والتطلع إلى المزيد من الإجراءات الكفيلة بتحقيق الاحتلال والاستعمار والمكاسب الاقتصادية. فهذه الاتفاقيات والمعاهدات المجحفة التي كانت تُملَى على المغرب إثر كل تقدم ميداني عسكري تعتبر "باطلة من الناحية القانونية" (عمر بوزيان، 1998، ص 149) رغم أن سلطات المخزن كانت توقع وتصادق عليها مكرهة بشتى وسائل التحايل والابتزاز، بل وحتى إرشاء المفاوضين وشراء ضمائرهم... فهذه التغليفات القانونية بالتوقيع والمصادقة للأفعال والسلوكات الاستعمارية غير المشروعة لم تكن سوى لإضفاء "شرعية" مطلوبة أمام منتظم دولي يعج بالقُوى الاستعمارية المتنافسة على ما كانت تعتبره مجرد فرائس لا بد من الانقضاض عليها. فموريس فوجاس نفسه يتطلع في نهاية أطروحته إلى يوم تمتد فيه السكة الحديدية من تلمسان إلى فاس حيث يقول :"في هذا اليوم (...) سيتضح أننا قمنا بالوظيفة التي يمنحها التاريخ والطبيعة لفرنسا، ألا وهي نشر الحضارة (!) في المغرب وإيقاظه من السبات حيث يُنوِّم الإسلامُ طاقاته وثرواته."
يمكن اعتبار أطروحة فوجاس Maurice FAUJAS عملا جامعيا في خدمة الاستعمار الفرنسي المتربص بالتراب المغربي أُنجزت في فترة حساسة كانت خلالها فرنسا في أوج استعداداتها وتحركاتها لإحكام السيطرة على شمال غرب إفريقيا للوصل بين ما كانت تحتله آنذاك، الجزائر من جهة والنيجر والسينغال من جهة أخرى (أحمد مزيان، 1988، ص 420). كان لابد من التحرك إذن من الجزائر في اتجاه الغرب نحو المغرب وإن اقتضى الأمر إعادة النظر والصياغة والهيكلة لمعاهدة للا مغنية التي كانت تعترف بمغربية بقاع تشكل حجر عثرة أمام تقدم الغزو الاستعماري رغم الغموض المقصود الذي كان يلف بعض مضامينها. كان لابد من تبديد هذا الغموض وتأويله لصالح الخطوات الجديدة بل وتجاوز ما هو واضح بوضعه في تصورات جديدة. وهكذا أضيفت لمعاهدة للا مغنية بروتوكولات 1901 و 1902 التي تبوأت فيها منطقة فجيج مكانة مرموقة نظرا لأهميتها الاستراتيجية.
لقد سبقت مرحلة الغزو الاستعماري مرحلة التعرف والاستكشاف والتجسس كان للجغرافيين فيها باع طويل لدرجة أن الكثير من العسكريين أصبحوا جغرافيين بامتياز كما أن الجغرافيين أصبحوا في خدمة الخطط العسكرية والسياسية بلا منازع. وتُمكِّن قراءة أطروحة موريس فوجاس من اقتفاء أثر العوامل الجغرافية وخصوصياتها وتجلياتها في مسير التوسع الاستعماري بالجنوب الشرقي المغربي عامة وبفجيج خاصة، وإن كانت قد تناولت موضوع الحدود المغربية "الجزائرية" في إطار اقتصادي سياسي.
مكانة فجيج في أطروحة موريس فوجاس
تنطلق التصورات الأولى عن الحدود المغربية الجزائرية لدى فوجاس من معاهدتي 1682 و1767 المبرمتين بين المغرب وفرنسا واللتان تنصان على امتناع المغرب عن تقديم أي نوع من المساعدة لكل من أيالات الجزائر وتونس وطرابلس في حال دخولها في نزاع مع فرنسا مما يؤكد قدم النيات التوسعية الاستعمارية لدى الساسة الفرنسيين. وإثر قيام المغرب بدعم الأمير عبد القادر تم تذكير السلطان سنة 1836 بهذا البند وبالعواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب عن استمرار المغاربة في تقديم المساعدات للقبائل الرافضة للاحتلال والمتمردة على التغلغل الفرنسي في المناطق التي تعتبرها فرنسا ضمن التراب الجزائري. وكان لابد من تجسيد حدود فاصلة مع المغرب فقام الفرنسيون باستبدال اسمهم باسم الأتراك في مفهوم الحدود التي أصبحت بالتالي حدودا "مغربية فرنسية" من حيث المبدأ بصفة فرنسا المالك الجديد للبلاد التي أصبحوا يصفونها ب"بلادنا" (notre territoire)، غير أن الواقع الميداني لا تتوفر فيه أي حدود واضحة مجسَّدة المعالم، مما دفع بالمستعمر الواعي بتفوقه العسكري إلى تكثيف الاستفزازات والتوغل لفرض مفاوضات مجحفة تتكلل بتوقيع معاهدات تعترف بما تريده ولو مرحليا. وهكذا يعتبر فوجاس أن القوات الفرنسية "كانت تقوم بواجبها" (!) (ص 22) في معركة إسلي بينما قام زملاء لهم بقصف طنجة والصويرة في شهر غشت 1844 مما أفضى إلى فرض معاهدة طنجة (10 شتنبر 1844) والتي مهدت لمعاهدة للا مغنية (18 مارس 1845).
