الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (22)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (22) شرفاء ركراكة مع صورة مول العودة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الباحثين والفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم).

في الحلقة الواحد والعشرين نقدم للقراء ورقة حول بعض المعطيات والتفاصيل كمفاتيح مهمة لفهم ظاهرة موسم "ركراكة" في سياقها التاريخي والجغرافي والديني في علاقة مع عادات وتقاليد طقوس أهالي ركراكة.

 

"دور ركراكة" هدفه التحري السنوي عن تمدد الإسلام وصلة الرحم والتواصل

تؤكد المعطيات التاريخية أن الحواريين الأربعة (أرثون، وعلقمة، وأردون، وأمجي)، هم الشخصيات الدينية الأساسية الذين كانوا بصحبة المسيح وآمنوا بعيسى كنبي، مما سيعرضهم للاضطهاد من طرف الكنيسة، فقرروا الفرار من الأندلس، واستوطنوا بجانب ضفاف وادي تانسيفت جنوب مدينة أسفي بنحو 32 كلم، فأنشئوا قبيلتهم على ضفاف النهر، قريبا من البحر، ووسط الغابة، وغنى الطبيعة.. فتكاثر نسلهم، وأصبح لهم شأن داخل المجال الجغرافي وخارجه بحكم انفتاحهم وتواصلهم بحرا وبرا.

 

في سفر البحث والنبش في ذاكرة قبيلة ركراكة الأمازيغية التي كان منطلقها الأصلي منطقة "أكوز" بالصويرية القديمة، والتي شكلت القاعدة الأساسية لـ "السبعة رجال"، الذين تتمددوا على مساحة شاسعة ضمت أراضي دكالة و حاحا، فضلا عن وادي تانسيفت وجزء من منقطة متوكة.

 

حسب المصادر التاريخية فأسماء شخصيات "السبع رجال" هم (سيدي عيسى أبو خابية، وسيدي عبد الله أدناس، وسيدي صالح، ووالده سيدي بوبكر الشماس، ثم سيدي يعلى بن واطيل، وسيدي واسمين، بالإضافة إلى سيدي سعيد بن يبقى الملقب بالسابق)، حيث يتضح أن كل هذه الأسماء العربية ذات أصول أمازيغية من قبيلة "ركراكة"، والتي تنتمي بدورها إلى القبيلة الأم وهي قبيلة مصمودة، ثالث أكبر القبائل الأمازيغية بالمغرب.

 

المعطيات التاريخية تفيد كذلك أن الشيخ سيدي محمد بن حميدة الذي عاصر السلطان المولى إسماعيل يرجع له الفضل في إعادة حركية "دور ركراكة" كأقدم موسم مغربي بعد توقيفه لسنوات بقرار سلطاني، باعتباره عالما وشيخا ملما بالتاريخ وكانت له مكانة خاصة لدى قبائل ركراكة، وامتدت علاقته إلى مدينة مكناس، ومكنته من لقاء السلطان المولى إسماعيل ليترافع عن "ركراكة"، ومن تم أحدثت مؤسسة نقيب ركراكة بزاوية بن حميدة بظهير، وكذا المدرسة العتيقة والمسجد اللذين لعبا دور تعليمي خدمة للدين الإسلامي أوكل أمرهما للفقهاء والعلماء ورجال الدين.

 

ومن الأسماء والمعالم التاريخية التي تناولها البحث، نذكر "سيدي يعلى" وهو واحد من "السبعة رجال" الذين يفتخرون برباط شاكر المعروف بـ "سيدي شيكر" بإقليم اليوسفية بمنطقة أحمر، وهو أول مكان للصلاة والعبادة في تاريخ المغرب ومن أقدم الآثار الإسلامية في شمال إفريقيا، خلال فترة عقبة بن نافع الفهري الذي دخل للمنطقة سنة 62 هجرية لنشر مبادئ الدين الإسلامي.

 

في هذا السياق تؤكد المصادر التاريخية (القرن السادس ميلادي إلى نهاية القرن العشرين) أن قبيلة "ركراكة" قد استضافت عقبة بن نافع وفرسانه بمنطقة "رباط أكوز" (مصب تانسيفت) أي قرية الصويرية القديمة" حاليا وفي هذه البقعة الأرضية بالضبط وضع عقبة بن نافع قوائم فرسه في البحر وقال: "والله لو كنت أعلم ما وراء هذا البحر لخضت إليه مجاهد".

 

من أحفاد "السبعة رجال"، سلطان ركراكة الولي الصالح سيدي واسمين، الذي يحكي عنه أهالي جبل الحديد من خلال الرواية الشفوية قولا يؤكد بأن "سيدي واسمين هو من تحمل مسؤولية نقل الرسالة التي سلمهم الرسول لتبليغ الدين الإسلامي لسكان المغرب". وتضيف الأسطورة المتداولة بأن الرسالة "تم دفنها بمكان معين بمنطقة الشماعية بقبيلة أحمر، إلا أنه عند تفقد مكان الرسالة فاضت منه عين من الماء"، هذا المكان هو الذي يحمل اليوم اسم ملاحة زيمة بمدينة الشماعية بإقليم اليوسفية.

