السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

امحمد المذكوري: أطفالنا، الوباء والفراغ والعطلة

امحمد المذكوري: أطفالنا، الوباء والفراغ والعطلة امحمد المذكوري

يألف الناس بشكل أو بآخر جائحة وباء كورونا وقواعد الحجر والتباعد، وبدأت الحياة تعود الى وقعها باحتياطات فرضتها هذه القواعد وأخرى، وبتطلع بدأ يخفت حول الوباء والاصابات، بقي منه فقط التخوف من عودة اقفال الأحياء والمدن ونوعية الصرامة والقيود التي ستفرض على الناس ومراقبة الإحصاء اليومي، إلا فئة واحدة لم تألف ولن تألف كل هذا وما مضى، لأنها لم تعش تطورا بين المرحلة الأولى والثانية والثالثة، إنها فئة الأطفال، عاشت تخوفات من ضياع سنة دراسية و مشاكل التأقلم مع التعليم عن بعد ومدى أهميته وجديته وإمكانيات متابعته المادية (التوفر على الهواتف الذكية واللوحات... والربط والصبيب...) والمعنوية من الزامية متابعة الدروس والواجبات أو عدمها والحضور بالمنامات والتوقيت والتناوب على الأجهزة بين أفراد الأسرة...، الى تمطيط فترة الدراسة عن بعد حتى بداية سخط الآباء بعد ملاحظة تعب أبنائهم ثم إقرار عطلة/ توقف التعلم بعد تمديد أول للحجر، هذا التوقف الذي أكد أن وقت الفراغ وليس الوقت الحر أصبح ثقيلا ومكلفا وخطرا إذ بدأ يضغط على نفسيات الأطفال والعائلات، ويؤثر بتوتراته على رتابة مهزوزة لحياة عائلية جماعية غير مألوفة، حيث انتهت كل اكتشافات الغريب فيها وجثم عليها روتين قاتل وعدم تجديد للأنشطة الجماعية والفردية، انتهى نظام حياة وحل محله نظام آخر بمقاييس أخرى لا تتغير وتظل جاثمة على الأنفس اليوم كما غدا.

 

وعند إقرار نهاية السنة الدراسية بنجاح كل التلاميذ، وتنظيم امتحانات الباكالوريا بالخصوص بشكل يراعي شروط الوباء والتباعد، وإذ لم ترفع كل القيود على الأنشطة بالخصوص السفر والتنقلات والتجمعات، وبدأت القطاعات تحضر لخروج من الحجر بشروط وضوابط منها ما هو معلوم ومنها ما يتغير من يوم لآخر...، لم يسمح بتنظيم عطل للأطفال سواء جماعية أو فردية، فغالب الأطفال في المغرب اعتادوا على عطلة لدى العائلة أو تيهان جماعي مع الأصدقاء في الدروب والغابات والشواطئ، والقليل منهم على الاستفادة من مخيمات جماعية، ولم يهتم بهذا الموضوع الا قليل من العاملين في الميدان والمهتمين به كما فعلوا عند الحجر لما بحثوا عن إمكانيات تنشيط للأطفال في ظل حجر الجائحة وشروطها.

 

فمن جهة هناك من يلح ويكرر على حق الأطفال في العطلة "المنظمة" أساسا وفي المخيم كحق وليس امتياز، وهم قليل، وهناك الأغلب من الناس الذين لا يلتفتون لهذا الأمر إلا بمقدار أهمية اللحظة التي يطرح فيها، فداخل العائلات ربط الموضوع على مستوى الجميع بحل مشاكل الحياة اليومية العادية : "نشوفو اليوم بعدا آش غانديرو ويحن الله غدا، نرجعو نخدمو، وحنا ما عندنا عطلة ماعندنا عيد ما غانسافرو"،  لسان حال أغلب أولياء الأمور من الطبقات الدنيا والمتوسطة، ومن الفئات الأخرى فالحلول الذاتية تفرض نفسها سواء بالانتقال الى السكن الثانوي شاطئي أو جبلي، او بتوفير ظروف تجمع على جنبات المسابح الخاصة واللوحات والمنصات الالكترونية المتكاثرة ،أو بتنظيم خرجات ولو محدودة في الزمن.