نصت معاهدة طنجة على كون الحدود بين الطرفين هي التي كان المغرب يعترف بها إبان الهيمنة التركية على الجزائر وهذا ما ستحرص على تكريسه بعد ذلك معاهدة للا مغنية دون أي تجسيد مادي، ومع ذلك نصت أيضا على وصف طبغرافي لتخطيطها من البحر المتوسط (وادي كيس - السعيدية) إلى ثنية الساسي شرق عين بني مطهر أو راس العين كما كانت تسمى آنذاك. أما استمرارية تخطيط الحدود نحو الجنوب فتنص بشأنها المادة الرابعة على أنها صحراء بدون حدود لا تحرث فيها الأرض وإنما ترعى فيها مواشي القبائل المنتمية للطرفين على السواء وبالتالي تم الاكتفاء بالتمييز فيها بين ما هو مغربي وما هو جزائري، غير أن المادة الخامسة تضيف أن قصور ييش (إييش) وفجيج مغربية مقابل قصور أخرى اعتبرت جزائرية وهي عين الصفراء والصفيصيفة وعصلة وتييوت وشلالة والبييض وبوسمغون. أما جنوب هذه القصور فاعتبر صحراء بمعنى الكلمة غير مأهولة لانعدام الماء فيها وبالتالي تصبح عملية التحديد فيها غير مجدية... والجدير بالتذكير أن اقتصار الانتماء للمغرب على قصور ييش وفجيج جاء نتيجة لقيام السلطة الفرنسية بإرشاء المفاوض المغربي آنذاك (عمر بوزيان 1998، ص 150) وهو السي احميدة بن علي...
ويبرر فوجاس الصيغة التي جاءت بها عملية تعيين الحدود بمحدودية المعرفة الجغرافية والطبغرافية التي كان يتوفر عليها المفاوضون في تلك الفترة فيقول "ينبغي تجنب النظر إلى معاهدة 1945 بالمعلومات الجغرافية والطبغرافية التي لدينا في 1906" ويضيف أن الحكومة الفرنسية بذلت كل ما في وسعها من أجل الحصول على المعلومات الكافية دون جدوى. وفيما يخص الجنوب (منطقة فجيج)، فإن فوجاس يسرد عن الجنرال دولا موريسيير DE LAMORICIEREالمعروف بدرايته أنه قدم معلومات اعتبرها غير ذات قيمة، إلا أنها في الحقيقة تكتسي أهمية كبيرة، إذ يقول في معرض حديثه عن السكان الموجودين غرب جبل العمور: "يوجد جنوب هؤلاء السكان سهل الرمال حيث لا تستطيع القبائل أن تُخيّم مع قطعانها ولا تستطيع اختراقَه سوى القوافل وتشكل من جانبنا لهذا السبب الحدود الجنوبية الحقيقية للجزائر. ويوجد في جهة الغرب السكان الرحّل المنتمون للمغرب ". ويعلق فوجاس على هذا قائلا "لقد تقدمنا للتفاوض مع المغرب بهذه المعلومات : الصحراء تمثل بالنسبة لنا البحر، حد طبيعي اعتقدنا أن ليس فيه شيء نخشاه" (ص 28).
إن هذه المعلومات التي أوردها DE LAMORICIERE تخص الهامش الجنوبي لقصور فجيج ولم يكن مخطئا في وصفها إذ إن ما سماه بالسهل الرملي هو حقيقة ما يُجسّد العِرق الكبير الغربي وهو بحر من الرمال لم تستطع الطرق أن تخترقه إلى يومنا هذا. ولعل هذا ما دفع إلى الإصرار فيما بعد على عدم التنازل للمغرب بعد استقلاله عما يحيط بفجيج شرقا وجنوبا لأسباب استراتيجية من أجل الحفاظ على الممر الإجباري الوحيد الذي يربط شمال غرب الجزائر بجنوب غربها وهذا ما ستكون له انعكاسات مجالية واجتماعية خطيرة على فجيج وساكنته كما سيتضح لاحقا.
ويعلق فوجاس على المزايدات المحمومة التي نشطت لإعداد الذرائع لتجاوز معاهدة للا مغنية تمهيدا لغزو المغرب فيقول : "ممالا نقاش فيه أنه منذ احتكاك قواتنا بالقبائل الرحل التي تقطن بالحدود وقصور الجنوب كان بإمكاننا أن نصرح بإلغاء وثيقة مشوبة بعيب أساسي إذ كان هناك من جانب المغاربة سوء نية وخداع" (ص 43). ويضيف الكاتب أنه من الصعب الاعتقاد بأن المندوب المغربي كان يجهل وجود مجرى مائي بأهمية كبيرة يتمثل في وادي زوزفانة ووادي الساورة ووجود واحات گورارة وتوات... ويقول فوجاس "لا يمكن لفجيج أن تكون بالنسبة لنا بدون مالك، إنها واحة مغربية" فأورد عن "Revue Des Deux Mondes, octobre 1903"(مجلة العالمين) "لقد أقرت الدبلوماسية الأوربية نهائيا وهْم امبراطورية بشساعة ألوان المغرب على الخرائط" ويضيف أنه باستثناء مسألة فجيج لا مجال للندم على ذلك (ص 43).
هكذا إذن ينخرط موريس فوجاس في الحماس الاستعماري وينضم إلى مكتشفي الثغرات في معاهدة للا مغنية بل ويعتقد أن المفاوض المغربي كان مخادعا بعدم تصريحه بالمعلومات الجغرافية الكفيلة بتحقيق مزيد من التقدم مبكرا في مسلسل احتلال التراب المغربي. ويظهر من هذا أن امتلاك المعلومات الجغرافية كان على قدر كبير من الأهمية في حركية التغلغل الاستعماري، وإن كان المحللون يربطون المقاربة التدريجية بتفادي إثارة البريطانيين بوتيرة قد تكون أسرع مما يتقبلون. لقد تنبه فوجاس إلى أن مفهوم "الصحراء أرض لا مالك لها" « res nullius » الذي نصت عليه معاهدة للا مغنية سيلعب دورا هاما في" تحويل ما لا مالك له برأي المغرب وفرنسا سنة 1845 إلى ملكنا في 1906" (ص 34 و40) وأنه لو تم تحديد الحدود جنوب ثنية الساسي لكان ذلك خطأ فادحا، فغياب التحديد في الصحراء فتح لنا كل المسالك الكبيرة للتوغل في الصحراء وسمح بخطانا نحو واحات تيديكلت وتوات وگورارة.
