الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد بوبكري: في التنوير الإسلامي

محمد بوبكري: في التنوير الإسلامي محمد بوبكري
تؤكد تطورات المجتمعات العربية الإسلامية أن مخاطر الإسلام السياسي التكفيري تهدد النسيج الاجتماعي لبلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث دخلت مجتمعات هذه المنطقة في حروب طائفية أدت إلى العصف بأوطانها، وقد تستمر في ذلك. لذلك ظهر بعض المفكرين الذين يرون أن التنوير قد أصبح ضرورة ماسة لهذه المجتمعات لتجنب خرابها. فقد أصبح التنوير ضرورة لمواجهة وباء الفهم الفقهي القروسطوي للتراث العربي الإسلامي الذي بدا لهم أنه يستحق قراءة وفهما تنويريا؛ فهو يستحق ذلك لأنه كان في عصره الذهبي مصدر تنوير للعالم.
يرى أغلب الفقهاء المتشددين أن التنوير مرادف للإلحاد. والحق أن الأمر ليس كذلك. إنهم لا يفهمون دلالة مفهوم "التنوير"، ولا معناه، ما يؤكد أنهم لم يطلعوا على كتابات ج.ج. روسو الذي قام بتقديم تفسير جديد للمسيحية بهدف الخروج من الصراعات المذهبية ووضع حد لوحشيتها وما ينجم عنها من انقسامات ومجازر داخل المجتمع، كما لم يطلعوا على كتابات فولتير وسبينوزا وكانط وهيجل في هذا المجال. إضافة إلى ذلك، فهم لا يميزون بين التنوير المؤمن والتنوير الملحد في الغرب، حيث إن التنوير المؤمن هو الذي يسعى إلى تحقيق المصالحة بين الدين والفلسفة، وبين الإيمان والعقل. كما أنه لا يروم استئصال الدين، بل يمنحه مكانا في الحياة. وكل ما يقوله التنوير المؤمن هو إن هناك تفسيرا أخر للدين غير تفسير اللاهوتيين والفقهاء.
لقد قام التنويريون المؤمنون في الغرب بتقديم تفسير جديد للدين ساعدهم على تجاوز مرحلة الصراعات الطائفية ومجازرها. وبذلك استطاعوا الانتقال من مجتمع الطائفية إلى مجتمع المواطنة، حيث تسود المساواة بين الأفراد بغض النظر عن الانتماء الديني، أو العرقي، أو الجنسي في إطار دولة حديثة تحترم القوانين وتطبقها على جميع المواطنين. فهذا إنجاز كبير يجب أن نعترف به، لأنه أخرج المجتمعات الأوروبية من مرحلة الكراهية والاقتتال إلى مرحلة المساواة والمواطنة والسلام...
ولخروج المجتمعات العربية الإسلامية من المأزق التكفيري وتجاوز العصبيات وما نجم عنها من حروب لا تليق بزمن الثورة المعلوماتية، وما حدث فيه من ثورات فكرية وعلمية، يبدو لي أنه لا بد لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الاستفادة من التجربة التنويرية للمجتمعات الغربية، حيث تم القيام بإصلاحات دينية من داخل هذه المجتمعات. لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تكفر كل الأديان، بل إنها كفرت حتى المذاهب المسيحية الأخرى. وقد مارست ذلك لمدة خمسة عشر قرنا، وانتهت لاحقا إلى مراجعة ذاتها وفتاويها التكفيرية، وتجديد فكرها الديني الذي كان أكبر تجديد في تاريخ المسيحية، حيث قررت هذه الكنيسة تخليها عن تكفير المسلمين، وعبرت عن احترامها لهم، لأنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر. لقد كانت هذه الكنيسة تعتبر نفسها هي الفرقة الناجية عند الله، لأنها كانت تعتمد فتوى مفادها "إنه خارج الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية المقدسة، لا مرضاة عند الله، ولا نجاة في اليوم الآخر". إضافة إلى ذلك، فقد اعترفت هذه الكنيسة بالبوذية وبكل الأديان الأخرى. وهذا ما يعني أن التكفير ليس خاصية لصيقة بالمجتمعات العربية الإسلامية، وإنما كان خاصية مسيحية كاثوليكية (هاشم صالح).
قد يقول قائل: توجد اليوم في عواصم التنوير الغربية تيارات متشددة لا تختلف عن التيارات المتشددة في منطقة الشرق الأوسط. يبدو لي أن ظاهرة التشدد في الغرب هي أمر مختلف، بل إنها ظاهرة سياسية ظهرت لأسباب داخلية في الغرب لا علاقة لها بالدين، ولا بالمذهب، ولا بالطائفة. كما أنها لا تهدد التعددية الفكرية والسياسية، ولا الديمقراطية، ولا الحضارة الغربية. وتعود أسبابها إلى البطالة والمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها هذه المجتمعات.... (هاشم صالح).