 

يوجد ضريح سيدي واسمين بجبل الحديد بالقرب من مدينة الصويرة، الجبل الذي كان شاهدا على التحولات الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في استقرار الإنسان بجانب عيون الماء والغابات وبالقرب من سواحل البحر، حيث عرف ساكنته من أهالي ركراكة بالبسطاء والأتقياء والطيبين الكرماء.

 

أهل المنقطة من ساكنة جبل الحديد، يعتبرون سيدي واسمين "جدهم الذي تفرع عنه أحفاد من صلب ثلاثة من أبنائه توزعوا بين زوايا وأضرحة بمجال الشياظمة والصويرة وحاحا وعبدة والرباط ومكناس..."، لذلك فرمزية جبل الحديد تحيل تاريخيا على رابط ذاكرة "ركراكة" بأجدادهم، وتحيل أيضا على تاريخ الجهاد و التصوف بالمغرب.

 

وتعتبر قرية أقرمود "عروس" ركراكة، وهي التي يتواجد بها ضريح سيدي بوبكر الشماس الذي ساهم في ترسيخ التعاليم الأولى للدين الإسلامي، وهو واحد من السبعة رجال الركراكيين. وحسب الرواية الشفاهية، التي استقيناها من بعض الفعاليات المهتمة بتاريخ المنطقة، فقد سمي بـ "الشماس" لدوره الذي كان يقوم به في الكنيسة، كمساعدة الكاهن في الخدمات الدينية وإقامة الصلوات في الكنيسة.

 

يعتبر ضريح "بوبكر الشماس" المتاخم للزاوية بالقرب من المدرسة القرآنية العتيقة التي مازالت تقدم خدماتها التربوية والدينية حيث يتكون فيها أطفال القرية بإمكانيات بسيطة. كما أنه شاهد على امتداد التاريخ بأن "أقرمود" القريبة من مدينة الصويرة هي منطلق دور ركراكة الذي يعبر العديد من الزوايا بمنطقة الشياظمة.

 

لقد توارث مقدمو "الطايفة" بأقرمود، أبا عن جد، مهمة قيادة "الدور الربيعي السنوي" والتي تتمثل -حسب عدة شهادات- في القيام بمهمة "التحري السنوي من طرف شرفاء ركراكة لبعض القبائل بنقط تواجد مقابر وأضرحة أجدادهم، ليتأكدوا أنهم مازالوا على دين الإسلام، ولم يرتدوا عنه... وإحياء صلة الرحم سنويا، والإطلاع على أحوال أهاليهم.."

 

وحسب شهادات أخرى، فإن "التحري السنوي" من خلال الدور الربيعي لركراكة، يرمز إلى استمرار "العهد على دين الإسلام قبل أن يتقوى حضوره كدين جديد، ومن خلاله يتم تفقد الأهالي هل مازالوا على دين الإسلام، وكانوا كل سنة يتركون فقيها من أجل تعزيز وترسيخ مبادئ الإسلام، والقيام بجلسات العلم والفقه وتبادل المعلومات"..

 

يشمل دور ركراكة تراب الشياظمة، وشرق جبل الحديد حيث يعرف اليوم الأول خروج مقدم "الطايفة" على متن فرسه (مول العودة) الذي يلقبونه بـ "العروس"، وتبدأ الرحلة التي تستغرق عدة أسابيع، تمارس خلالها كل عادات وتقاليد وطقوس أهالي ركراكة.

 

ومن طقوس انطلاق الدور في علاقة بـ "مول العودة" مقدم "الطايفة"، فهو ملزم "باستقبال أهالي ركراكة والزوار وضيوف الموسم في بيته وإعداد وجبة الفطور والغذاء ويباشرون زيارتهم لضريح الشيخ لإقامة الفاتحة والأدعية والترحم على الأموات، وامتطائه صهوة الفرس لإعطاء انطلاقة الدور نحو باقي الزوايا والأضرحة ولقاء أهالي ركراكة".

 

نفس العادات والتقاليد تنطبق على موسم سيدي سعيد السابق، واحد من "السبعة رجال"، الذي يبعد بأكثر من 80 كلم عن زاوية أقرمود، والذي شيد ضريحه السلطان سيدي محمد بن عبد الله. تقول الرواية الشفهية أنه "سبق مرافقيه في الطريق بعد ما كان متخلفا في الرحلة إلى الشرق بسبب المرض"، وقد خلف السابق خمسة أبناء تفرع عنهم أحفاده في زوايا بعدة مناطق بالمغرب (زوايا بالنسب وليس عن طريقة الذكر وممارسة العقدية والتصوف)، حافظت على دورها الديني والتعليمي (زاوية بن حميدة "نموذجا" والتي يحج إليها عشرات طلبة أصول الفقه والدين)...