ومع احتدام الصراع على المستعمرات مع أواخر القرن التاسع عشر قادت فرنسا حملات متعددة في اتجاه المغرب دبلوماسية أحيانا وعسكرية أحيانا أخرى وكانت فيها فجيج بؤرة التوتر لدرجة أنها أصبحت تعتبر مسألة "دولية".
يصف فوجاس فجيج بأنها "كانت منطقة الهيجان والتمرد بامتياز وأنها كانت مأوى لقبائل النهب واللصوص وقطاع الطرق الذين لم يكن لهم من المغرب سوى الاسم مما يضفي عليها قوة ومناعة في مواجهة تأديبنا"(ص 51 –54). وبرزت اقتراحات لاحتلال فجيج إثر تمرد سنة 1864 لم يعقبها في السنوات الموالية سوى حملات تعقب اللصوص وتأديبهم في المنطقة مع احترام فجيج، كانت أعنفها خلال سنتي 1881 و 1882 مع ثورة بوعمامة ويتأسف فوجاس في تعليقه فيقول "إن التدخل كان ينبغي أن يتم في فجيج نفسها وليس حولها" (ص 54) وكان يرى مع الكثير من العسكريين في فجيج حصنا حقيقيا في حدودهم يؤوي أكبر الثائرين بحجم بوعمامة وكان يُخشى أن تترتب عن احتلاله تعقيدات دبلوماسية فبرز نقاش حول حق المطاردة المعمول به عادة في القانون الدولي تكلل بتتميمه بحق المطالبة بغرامات مالية عن الأضرار التي قد يُلحِقها المغاربة بمصالح فرنسا ومواطنيها بمن فيهم رحل "قبائلها" الجزائرية وهو الإجراء المكمل للعمل العسكري.
جاء هذا التوجه السياسي الجديد كما يقول فوجاس "نتيجة لمتطلبات الميزانية ومواجهة الأفكار الجديدة التي لم تكن تنظر بعين الرضا إلى الحملات العسكرية المتزايدة" (ص 56). غير أن سلطة المخزن أصبحت بدورها تطالب بتعويضات عن الأضرار التي تلحقها الحملات العسكرية بالقبائل المغربية فتتماطل فرنسا تارة وتراوغ وترفض تارة أخرى متذرعة بكون المتضررين من مناوئى فرنسا وكأنهم لا حق لهم في مقاومة الاحتلال والاستعمار بل حتى رفضه بأضعف الإيمان... ويعلق فوجاس على هذه السياسة فيعتبرها في صالح المغرب مادامت تؤكد سيادته على سكان أفلتوا من سلطته على الدوام. وهكذا في عام 1891 قام السلطان الحسن الأول بتعزيز حامية فجيج التي عين قائدها بعد ذلك على رأس أحد الرتلين اللذين توجها إلى منطقة توات وقد شملت الزيارات العسكرية كلا من تيديكلت وعين صالح والگوليعة تاركة حامية في تيميمون ثم تعيين قائد في إگلي سنتين بعد ذلك، مما جعل الفرنسيين يختلقون مسألة جديدة وهي "مسألة توات" التي بدأت تثير حفيظة كل من إيطاليا وإسبانيا وإنجلترا.
ورغم المخاوف من التعقيدات الدبلوماسية التي تضاربت بشأنها آراء المسؤولين الفرنسيين فقد انتهى الأمر إلى المضي قدما في احتلال هذه المجموعة من الواحات الكثيفة السكان والغنية بحرثها ومائها الوفير فتم إخضاعها وانتزاعها من نفوذ المغرب بخسائر بشرية وتكاليف باهظة في عام 1901 بناء على كونها "بدون مالك" (res nullius) وفقا لمعايير معاهدة للا مغنية، رغم التذبذب في بعض المواقف الفرنسية التي كانت تقر بسيادة المغرب من خلال إعطائها تعليمات صارمة لقواتها بعدم تجاوز وادي زوزفانة ولو بسنتيمتر واحد احتراما لسيادة المغرب على ضفته اليمنى. وهنا ينخرط فوجاس في صف الرافضين لأي سيادة للمغرب على توات اقتصاديا وجغرافيا مدعيا أن "التواتي لا يمكنه أن يعثر على حاجياته من اللحم والقمح والصوف إلا في الجزائر" (ص 62) ويلخص علاقات المغرب بهذا الإقليم في تجارة ضعيفة لأقمشة قطنية وبعض البنادق، ويستشهد بالكاتب رولفس (Gérard ROHLFS) واصفا إياه منتميا إلى الفئة الأقل اتهاما بالانحياز إذ قال إن توات توجد من الناحية الجغرافية خارج المغرب، ثم يستنتج أن توات "لا مالك لها وبالتالي فهي لأول من يحتلها". ويضيف فوجاس "إن لدينا بطاقة بيضاء في المنطقة السلبية" مستشهدا ببوري (M. BOURREE) الذي قال عام 1850 وهو سفير فرنسي بطنجة "مهما فعلنا سنكون ملتزمين حرفيا وروحيا بالمعاهدة، باستثناء احتلال فجيج" (ص 63).
