الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

يونس الأزمي : صراع القوى الكبرى في زمن الذكاء الاصطناعي

يونس الأزمي : صراع القوى الكبرى في زمن الذكاء الاصطناعي يونس الأزمي
منذ انتهاء الحرب الباردة، تقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها المحافظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وفي سبيل القيام بهذا الدور قامت بتولي مهمة محاربة الإرهاب في عدة دول مثل العراق، وأفغانستان، والتدخل في الصراعات الإقليمية.
لكن الآن لا يمكنها الاستمرار في ذلك لعدة اعتبارات منها محدودية الموارد التي تفرض على الإدارة الأمريكية تحديد أولوياتها والذي تسبب في اتباعها سياسة انسحابية والتراجع عن سياسة التدخل وتشجيع الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية على تحمل مسؤولياتها الأمنية مع تدخل واشنطن فقط من حين لآخر.
ثاني الاعتبارات أن السياسة الانسحابية الأمريكية نحو الشرق الأوسط وجنوب آسيا على سبيل المثال سمح لروسيا والصين إلى اتباع نهج أكثر نشاطًا وتوقف بيكين عن التحفظ على استخدام القوة العسكرية في الخارج.
ثالث الاعتبارات أن التقدم التكنولوجي قلل من الهيمنة العسكرية للدول الكبرى، فقد سمح الذكاء الاصطناعي والهجمات السيبرانية، إنترنت الأشياء، البلوك تشين والعملات الافتراضية، والبيانات العملاقة للدول الصغيرة والجهات الفاعلة غير الحكومية والجماعات الإرهابية من لعب دورًا هامًا، والاجتزاء من نفوذ وقوة الدول الكبرى.
كشفت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين النقاب عن متغير جديد أو محدد جديد من محددات العلاقات الدولية، وهو الصراع حول الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد أن اتهمت الولايات المتحدة الشركات الصينية بانتهاك حقوق الملكية الفكرية وتطوير التكنولوجيا الأمريكية بشكل غير قانوني، وهو ما نفته الصين.
وفي هذا الإطار اتخذت الولايات المتحدة إجراءات ضد شركة هاواوي الصينية للهواتف الذكية واعتقال نائبة رئيس الشركة في كندا بتهمة سياسية ، بينما كان أحد الأهداف الأساسية لهذه الإجراءات – حسب المراقبين للعلاقات التجارية بين واشنطن وبكين – هو الصراع الأمريكي –الصيني على الذكاء الاصطناعي ومع تسارع العالم نحو سباق الجيل الخامس من الانترنت، بات الذكاء الاصطناعي أحد مفردات ومحددات العلاقات الدولية ؛نظرًا للتنافس المحموم بين هياكل ومؤسسات المجتمع الدولي ، لتحقيق السبق والريادة في النظام العالمي، وكما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “إن من سيقود الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم”.
ومن هنا صار الذكاء الاصطناعي محددًا جديدًا في تشكيل العلاقات بين الدول، عبر تأمين نفسها من خلال الاختراقات السيبرانية : سواء جماعات الهاكرز أو الوحدات السيبرانية التابعة لدول في المحيط الدولي.
وبامتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي، تستطيع الدول التحكم في العالم من خلال مجموعة من الروبوتات الذكية وبعض البرامج الحاسوبية، ولذا تتسارع الدول الكبرى في اقتناء التقنيات الحديثة بما يؤهلها لكسب مكانة تقدمية في هذا المجال، وتتسارع الدول في تسجيل عدد أكبر من براءات الاختراع.
رغم أن قوة الدول ما تزال تقاس بالاستناد إلى مركب القوة الشاملة الذي يتضمن الجوانب الدفاعية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبشرية، إلا أنه منذ ظهور مخرجات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، المدنية والعسكرية، فإن دور التكنولوجيا أصبح أكثر العوامل المؤثرة في تحديد موازين القوى في النظام الدولي.
