اجتمعت الهيئة التنفيذية الوطنية لفيدرالية اليسار الديمقراطي مؤخرا (24 أكتوبر 2020)، و كانت النقطة المهيمنة على أشغالها هي مسألة الاندماج، وكأن لا شيء غيرها يهم. وطبعا عكس النقاش اختلافا في التقدير بين الحزب الاشتراكي الموحد ممثلا بأمينته العامة الرفيقة نبيلة منيب من جهة، وحزبي الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي من جهة أخرى.
وإنني لا استطيع أن أستوعب جيدا إلحاح البعض على الاندماج الآن مهما احتدت الاختلافات ومهما أدى إليه من فشل بيّن في الأفق المنظور. فكما فشلت الفيدرالية في مهامها و في تحقيق أهدافها، فإن أي خطوة تُبنى عليها ستمُن علينا بفشل محقق أيضا.
لم أكن أريد أن أعود إلى هذا الموضوع، لأنه شأن في الحقيقة داخلي ويهم بالأساس مناضلي الأحزاب الثلاث. وأستغرب محاولة إقحام المواطنين في هذا الأمر وإلهاؤهم بالخرجات الإعلامية التي كانت في غالبيتها مغرضة وتستعمل مختلف الوسائط الاجتماعية للضغط على الحزب الاشتراكي الموحد وكأن الأمر يتعلق بمسألة رأي عام. أن تندمج الأحزاب الثلاث أو لا تندمج، لا يهم المغاربة كثيرا، ما يهمهم هو عرض سياسي متميز وقادر على دمقرطة الدولة والمجتمع، وقادر على إحداث تغيير حقيقي في البلد لصالح الفئات الشعبية التي تعاني كثيرا، والتي من المفروض أن هذه الأحزاب تمثلها و تناضل من أجل مصالحها الآنية والمستقبلية.
ومن العجب العجاب، أن يلجأ أعضاء من المكتب السياسي (على رأسهم الرفيق عمر بلفريج) لمناقشة قضايا الحزب الاشتراكي الموحد وشؤون تدبيره الداخلي لوسائل الإعلام، عوضا عن أجهزته كما يحدث في جميع التنظيمات الديمقراطية، الحداثية و اليسارية. هم بموجب كل القوانين والأعراف، أعضاء قياديون في المكتب السياسي و لازالوا يمارسون فيه مهامهم و يتحملون فيه كامل المسؤولية، ولا أحد منهم استقال أو طرد، أو حرم من حقه في الدفاع عن رأيه، ولا أحد قدم للمجلس الوطني (أعلى هيئة تقريرية في الحزب بعد المؤتمر) شكواه أو اعتراضاته أو استيائه من هذا الطرف أو ذاك أو من هذا الجهاز أو ذاك.. !
فما الذي نفهمه إذن من تحويل النقاش في شؤون الحزب الداخلية من مكانه الطبيعي (أجهزة الحزب) إلى وسائل الإعلام !؟
هل يعنى اللجوء إلى الجرائد الورقية و الإلكترونية، و إلى أطراف لا تنتمي للحزب، استقواء على الذين يخالفونهم في الرأي واستقواء على الحزب، ومحاولة لِلَيّ ذراع هذا الأخير و توجيهه كما يشتهون !؟
ما الذي يعنونه بالتنظيم و قوانينه في هذه الحال، وما قيمة الديمقراطية لديهم، التي يجب أن ندافع عنها جميعا ونحتكم لها في حال تعددت الرؤى واختلفت؟؟!
أعتقد أن محاولات فرض الرأي الواحد على مناضلي الحزب، وبأية وسيلة كانت ومن خارج التنظيم، أمر لا يمت للأعراف الديمقراطية بأية صله.
وما دام النقاش حول الاندماج أخذ حيزا مهما في وسائل الإعلام، فسأكون مضطرا كعضو في المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد، وكممثل لأرضية التغيير الديمقراطي، استجلاء بعض الحقائق، والتعبير عن مواقفنا، وعما نعتقده صائبا في هذا الصدد:
1-كما سبقت الإشارة إلى ذلك في كتابة سالفة، فإن اندماج الأحزاب بعضها مع بعض، يقتضي مجموعة من المقومات الضرورية من ضمنها، ألا يتم هذا الاندماج نفسه بشكل تعسفي و فوقي و مفروض كما أريد له اليوم أن يكون، وكما كان عليه الأمر عند تأسيس فيدرالية اليسار الديمقراطي و كان سببا في فشلها. ويتذكر المناضلون جيدا، كيف اختطف قرار الفيدرالية من القواعد و أطر الحزب سنة 2014، وأدى ذلك إلى ما أدى إليه من فشل ذريع.
للأسف لدينا طينة من القادة و الأطر السياسية لا تؤمن بالديمقراطية الداخلية و إن ادّعت خلاف ذلك، وهذا إشكال اليسار، الحقيقي و الكبير. هذه الفئة لا تهمها وجهة نظر القواعد وإرادتها، وتتعامل معها على أساس أنها قاصرة ويجب أن تكون تابعة فقط.
2-يتعمد دعاة الاندماج في تصريحاتهم العلنية، تغييب الأسئلة الحقيقية حول الاندماج الذي يسعون إليه قبل اكتمال شروطه. لم يتطرق ولا واحد منهم إلىالتباين الذي لا يمكن حجبه بين الأحزاب الثلاث من حيث تكوينها وتنظيمها وتاريخها وأهدافها المختلفة. التأطير النظري والسياسي والتنظيمي والجماهيري للحزب المندمج غير متفق عليه، و نحن مختلفون بصدده أشد الاختلاف.