ويتضح من هذا أن فجيج كانت لها مكانة خاصة في توجيه التصرفات الاستعمارية الفرنسية بحكم تثبيتها مع ييش ضمن التراب المغربي في معاهدة للا مغنية. وقد لعب هذا الوضع دورا رئيسا في تخطيط مسار السكة الحديدية عبر الصحراء عندما تشكلت لجنة لذلك عام 1880 إذ تم التفكير في طلب ترخيص من سلطان المغرب قبل أن يتم تجاوز الفكرة باحترام دوائر النفوذ المغربي والالتفاف عليها تجنبا لمتاعب محتملة، وهكذا يصف فوجاس مسار السكة بأنه "أعرج" بسبب هذا الاحترام لمناطق النفوذ المغربي. لكن في الحقيقة ينتهي هذا الاحترام جنوبا في فجيج المنصوص عليها في المعاهدة.
إن نظرةً بمقياس كبير إلى الواقع لتُظهر أن الالتفاف لم يكن في الحقيقة إلا بالنسبة لقصور واحة فجيج التي فصلتها السكة المشؤومة عن العديد من الأراضي التي هي في ملكية أهلها الذين كانوا يستغلونها بانتظام. فالممتلكات من الأراضي التي توارثها أهل فجيج أبا عن جد تمتد إلى ما يحاذي تلك الرمال الصحراوية، التي تحدث عنها لاموريسيير أعلاه، عبر السهل الفيضي لوادي زوزفانة الذي اعتاد أهل فجيج استغلال معادره بورا ومصاطبه سقيا وستكون هذه السكة بمثابة "مسمار جحا" الذي لم يتخلّ عنه لا الاستعمار ولا وارثوه.
وهكذا يأتي بروتوكول 1901 الموقع بين المغرب وفرنسا والذي هو تتميم تطبيقي وتنفيذي لمعاهدة 1845 لينص في مادته الثالثة على أن أهالي قصور فجيج وقبيلة لعمور الصحراء يستمرون في استغلال مغروساتهم وحقولهم ومراعيهم وغيرها كما في السابق وإذا كانوا يملكون منها وراء السكة الحديدية من جهة الشرق يمكنهم استعمالها كليا كما في السابق من غير أن تُخلق لهم عرقلة أو منع، بينما ينص الفصل السادس على حرية التصرف في الممتلكات والمغروسات والمياه والحقول وغيرها التي قد يملكها مواطنو أحد البلدين في تراب البلد الآخر. أما الفصلان الثاني والرابع من هذا الاتفاق فينصان على إمكانية إقامة مراكز للمراقبة والجمارك في أطراف أراضي القبائل المنتمية للمغرب من ثنية الساسي إلى أراضي فجيج مرورا بيّيش. ويعين الفصل التاسع فجيج مقرا لاستقبال المفوض الجزائري مقابل مقر مماثل في جنان الدار لاستقبال المفوض المغربي لشكاوى قبائل الجنوب بالنسبة للطرفين على غرار مركزي وجدة ومغنية في الشمال.
لقد كان من بين أهداف بروتوكول 1901 كما جاء على لسان موقّعه الفرنسي دلكاسي M. DELCASSE إلى جانب الموقع المغربي عبد الكريم بن سليمان "تسوية مبادىء معاهدة مغنية بالنسبة لمنطقة فجيج ومعها المنطقة الواقعة بين وادي زوزفانة ووادي گير". وهكذا كانت محاصرة فجيج التي يصفها فوجاس من جديد مأوى للصوص وقطاع الطرق بدل وصفها معقلا لمقاومي الاحتلال. فبعد استعمال التهديد والردع ميدانيا لاقتطاع منطقة توات بعد احتلالها استعملت كل أساليب المكر والخديعة في النصوص من قبيل اعتبارها "لا مالك لها" ليس ميدانيا وإنما مرجعيا بالعودة إلى معاهدة مغنية، وانتمائها بالتالي لأول محتل الذي هو فرنسا وليس المغرب الذي استمر نفوذه فيها حتى في ظل التغلغل الفرنسي. وللإجهاز على ما تبقى من هذا النفوذ نص الفصل الخامس من اتفاقية 1901 على وضع سكان كل المناطق غير المحددة في معاهدة مغنية أمام اختيارين : إما الانتماء للسلطة الفرنسية فيبقون في ديارهم وإما الانتماء للسلطة المغربية فينقلون إلى حيث ستثبتهم هذه السلطة المغربية مع إمكانية احتفاظهم بممتلكاتهم وتدبيرها بواسطة وكلاء أو بيعها لمن يريدون و يمكن لسكان قصور هذه المناطق أن يختاروا إدارتهم وفي كل الحالات يستطيعون الإقامة في أراضيهم. فكلا الاختيارين لا يغير من الأمر الواقع شيئا بالنسبة لضم كل هذه الأراضي المغربية الإفريقية للامبراطورية الفرنسية الأوربية. وهكذا يعتبر فوجاس هذا الإجراء بمثابة اعتراف مغربي رسمي بحقوق فرنسا في توات.
ولتحديد هذه الإجراءات ميدانيا وتنفيذها تشكلت لجنة قادها من الجانب المغربي السي محمد الگبّاص الذي لم يكن دوره سوى التصفيق لما تريده فرنسا ومباركته والإشادة بما نطق به القائد الفرنسي ريفوال M. REVOIL من عبارات "الصداقة والعطف والعلاقات الودية" التي نطق بها في استقبالهم بمدينة الجزائر وهم قادمين من فرنسا على متن سفينة حربية فرنسية.
