الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ: في ذكرى "تناوب لم يحدث"

جمال المحافظ: في ذكرى "تناوب لم يحدث" د.جمال المحافظ
قبل 23 سنة، في الـ 14 من مارس 1998، استقبل الراحل الحسن الثاني ( 1929- 1999) بالقصر الملكي بالرباط الحكومة رقم 25 برئاسة عبد الرحمان اليوسفي (1924- 2020 ) الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كان قد عين في الرابع من فبراير من السنة ذاتها وزيرا أول، مما دشن " التناوب التوافقي"، المصطلح الذي تواضعت على تسميته الأدبيات السياسية والإعلامية المغربية.
وآنذاك وصف تعيين هذه الحكومة التي كانت تضم ثلاثة أحزاب من المعارضة، و"وزراء سيادة"، ب" الحدث التاريخي"الذي وضع حدا لقطيعة مع قوى المعارضة الرئيسية دامت لعقود، خاصة منذ أول حكومة برئاسة عبد الله إبراهيم ( 1918-2005)، منالقادة الذين كانوا يوصفون ب"يساريي الهوى"في السنوات الأولى للاستقلال. كما كان اتفاق الفاعلين السياسيين على أن يشكل تأسيس حكومة للتناوب مرحلةلتدشين إصلاحات عميقة بإمكانها أن تنقل البلاد من مرحلة الى مرحلة أخرى تؤهلها لتحقيق انتقال ديمقراطيبناء على خريطة سياسية حقيقية، وواضحة المعالم، تفرزها صناديق اقتراع انتخابات نزيهة.
 بمناسبة ذكرى (20 غشت) 1995 كان الراحل الحسن الثاني،أعلن العزم على مراجعة الدستور الذي جرى سنة 1996 في أفق إحداث برلمان بغرفتين، وهي خطوة فسرت آنذاك بأنها " آلية للتحكم في المشهد السياسي"، تهدف الى " تقزيم دور الكتلة الديمقراطية في حالة فوزها بأغلبية في مجلس النواب، لكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، احتل المرتبة الأوليفي الانتخابات التشريعية في رابع فبراير 1998،بدون أن تحصل " الكتلة الديمقراطية" المعارضة على الأغلبية، لكنها قبلت غالبيتها المشاركة في حكومة تضم سبعة أحزابوعدد من"وزراء سيادة" وبدعم من حزبين ممثلين في البرلمان.
ووصف تشكيل هذه الحكومة رقم 25 في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، بأنه "مؤشرا على تقارب مكونات الحقل السياسي، وصفقة تفاهم سياسي،مبني على الثقة،أكثر منه تعاقد مسطر،كلف تحضيره أزيد من سبع سنوات، وأكثر من 2000 يوم عمل من التفكير والتخطيط والمفاوضات السرية والترتيبات المعقدة، وأيضا من التنازلات المتبادلة" كما جاء في كتاب " التناوب المجهض للإعلامي محمد الطائع.
كماهذه الحكومة كان نتيجة جهود سياسية مشتركة، واعتبارا لأن بناء الديمقراطية كتعبيد الطريق، إذ أنك حين تفتح طريقا، ستتيح التواصل بين الناس، وكذلك الأمر حين توجد مؤسسات ديمقراطية مسلم بها، فإنها تكون أداة حوار وتبادل بل تضامن، حسب ما ذهب إليه في مؤلف " صباح الخير.. للديمقراطية، للغد"محمد العربي المساري ( 1936- 2015 ) وزير الاتصال في النسخة الأولى لحكومة التناوب. 
فعدم حصول "الكتلة الديمقراطية " في الانتخابات على الأغلبية التي ليست في الواقع " لعبة تجميع رقمي"، بل هي عملية يجب أن تسمح بانبثاق أساس مشترك، يتمثل في وحدة البرنامج وانسجام التركيبة والرؤية الاجمالية للأشياء، حسب ما يراه البعض،لكن يطرح بالمقابل تساؤلا حول كيف تكون إحدى أسبقيات برنامج التناوب، هو التخليق مع وجود أطراف مشاركة في الحكومة تتهمها الأحزاب الديمقراطية، بالتهرب الضريبي والغش الانتخابي والفساد الإداري،كما كتب محمد الساسي في مؤلف" دفاتر سياسية".
ومع ذلك فإن حكومة التناوب، كانت تدرك إنها مقبلة على"معركة نضالية كبرى"، وان إرادتها  في التغيير ستصطدم بقوى الجمود والتخلف التي هي دوما نفس القوى التي تشد الى الوراء وتحن الى الماضي، خاصة، كلما كان هنالك اندفاع نحو التجديد والتقدم. فهذه القوى - يوضح محمد اليازغي الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي في حديث نشرته جريدة "العلم" في مارس 1998- ليست أشباحا أو كائنات غيبية، وإنما هي تلك الفئات التي استفادت من الأوضاع السابقة،وتتحصن الآن في العديد من الأجهزة الإدارية والقلاع المالية والاقتصادية.