3- كيف يستقيم الاندماج ونحن مختلفون في أساسيات العمل السياسي منذ البداية: الاشتراكية التي نريد، الديمقراطية الداخلية، التنظيم، البرنامج الحزبي، التحالفات، الانتخابات، النقابة.. الخ. إن دعاة الاندماج السريع لا يتوفرون على رؤية واضحة و مشروع جاهز و جامع، و يتفادون الحديث للصحافة عن القضايا النظرية و العملية التي نختلف بشأنها.
4-لقد عقد مؤخرا، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي و حزب المؤتمر الوطني الاتحادي - بحسب الرفيق عبد السلام العزيز الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي - اجتماعا مع البديل الديمقراطي ورفاق احمد الزايدي، ومع إطارات يسارية أخرى، و فاعلين يساريين من مشارب مختلفة "للإعلان عن مبادرة وحدوية في غضون الأشهر القليلة المقبلة".
وهذا مؤشر دال على النظرة الاستشرافية البرغماتية التي يتحرك فيها بعض أقطاب القوى اليسارية المنبثقة عن الحركة الوطنية، وسبب كاف يدفعنا للحذر مما يقودنا إليه هذا المسار الذي يبحث عن موقع قدم ضمن التشكيلة السياسية للدولة المخزنية.
فنحن بكل وضوح نرفض، كأرضية للتغيير الديمقراطي - و نفس الموقف تتبناه غالبية أعضاء الحزب الاشتراكي الموحد، وأعتقد -مجازفا- غالبية أعضاء حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي - التحالف أو الاندماج مع هذه الكيانات الانتخابية والمتياسرة (التي تدعي اليسار و الاشتراكية) ونرفض أن نحيد عن مسارنا النضالي. إن الاندماج بالشكل الذي تتم الدعوة إليه، بعيدا عن أقطاب اليسار الجذري الأخرى، وبالتقرب من يسار الحكومة، يراد منه الدخول في رهان سياسي بديل تقوده في النهاية السلطة السياسية للبلاد.
5-إن أية مبادرة وحدوية لم تأخذ بعين الاعتبار، سقطات اليسار السابقة، ولم تقطع مع رهانات ما يسمى ب"الانتقال الديمقراطي" ولم تتخل عن محاولات التنسيق مع يسار الحكومة واستقطاب الأعيان، ولم تقم بتقييم تجاربها في التحالف والفيدرالية والانتخابات والنقابة.. ستؤثث المشهد السياسي ليس إلا.
6-لا يمكن لأي وحدة يسار أن تنجح، وتردم الفجوة بينها وبين الجماهير الشعبية، ما لم تشمل جل قوى اليسار التي لم تشارك في الحكم، والمشتغلة في الساحة، على قاعدة رؤية جديدة تستمد مقوماتها من مشروعها الحداثي الديمقراطي بأفق اشتراكي.
7-إن كل التحرك الآن من أجل "الاندماج و أي اندماج !"، و"الضجيج" الإعلامي المرافق له، هو من أجل تغيير مواقف الحزب الجذرية و تغيير عباءته اليسارية وقلب أسسه النضالية الأصيلة. يراد للحزب من خلال الضغط الشديد الذي يتعرض له من داخله ومن خارجه، أن يتخذ منحى سياسيا ليبراليا، ويدخل غمار الحقل السياسي الرسمي، ويعتمد مثله مثل البقية على ما تجود له به حظوته الانتخابية.
8.-الاندماج الذي يراد لنا تأتيته، يهدف إلى طمس ما تبقى من معالم اليسار ومن الاشتراكية كمشروع سياسي أصيل وبديل ومتكامل، و يدعونا للقبول بسياسة الأمر الواقع و باقتصاد السوق الحرة، والعمل فقط على إصلاحهما، كما يفعل دعاة الرأسمالية أنفسهم.
9-المبادرات الوحدوية تكون في الأدبيات السياسية الديمقراطية ناجمة عن العمل الميداني النضالي المشترك، وهو أمر شبه منعدم لدينا في الوقت الحالي. وكان يجب قبل أي شيء، مراجعة التدبير النقابي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي يتواجد فيها مناضلو الأحزاب الثلاث، وفتح نقاش جريء و نقدي حوله، باتجاه تقوية النقابة و دمقرطتها، والتوافق بشأنها بوضوح في كل الأمور المرتبطة بها.
10-الاندماج غير الطبيعي الذي يتشبث به بعض رفاقنا، سيكون وبالا على اليساريين وعلى البلد، وسيجهض إلى حد كبير المبادرات الوحدوية المنسجمة والحقيقية التي نتطلع إليها مستقبلا.
وأعتقد في النهاية أن شؤون الاندماج الذي لم يحدث بعد، شغلت القيادة أكثر بكثير من اللازم، وأهدرت فيها جهدا ووقتا كان لزاما أن يكون للحزب. لذلك يجب العودة الآن إلى الاشتراكي الموحد بحماس أكبر، والعمل على تقويته وعقلنة أشغاله و تنظيم شؤونه الداخلية. وهو أمر إن تم، سينتفع منه العمال والكادحون، وشعب اليسار، والفيدرالية، وستنتفع منه أية مبادرة وحدوية مستقبلية.
حميد مجدي، عضو المجلس الوطني للإشتراكي الموحد