ويعلق فوجاس على الاستقبال "الحار" الذي لقيته هذه اللجنة في فجيج لدى وصولها يوم 10 فبراير 1902 حيث ستقيم لمدة ستة أسابيع قائلا : هنا فعلا بعض نغمات نشاز تُظهر الرغبة الجامحة لدى هؤلاء الفجيجيين الممتازين في توزيع بضع طلقات البنادق علينا وقد قال أحدهم بصوت مرتفع لبعض الفرنسيين "لولا طاعة السلطان لما شربتم الآن من ماء آبارنا" (ص 104)بينما رشق آخرون ضباطا بالحجارة وجلدوا فارسا. وهكذا ستُنهي هذه الزيارة أشغالها بتعيين عامل فجيج مفوضا جهويا ويضيف فوجاس أنها بلغت الهدف المنشود في هذه المنطقة وهو دعم سلطة السلطان ونفوذ فرنسا في آن واحد، غير أن الخطوات التي تلتها في اتجاه الجنوب أخفقت في الحصول من سكان قبائل أولاد جرير ودوي منيع وقصورهم على الاختيار بين الإدارتين المغربية والفرنسية متذرعين بكونهم أحرارا ويريدون البقاء كذلك. وإثر ذلك مباشرة استغلت فرنسا عودة الگباص إلى الجزائر للتغطية على هذا الإخفاق بتوقيع بروتوكول جديد يوم 28 أبريل 1902.
تنص هذه الاتفاقية في مادتها الأولى على قيام المغرب بتثبيت سلطته المخزنية ودعمها بكل الوسائل الممكنة في مجموع ترابه من مصب وادي كيس وثنية الساسي إلى فجيج وتدعمه في ذلك الحكومة الفرنسية عند الحاجة بحكم الجوار، بينما تقيم فرنسا سلطتها وتنشر السلم في مناطق الصحراء وتساعدها في ذلك جارتها الحكومة المغربية بكل سلطتها. ويلاحظ في هذا النص أن كلمة فجيج حلت محل عبارة "بلاد فجيج" «territoire de Figuig» الواردة في نصوص الاتفاقيات السابقة مما يفيد تغييرا واضحا في المفهوم قد تكون له دلالة تقليصه إلى الواحة المركزية. وتنص المادة الثالثة على إقامة أسواق في المناطق الحدودية من بينها سوق فرنسية في العين الصفراء وأخرى مغربية في فجيج إضافة إلى أسواق مزدوجة مع تحصيل الضرائب والرسوم على طول السكة الحديدية في بني ونيف والقنادسة. وتركز كثير من نصوص هذه الاتفاقية على الهاجس الاقتصادي التجاري والجبائي، غير أنها تحمل في طياتها تقدما مقنعا للتغلغل الفرنسي. فالمادة الثامنة تنص على وضع المراكز المغربية للمراقبة بين قصور فجيج وفجاجها مما يجرد السلطة المغربية من أي سيادة على محيط الواحة المركزية بحيث توكل مهمة حراسة السكة الحديدية في الصحراء للحكومة الفرنسية وإن كانت تشير إلى عدم تشييدها لأي بناء عسكري بين خط السكة وقصور فجيج. وفي مقابل هذا التجريد تقدم المادة التاسعة "هدية" للسيادة المغربية بحيث تخول لها صلاحية تعيين خليفة لعامل فجيج لتمثيل الحكومة المغربية في أحد قصور القنادسة وبشار وواكدة (الوجدة) لخدمة السلطات "الجزائرية" بدعمها ضد الأشرار اللاجئين إلى القصور (!).
تضاربت المواقف في فرنسا حول هاتين الاتفاقيتين (1901 و 1902) وتراوحت بين منتقد ومبتهج. ويتضح من مضامينها أن فجيج تحتل فيها موقعا محوريا كما تؤكد ذلك الكثير من التعليقات. فموريس فوجاس يشيد بما أسماه "إنهاء مسألة توات وتحرير أيادي فرنسا بالمنطقة وإمكانية التصرف بقوة وقمع الاعتداءات واللصوصية المتنامية حول فجيج دون خوف من التعقيدات الدبلوماسية، بناء على مبدإ المسؤولية الجماعية وتحت ذريعة (هكذا!) التعاون من أجل حفظ النظام في منطقة عجز المخزن عن ضمانه بقُواه الذاتية" (ص 113).
وحسب فوجاس " حدثت أهم عملية نهب يوم 6 ماي 1903 حينما دخل 1500 مغربي، ومن بينهم 600 فارس، إلى "التراب الفرنسي" واستولوا على 600 ناقة محملة ببضائع الدولة بعد قتل أو جرح أربعين من أهالينا، وأكثر من هذا أنهم أرادوا اختطاف الملازم أول گنَاي LieutenantGANAY وفرسانه الثلاثين". وهكذا هيأت الحكومة الفرنسية خطة عمل قمعية تحت ضغط مجموعة الاستعماريين وأعطت أوامرها لقائد فرقة وهران الجنرال أُوكونور Général O’CONNOR بقصف فجيج بتوفر أبسط فرصة لن يتوانى هذا العسكري نفسُه في توفيرها عندما قام برفقة الحاكم العام جونار M. JONNART بزيارة استفزازية وصفها فوجاس بنزهة سلمية[2]، إذ قاما يوم 31 ماي 1903 باختراق فج اليهودية في اتجاه فجيج، برفقة فرقة صغيرة فهاجمهم أهل زناگة فأصابوا بعضهم بجروح (ص 113). ولم يورد فوجاس أي تفاصيل عن هذه "النزهة" العسكرية التي كانت مهمتها الحقيقية هي احتلال الفجاج التي تعتبر منافذ للواحة، كما أن مخطط قصف فجيج الذي كان جاهزا مسبقا لم يكن يتضمن قصر زناگة فقط، وإنما كان يشمل أيضا قصري الحمام والمعيز عند الاقتضاء. ويبدو من تحليل الوقائع أن أهل فجيج كانوا على علم بهذه "الزيارة" التي لم تفاجئهم أو كانوا يتوقعونها على الأقل، إذ استعدوا لها ميدانيا مختبئين مسلحين في الأماكن المناسبة[3].