وقد يعترض معترضون آخرون على هذا الكلام قائلين: لقد جاء التنوير في المجتمعات الغربية في سياقات مختلفة عن السياسات العربية الإسلامية، ما يعني أنه لا يمكن نقل التجربة التنويرية الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تختلف سياقاتها التاريخية عن السياقات الغربية. يجب أن يعلم هؤلاء أن التشدد المذهبي الديني كان متجذرا في أوروبا، حيث كان الكاهن والكنيسة يراقبان الفرد من المهد إلى اللحد، كما أنهما كان يتحكمان في عقول البشر وتفكيرهم آنذاك. أضف إلى ذلك، أنه كانت هناك محاكم التفتيش، حيث تم قتل المبدعين والمفكرين كما حدث في المجتمع العربي الإسلامي الذي تم فيه قتل بعض المفكرين، كما تم رمي بعضهم الآخر بالزندقة على نحو ما حدث مع ابن رشد المعري وابن عربي وطه حسين ونجيب محفوظ وآخرين.
فضلا عن ذلك، لقد تم قبل قرنين رفض التفسير التاريخي للنص المقدس من قبل الكنيسة ورجالها، لكن بعد مرور زمن غير يسير تراجعوا عن ذلك، وقبلوا التفسير التاريخي لهذا النص. فمتى يقوم فقهاء الإسلام بقبول القراءة التاريخية للنص القرآني الكريم؟ لكن يوجد بيننا وبين الغرب فارق زمني يبلغ حوالي قرنين.
نحن نقوم بقراءة تقديسية تبجيلية للنص القرآني، حيث نرى في ذلك تواصلا مع السماء، أي مع الغيب، أو الخالق. فأنا لست ضد هذه القراءة. لكنني أرى أنها غير كافية، وأريد أن نقوم بقراءات أخرى وعلى رأسها القراءة الفلسفية التاريخية لنتمكن من الاقتراب من فهم أكثر عمقا لمعاني القرآن الكريم والاستمتاع بقراءته وتذوق أبعاده الروحانية.
فبفضل هذه القراءة التاريخية سنتمكن من وضع النص القرآني في إطار اللحظة الزمنية والبيئة اللتين نزل فيهما، كما ستمكننا هذه المقاربة من معرفة علاقة القرآن المجيد بالتوراة الذي تتشابه بعض مواضيعه مع مواضيع القرآن الكريم، بل قد نجد أحيانا عبارات متشابهة بينهما. وهذا لا يعني أنه ليس هناك علاقة تجمع القرآن بالإنجيل.
وجدير بالتوضيح أنني لست ضد القراءة التبجيلية للنص القرآني، ولا ضد القراءات الأخرى له؛ إنها كلها مشروعة. لكن، بقدر ما تتعدد القراءات، وخصوصا القراءات المعاصرة، تزداد الإضاءات ويتعمق فهم هذا النص المجيد.
لقد كانت هناك إرهاصات للقراءة الفلسفية التاريخية للقرآن المجيد مع المعتزلة، لكنها اختفت نهائيا مع هزيمتهم وانتصار الحنابلة عليهم الذين كفروا رموزهم وقتلوها.
ونظرا للتحولات العلمية والفكرية التي يعرفها عالم اليوم، فمن الممكن أن ينتصر المعتزلة على الحنابلة، فينتقم التاريخ لنفسه، بل إننا سنذهب بعيدا أكثر من المعتزلة وسنتجاوز ما خلقته لنا تيارات الإسلام السياسي المتشددة من مشاكل مع العالم. وبذلك، سيستيقظ الإسلام (محمد أركون)، وسنجد مخرجا عقلانيا لكل مشاكلنا عبر تجديدنا لقراءة القرآن المجيد بشكل مستمر. وسنجد أن هذا النص له نزعة إنسانية، ويدعو إلى استعمال العقل، كما أنه يتضمن تنويرا، ويقبل التعدد، ويعترف بالديانات الأخرى. وعندما نتخلى عن تفسيرات الفقهاء المتشددين للقرآن الكريم، سنتذوق أبعاده الروحانية، وسنكتشف قيمه الأخلاقية، الأمر الذي طمسه الحنابلة وكل الفقهاء المتشددين الذين ساروا على نهجهم.
وتجدر الإشارة إلى أن أوروبا لم تخلق من عدم، بل كانت لها ديانات. لذلك، يحب أن نعترف بأننا نحمل تمثلا مغلوطا عن الحداثة. كما ينبغي أن يعي المسلمون أن أوروبا قد عانت من التطرف الديني، حيث قام المسيحيون الكاثوليك بتكفير العلماء والمفكرين والفلاسفة، وتم قتل الكثير منهم. لقد تعرض فولتير للنفي لمدة ثلاثين عاما، وبعد عودته إلى باريس، خرج سكان باريس جميعهم للترحيب بعودته. لذلك، يجب أن نعي أن للتنوير كلفته. وهذا ما يقتضي عملا دؤوبا ومثابرة وتضحية واشتغالا على الذات وعلى الثقافة والموروث، لأن إحداث التنوير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد يتطلب وقتا، ولن يحدث على شكل طفرة واحدة.