بيد أن هناك من ينحو الى القول بأن ما ترتب عن واقع مشاركة أحزاب "الكتلة الديمقراطية" في حكومة التناوب، وبفعل ما أحدثهذلك من رجة في المشهد السياسي المغربي، من نتائج عديدة،ساهمت في تطوير نظرة الفاعلين لمشروع الإصلاح وبرنامجه، حسب الأستاذ  كمال عبد اللطيف في كتابه " الاصلاح السياسي في المغرب، التحديث الممكن، التحديث الصعب "، إذ ليس المرء هنا بصدد تناوب طبيعي على الحكم، وإنما إزاء جملة من الشروط الاستثنائية لممارسة الحكم، بشروط لم يسبق لها أن توفرت في الحياة السياسية من قبل، تتولى فيه حكومة مهمة سياسية مزدوجة هي إنقاذ البلاد من مخاطر السكتة القلبية، وتدشين مسار الانتقال الديمقراطي، ضمن شروط انتقالية صعبة.
إلا أن التجربة السياسية المغربية،تفرز عناصر تغيير أكيدة،هي بطيئة ولاشك، والتفاوض حولها صعب وقاس أحيانا، لكن النظام السياسي بكل مكوناته، تمكن من التكيف مع ضغوط الزمن، والانصات الى الاختلافات، والى مصادر الاعتراض، بل واضطر أغلب الفاعلين في الحقل السياسي الى تغليب الرؤية السياسية على القناعات الأيديولوجية كما جاء في محاضرة لصاحب المؤلف الشهير " أمير المؤمنين ..الملكية والنخبة السياسية المغربية" للباحث الأمريكي جون واتربوري في ندوة بالرباط في ربيع 1997 بعنوان " تجارب الانتقال الديمقراطي بالعالم ".
بيد أن مشروع التناوب الذى يحمل الكثير من خصوصيات المغرب السياسي بمختلف معاركه، وصراعات قواه الحية مع ما هو سائد، " لم يذهب بعيدا في عملية تأسيس القواعد المانعة لإمكانية التراجع عن الإصلاحات المحتملة ومكاسبها، الأمر الذي لا يمنع من أن يظل المجال السياسي المغربي فضاء لحصول ممكنات متناقضة"، كما يؤكد كمال عبد اللطيف في مؤلف " العدالة الانتقالية والتحولات السياسية " .
غير أن هناك من يرى أن تعيين ادريس جطو وزيرا أولا سنة 2002، " "بمثابة المسمار الأخير في نعش الكتلة، والخروج عن المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول، من الأغلبية البرلمانية ". وفي المقابل، لم تكن هناك بدائل سياسية، تستطيع أن تعيد للمجال السياسي التوازن الضروري فيه، وهو ما استغلته صحف فتية - خلال تلك المرحلة- وحولت الفعل الصحفي بعد سنة 1998، الى فعل سياسي في حد ذاته، وأصبح التدخل الصحفي تارة يأخذ طابعا أكاديميا، ومرات أخرى يصبح الصحفي منظر استراتيجي أو منشط ثقافي، فمناضل متعدد الابعاد، ووسيط في النزاعات ذات الطبيعة المختلفة، حسب عبد الله ساعف في كتاب "الاعلام ، السياسة والخطوط الحمراء". 
وفي كتاب " سيرة وطن ومسيرة حزب"،  يعتبر محمد اليازغي، أحد وزراء حكومة التناوب"، بإن ما سيسجل لليوسفي خلال قيادته لحكومة التناوب "هو دوره المتميز في سفر المغرب نحو المستقبل، والدفع بالوطن الى رحلة انتقال ديمقراطي، سيعرف مدا وجزرا، لكنه انتقال ديمقراطي، انطلق في مارس 1998، وهي فترة تؤسس لكل مابعدها، وتمهد الطريق لكل ما سيعرفه المغرب، لما ستهب رياح الحرية والديمقراطية للربيع العربي، في حين اعترفعبد الواحد الراضيالكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي السابق، أن " التناوب لم يحدث" بعد مرور 23 سنة عن تأسيس حكومة اليوسفي، على الرغم من اقرار الراضي أول شخصية من حزب معارض ينتخب رئيسا لمجلس النواب في كتاب "المغرب الذي عشته.. سيرة حياة"، بأن ا" بناء الديمقراطية" تتطلب " أفعال بنيوية عميقة واستراتيجية، لكنها تتأخر عن تظهر نتائجها..". 
فالقبول بقيادة تجربة التناوب هي مخاطرة أخد فيها بالحسبان المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية، واليوم وقد انتهت هذه التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديموقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الامام،.. فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني، يلزمنا بالانتظار سنتين، على أمل أن نرى إمكانية تحقق الحلم في انتقال هادئ وسلس نحو الديموقراطية، كما جاء في محاضرة عبد الرحمان  اليوسفي عميد الاشتراكين المغاربة التي ألقاها سنة 2003 في بروكسيل اعلن فيهابالخصوص فشل المغرب في الانتقال من التناوب التوافقي الى التناوب..