وهكذا أتاح القائد الفرنسي لنفسه فرصة للقصف الذي حدث يوم 8 يونيو 1903 كما وصفه فوجاس : "سقط وابل من الحديد على زناگة بإطلاق 587 قذيفة مدفعية اختزلت جزءً من القصر إلى غبار"(ص 116). وبعد يومين من هذا العدوان على فجيج والذي كان من بين أهدافه إرهاب سكان الواحة والمنطقة كلها بالقوة التي يمكن لفرنسا أن تستعملها ضد كل من يعترض سبيل طموحاتها الاستعمارية، يدخل جونار إلى فجيج ليخبر أهلها بقرار فرنسا "إحلال الهدوء بعنف (!) في هذه النواحي وأنها تعرف كيف تفعل ذلك" وأبرزَ مجموعة من المطالب تمت تلبيتها في حينها ومن بينها "إيداع عدد من الرهائن (14) ضمانا لتنفيذ هذه المطالب، ودفع غرامة قدرها 60105 فرنك وحرية ولوج القصور والواحة للفرنسيين مع ضمان سلامتهم".
ورغم هذا القمع المفرط لم تتوقف عمليات المقاومة في النواحي مما حدا بالسلطات العسكرية الفرنسية إلى تكثيف حملاتها بعد "تحييد" فجيج التي ظلت حصنا منيعا عرقل الاحتلال لفترة طويلة. وهكذا ينشرح فوجاس للوضع الجديد إذ يقول : "أخيرا في تواتنا (notre Touat) حول فجيج وفي مجموع المنطقة الواقعة بين وادي زوزفانة ووادي گير وفي كل هذا الجنوب الغربي الوهراني الذي جُبْناه بمَراقِبنا والذي نغطيه بحمايتنا أَنجَزت التهدئةُ عملَها : فالاعتداءات أصبحت نادرة والقوافل تعددت وتمر في أمان والسكة الحديدية تُسهم في استتباب الأمن في تخوم الجنوب الغربي الجزائري؛ وقد جاء عامل فجيج نفسه يوم التدشين (15 أكتوبر 1905) ليحيي السلطات الفرنسية ببني ونيف ويطلب منها التوقف عنده أثناء العودة في استقبال كان مناسبة لتبادل عبارات ودية جدا". وهكذا بدا لموريس فوجاس آنئذ أن التهدئة عملية تامة في الجنوب الغربي (ص 118 – 119).
ويكشف فوجاس في معرض تحليله للأوضاع الاقتصادية للحدود المغربية الجزائرية عن أهمية فجيج عندما يُصدر تقويما لمشروع تمديد السكة الحديدية مؤكدا أن من شأنه تسهيل العلاقات التجارية مع هذه الواحة وتهييء التوسع في هذه المناطق. ويستشف من تقريره أن واحات فجيج كانت تشكل حلقة وصل هامة للتجارة الصحراوية إذ كانت تُؤوي مخازن لكل البضائع القادمة ببطء من مليلية فوق ظهور الدواب عبر منطقة غير آمنة، ومع ذلك كانت تلك البضائع تنافس بقوة مثيلاتها التي تصل عبر القطار إلى العين الصفراء، مما أسهم في تنشيط عمليات التهريب (ص 83). ويعلق فوجاس على هذا الوضع الذي يصفه بالكارثي لأن "المتسوقين يتجهون إلى منافسي فرنسا للتزود بالبضائع مشيرا إلى كونه يعرقل التغلغل التجاري والسياسي في أهم جزء من المملكة الشريفة"، مما يكشف بوضوح حدة هاجس التنافس الامبريالي على الأسواق حتى في هذه المناطق الصحراوية النائية التي أصبحت اليوم من الهوامش المهمشة.
ويرى فوجاس نتائج هذه السياسة الاستعمارية في اختفاء كل محطات القوافل التي كانت تفتقر إلى قاعدة اقتصادية ذاتية بسبب استحواذ القطار على أكبر قدر من الرواج ولجوء كل تجار هذه المحطات إلى مركز بني ونيف الذي أصبح متناميا ونشيطا أضعفَ كليا سوقَ فجيج المغربية. ولم يتوان هذا الباحث في نعت التجار الفجيجيين باللصوص قائلا : "إن اللصوص الأبديين لهذا القصر يأتون اليوم للترويج مع بني ونيف تحت حماية المدافع التي لم يشعروا أنهم قادرين على مقاومتها."[4] ويضيف إن سكان قصور فجيج يبتاعون بهذا المركز التجاري كل حاجياتهم بما فيها مواد العيش الأساسية مثل الخبز (ص 130)، غير أن رواجا آخر ظهر في الأفق وهو التجارة المباشرة بين فجيج والمناطق التلية عبر القطار إذ يأتي تجار الواحة المغربية إلى محطة بني ونيف فقط لسحب بضائعهم مما جعل تجار هذا المركز الناشئ يتفرجون على حركة تجارية تمر بعقر دارهم ولا يستفيدون منها بتاتا. وهكذا بادر هؤلاء التجار بتخفيض الأسعار ومنح القروض والتعامل بالمقايضة قصد استقطاب الفجيجيين الذين اعتبرهم فوجاس ضمانا نهائيا لمستقبل بني ونيف نظرا لغِنى واحتهم.