إذ أن الدول التي تمتلك أدوات التكنولوجيا وتحرص على تطويرها باستمرار تكون فرصها أكبر في ممارسة النفوذ والتأثير في تفاعلات السياسة الدولية،وهذا يعني أن العالم قد يشهد خلال المرحلة المقبلة تحولاً في موازين القوى على الساحة الدولية، خاصة أن هناك قوى إقليمية ودولية عديدة تستثمر بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي، في مقدمتها الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، والهند وربما يؤدي التنافس على التفوق في الذكاء الاصطناعي إلى اندلاع صراعات وحروب جديدة، وهذا يتفق مع التحذير الذي أطلقه معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس في نونبر 2017، حينما أشار إلى أن الصراع الدولي حول الذكاء الاصطناعي ربما يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في شهر مارس 2019، تحت عنوان “تسخير الذكاء الاصطناعي لتعزيز أمننا ورفاهيتنا”، تستهدف تسريع عملية تبني الذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه في المستقبل، حيث تشير هذه الاستراتيجية إلى أن الذكاء الاصطناعي سيغير طبيعة ميدان المعركة في المستقبل، وسيغير سرعة التهديدات التي تواجه البيئة الأمنية الحالية، ومن ثم فإن على الولايات المتحدة أن تعتمد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للحفاظ على موقعها الاستراتيجي؛ حتى تكون لها الغلبة في ساحات المعارك المستقبلية.
هذا في الوقت الذي تنظر فيه روسيا إلى الذكاء الاصطناعي، باعتباره العامل الرئيسي في إعادة ضبط موازين القوى مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكشفت في أكتوبر 2019 عن استراتيجية وطنية جديدة لتطوير الذكاء الاصطناعي حتى عام 2030، تستهدف التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، وإجراء البحوث العلمية التي تعزز مكانتها في هذا المجال. هذا في الوقت الذي تعمل فيه وزارة الدفاع الروسية على إدماج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية، مثل المركبات القتالية والطائرات المسيرة، والروبوتات والأسلحة ذاتية التحكم، والطاقة الموجهة.
أما الصين فلديها خطة طموحة كي تصبح الدولة الأولى عالمياً في الذكاء الاصطناعي بحلول 2025، لأنها تدرك أهمية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، وتخطط لبناء غواصات يتم التحكم فيها ذاتياً، وتتمتع بالقدرة على العمل من مدى بعيد، كما نجحت في إنتاج طائرات مسيرة عسكرية قادرة على تجاوز الرادارات والقيام بمهام قتالية.
لا شك في أن تخصيص القوى الكبرى جانباً كبيراً من ميزانياتها الدفاعية للإنفاق على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد يزيد من سباق التسلح العالمي، خاصة أن هذه التكنولوجيا باتت تدخل بشكل رئيسي في بناء الجيوش الحديثة، وتزويدها بأسلحة نوعية لم تكن متوافرة من قبل، كالجنود الآلية وأسلحة التحكم الذاتي في إدارة المعارك الحربية، كما أصبحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تدخل في العديد من التطبيقات مثل الطائرات دون طيار والعربات ذاتية القيادة وأمن الشبكات.
بعد هذا الاستعراض الموجز، يتضح أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيكون لها أثار متعددة على المجالات السياسية والعسكرية، لما تسببه من تطوير في أدوات الصراع، ودورها في استبدال العامل البشري بغية الوصول لنتائج أكثر دقة وسرعة وانضباطًا بالشكل الذي قد يساهم في منح ميزة نسبية لأحد الأطراف، وهو ما سيترك أثرًا على خريطة الصراع.
وقد يمتد التأثير إلى طبيعة الصراع نفسه في ظل اتساع نطاق التأثيرات المتوقعة لهذه التكنولوجيا على مجالات مختلفة من الحياة، سيما في حال التوسع في تمكين الآلات داخل العمليات العسكرية، كما أصبح السعي نحو امتلاك البيانات والعقول والمواد اللازمة مجالاً جديداً للتصارع في عالم الذكاء الاصطناعي، ليضيف بذلك إلى معايير القوة الشاملة النسبية معيارًا جديداً.
وزمنيًا، من الممكن تقسيم مراحل الصراع إلى مرحلتين رئيسيتين، الأولى تتعلق بمرحلة التنافس على حيازةالتكنولوجيا الأعلى ويمكن ان نُطلق عليها المرحلة التأسيسية، والمرحلة التالية هي المرحلة التطبيقية والتي سيتم خلالها التوسع في إنتاج التطبيقات العسكرية والاقتصادية والمجالات الحياتية الأخرى، وتستهدف الدول أن تنتهي الملامح التأسيسية لهذا الصراع خلال العقد الحالي.
كما يُمكن التمييز بين ثلاثة مستويات رئيسية ستتأثر بتطورات المرحلتين السابقتين، الأول هو مستوى العلاقة مع القوى الدولية، سيما مع وقوع الإقليم مرمى المنافسة بين الولايات المتحدة والصين؛ والمستوى الثاني هو موازين القوى الإقليمية؛ والمستوى الأخير يتعلق بتطورات العملية السياسية محلياً.
يونس الأزمي، باحث في الدراسات الدولية.