مخلفات سياسة المد الاستعماري على وضع فجيج خلال القرن العشرين
تمكنت السلطات الاستعمارية الفرنسية من رسم حدود بينها وبين المغرب، اقتطعت بموجبها لصالحها ما استطاعت من التراب المغربي بكل الوسائل محاولة إيغالها غربا قدر المستطاع، غير أن تنصيص معاهدة مغنية على مغربية إيش وفجيج والتشبث بذلك اضطر هذا التخطيط إلى العودة شرقا جنوب ثنية الساسي للإحاطة بإيش قبل أن يتوغل غربا ليضم جبال العمور وامتداداتها الجنوبية إلى ما أصبح ترابا جزائريا، ليعود التخطيط من جديد نحو الشرق للإحاطة بواحة فجيج المركزية ويجردها من محيطها الذي تعود ملكية أراضيه لسكان الواحة باعتراف صريح لكل الأطراف قبل الاستقلال وبعده[5].
ويتضح من الأحداث التاريخية أن المستقبل الذي صبا إليه فوجاس لبني ونيف تحقق فعلا خلال فترة من الزمن استغل خلالها أهل فجيج كل ممتلكاتهم بكل حرية وكانت واجهتهم التجارية جزائرية / فرنسية أكثر مما كانت مغربية بسبب البنية التجهيزية للمواصلات التي لعب فيها القطار دورا رئيسا. لكن الأمور تغيرت كثيرا مع مرور الزمن خلال القرن العشرين فأصبحت الهجرة ضبطا تلقائيا للتزايد السكاني الذي كان يوفر بصفة طبيعية فائضا منتظما يُفضي إلى اختلال التوازن مع الموارد.وسوف يعرف الوضع نوعا من التعقيد باستقلال المغرب حيث إن السلطات الاستعمارية الفرنسية رفضت تسوية الوضع لسكان فجيج بتخطيط حدود تضع ممتلكاتهم ضمن التراب المغربي الذي حصل على استقلاله، ربما ظنا منها باستمرار وجودها بالجزائر بينما سلكت السلطات الجزائرية النهج نفسه رغم اعترافها خلال بعض الفترات بحقوق أهل فجيج فوق أراض تعتبرها ضمن ترابها في نطاق الحدود التي ورثتها عن الاستعمار.
كانت السلطات الجزائرية تسمح من حين لآخر لأهل فجيج باستغلال ممتلكاتهم خلف تلك الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية خلال الستينات وإلى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، تلك الممتلكات الواقعة وراء الطريق والسكة الحديدية الرابطتين بين بشار والعين الصفراء (طاسرا وجنان الدار وبني ونيف والمعدر والنخلات وغيرها...) أو بجوارها أو بالقرب منها (تاغلة وتامزوغت والمراجي وأمسلو والملياس وتاغيت وأمغرور وغيرها...)، بل مارس أهل فجيج سيادتهم كاملة بانتظام على ممتلكاتهم من الأراضي الواقعة غرب الطريق والسكة الحديدية (إغزر أشرقي وتامزوغت وتاغلة والمراجي وأمسلو وأمغرور)، إلى أن منعت الجزائر على أهل فجيج المرور بشكل مطلق نحو الضفة اليسرى لوادي زوزفانة إلى حدود فج تاغلة حيث منع المرور نحو الضفتين معا مهددة إياهم بالسلاح (أكتوبر 1976) مع تفاقم أزمة الساقية الحمراء ووادي الذهب إثر تبني الجزائر لموقف معاد للوحدة الترابية المغربية أدى إلى تعقيدات جيوسياسية خطيرة.
لقد رضخ المغرب لهذا المنع وهذه الاستفزازات تجنبا لأي صدام مسلح بهذه المنطقة الحساسة التي عرفت قبل ذلك حربا ساخنة لمدة أربعة أيام سنة 1963 فيما يعرف بحرب الرمال للأسباب الحدودية نفسها. إلا أن الانعكاسات كانت وخيمة على سكان فجيج A. EL HARRADJI, 1997)) إذ فقدت العديد من العائلات موارد عيشها وتقلصت مداخيل الأسر مما أدى إلى ارتفاع وتيرة الهجرة، خاصة مع غياب أي تعويض أو بديل عن الممتلكات الضائعة وتقلص الأمل في استعادتها أو إمكانية استغلالها من جديد، يوما بعد يوم، سيما وأن مالكيها المتوفرون على وثائق الإثبات لم يبادروا بالتخلي عنها بأي شكل من الأشكال القانونية بيعا أو تفويتا أو تنازلا. فالهجرة من فجيج حركة عرفها السكان حقيقة في كل العصور ولكن بحدة أقل ولأسباب متنوعة، لكنها صارت حاليا موجة تجتذب كل من وجد إليها سبيلا، بل أصبحت سببا مباشرا في خراب الممتلكات الزراعية المتبقية المهملة والتي لم تعد تفي بحاجات مستغليها، وخراب المساكن غير الآهلة بسكانها الغائبين.
-----------------------
المراجع والمصادر المشار إليها في النص :
-بوزيان (عمر) (1998) : المقاومة المغربية لاتفاقيات الحدود الشرقية. ندوة "المقاومة المغربية في الجنوب الشرقي" بوعرفة/فگيگ 15-16-17 أكتوبر 1998، ص 149-160. نشر المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 311 ص.
-العماري (أحمد) (1988) : توات في مشروع التوسع الفرنسي بالمغرب من حوالي 1850 إلى 1902 . منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بفاس، 260 ص.
-مزيان (أحمد) (1988) : فجيج "فگيگ" مساهمة في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال القرن التاسع عشر (1845 – 1903) مطبعة فجر السعادة، 592 ص.
DE LA MARTINIERE H.-M.-P., (1896) : Documents pour servir à l’étude du Nord Ouest Africain. Vol. 2, 949 p. Edit. Gouvernement Général de l’Algérie.
EL HARRADJI A., (1997) : Présentation de l’oasis de Figuig. Texte rédigé dans le cadre des projets d’ « Etude du schéma directeur de l’assainissement de Figuig » et d’ « Etude du schéma directeur de l’alimentation en eau potable de Figuig » (AGMIR, Rabat). (Ce texte, sans référence de l’auteur, a été imprimé et largement diffusé par le Conseil Général Seine/Saint-Denis et la Municipalité de Figuig).
FAUJAS M., (1906) : La frontière Algéro-Marocaine. Thèse de Doctorat Es-Sciences Politiques et Economiques. Grenoble, 140 p.
GANDINI J., (1999) : El Moungar les combats de la légion dans le Sud Oranais 1900-1903 ; Extrem’Sud Editions.
 
[1]حاول موريس فوجاس أن يتجنب ذكر أي من الوثائق أوالأحداث التي تعاكس الطموحات الاستعمارية الفرنسية والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، ولعل من أبرزها "حصول سلطان المغرب على خريطة دولية لحدود المغرب وقع عليها جميع قناصل الدول الأوربية بطنجة بما فيها فرنسا، وتوجد توات في هذه الخريطة ضمن التراب المغربي..." (أ. العماري، 1988، ص 94).
[2] حاول البعض إيهام الرأي العام بكون قصف فجيج عامة وقصر زناگة تحديدا جاء بسبب"الاعتداء" الذي تعرض له أوكونور وجونار ومرافقيهما بينما مخطط احتلال فجيج كان جاهزا منذ مدة وكان يؤجَّل باستمرار لأسباب متعددة، كما تثبت ذلك العديد من الكتابات والوثائق والتقارير( ومن ذلك أن الجنرال دولينيي DELIGNYكان قد اقترح غزو فجيج منذ سنة 1866، وأن الجنرال دوويمبفن DE WIMPFEN حصل في عام 1870 على ترخيص من السلطات الاستعمارية للقيام بحملته على وادي گير غربا دون الاقتراب من فجيج حذرا من قوة قام بتشخيصها مرور رتل كولونيو COLONIEU بتاغلة في فاتح أبريل من سنة 1868)، ويتضح أيضا من قراءة بعض هذه الوثائق أن الاستكشافات المكثفة وعمليات التجسس لم تكن تخف مراميها التوسعية والعدوانية ومثالا على ذلك أن الكتاب الضخم الذي أنجزه دولامارتينيير H.-M.-P. DE LA MARTINIERE و لاكروا N. LACROIX وطبعاه في عدة أجزاء خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، تضمن معلومات عن الأهالي تركز بانتظام على الموارد المائية الكفيلة بتزويد الجيوش الفرنسية وخيولها إضافة إلى أعداد السكان دون إغفال أعداد الفرسان وأعداد البنادق المحتملة التي يُؤويها كل قصر (أنجزت الدراسة الخاصة بفجيج سنة 1893). و يستنتج هذان الكاتبان من تحليلهما للانقسامات والتحالفات والتناقضات الموجودة داخل فجيج أنه "لا ينبغي الاعتقاد أنه بفضل هذه الانقسامات يمكن أن يتحقق غزو فجيج دون مقاومة ودون وضع قوات ضخمة على الخط مدعومة بسلاح المدفعية" ج 2 ، ص 506.
[3] تحدث جاك گانديني بتفصيل عن هذه الحملة التي نفذت في الحقيقة خلال عدة أيام. أنظر:
Jacques GANDINI : El Moungar ; les combats de la légion dans le Sud Oranais 1900-1903 ; Extrem’Sud Editions, 1999. pp. 64-73.
[4]دأب المستعمر آنذاك على إطلاق شتى النعوت على أعمال مقاومة الاحتلال (اللصوصية والنهب والسلب وقطع الطريق...) تجنبا لاستعمال كلمة "مقاومة"، وكأن الوجود الأجنبي الفرنسي في هذه المناطق هو الأصل، وذلك لتجريد الأهالي من أي مشروعية في مناوأتهم للغزو الأجنبي في الوقت الذي يريدون إضفاءها على أعمالهم القمعية التي يسمونها "التهدئة" (pacification). ولعل مصطلح "إرهاب" أغنى المستعمر حاليا عن كل النعوت في وصف مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وجنوب لبنان... ومع ذلك فكلمة "مقاومة" تبقى واردة في كثير من التقارير ولا سيما السرية منها، وهكذا يتحدث دولامارتينيير H.-M.-P. DE LA MARTINIERE ولاكروا N. LACROIX عن سكان قصور فجيج "...ولصد الغازي يمكن لأعداء الأمس أن يُسكتوا أحقادهم ويوحدوا جهودهم في المقاومة" ص 507.
[5] ورد في الوثيقة التي تمخض عنها قصف فجيج أن أهل الواحة فرضت عليهم شروط ينفذونها " مقابل تأكيد فرنسا لحرية سكان فجيج وأمنهم وحقوق الملكية فوق بلادها" (!)، علما بأن المادة الثالثة في بروتوكول 1901 تؤكد وجود هذه الملكية بوضوح وبصريح العبارة (أنظر أعلاه)، مما يثبت مغربية كل المنطقة التي يملك فيها أهل فجيج أراض محروثة أو أراض مغروسة أو مياه. وورد أيضا من بين هذه الشروط "منع سكان فجيج من اختراق الفجاج مسلحبن بدون ترخيص" مما يعكس حق المرور الذي يفرضه وجود هذه الملكية.