 

نعود إلى تلك الفئة التي فقدت عطلتها المنظمة: المخيم الصيفي الجماعي، الذي تنظمه الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية وبعض الشركات، فقد أصبح مؤسسة قائمة ضمن مؤسسات المجتمع وأصبحت أهميته واضحة ورقما في معادلة التنشئة، حيث أن التنشيط التربوي للزمن التربوي أصبح مكونا بيداغوجيا يخلق توازنات ويكمل العمل التربوي للأسرة والمدرسة بالأساس، فماذا حصل لحد الآن:

 

ضغطت الجائحة على ترتيب الزمن داخل المجتمع وبالخصوص لدى العائلات التي أصابها هلع الوباء، وحيث لم تحضر نفسها ولم تتم مساعدتها لتجاوز هذا الواقع الأليم، فإنها عانت منذ اللحظات الأولى من فراغ عصيب وثقيل لبرنامج واختيارات محدودة وقلة ذات اليد بالنسبة لمصاريف إضافية خاصة بالأطفال، فلا الأسر اعتادت اقتناء الكتب والمجلات ولا هي لديها ألعاب عائلية وبرامج مرئية أو جماعية مشتركة تلتئم حولها وتساهم في الترويح ولا هي منظمة لعيش طويل الأمد مشترك ومتداخل بين أفرادها، فقط هناك تقاطع في أوقات أعضائها بين المائدة والحمام وباب المنزل، وحتى الاستئناس بالتعليم عن بعد لم يتم لدى الجميع بنفس المستوى إذ أكدت الجائحة على أمية وتخلف أغلب الفئات في التعامل مع وسائل التطور الذي اريد بناء التواصل عليه، فعند توفر الإمكانيات تعود الجميع – بشكل تضامني وضمني – على القرصنة والمواد المقرصنة، فاجتاحت الحواسيب والالواح والهواتف موجات من الفيروسات المعقدة والمركبة التي لم تعرف لها حلول الا بتركها والرجوع باستمرار الى نقطة البداية، ولم يستطع أغلب المستعملين التعامل مع مستجدات المرحلة بالدراية الكافية عوض "الفهلوة" التي ضربت أطنابها والمزايدات والمغامرات.

 

وطرحت إمكانيات تنشيط عن بعد موجه للأطفال والشباب، منه ما يهدف الجانب التربوي فاعتمد على تنظيم وتنسيق ودمج عناصر فرجة ومشاركة وانتاجات مشكلا مقترحات تمكن من تجاوز ضغط الزمن والفراغ، ومنه بالطبع استنساخ ومزايدات من طرف جهات عن قصد أو بدونه لا ترمي الا استعراض ذواتها وترويج موادها، بدون هدف وغاية واضحة ومسؤولة، ومنه من حاول التقليل من أهمية الجانب المضيء لهذه العملية أي الجانب التربوي بأن ضخم في الجوانب السلبية المعروفة لهذه الوسائط من تكريس الأنانية والنفخ في الذات والفرجة السلبية والنفاق ....

 

ودق بعض العاملين ناقوس الخطر بالتنبيه الى المرحلة وضرورة التفكير في بدائل شاملة أو متطورة لما ينتظر الأطفال والشباب من أجل تنظيم جماعي لعطلهم الجماعية التي يستحقونها بكل المقاييس، وعندما طرحت أفكار ضرورة التحضير للخروج من الجائحة والحجر، اتضح أن هناك من لا يريد الالتفات الى هذا الموضوع لأنه ألف أن ينتظر "الآخرين" فينقل عنهم ما عملوا على دراسته وتحضيره، وضاع الزمن في انتظار من سيبادر ومن له الحق في المبادرة أو مسؤوليتها، واكتفينا بإثارة التساؤل ولم يتجاوز صفحات جرائد ومنصات وواجهات أسئلة رسمية في أجهزة لم تستمر في متابعة مسؤوليتها بعد ان انتهى ارسال التلفزة!

 

إننا نقف اليوم مكتوفي الايدي أمام أبواب مقفلة: هناك عطلة وليس هناك رغبة في تنظيمها لجماعات الأطفال والشباب، هناك تهرب من البحث عن حلول لها اليوم، إما بالتخفي وراء قرار الدولة الرسمي باستبعاد التجمعات الى تحويل الفرصة للدرس والبحث، ولا يعاب هذا الاختيار لذاته بل لتضييع فرصة اتفق الجميع انها عصيبة وأن أكثر من عانى ومن سيعاني هم الأطفال والشباب، بغض النظر أن اختيار الغاء التجمعات في حق هذه الفئة هو اختيار الحل السهل: فالتجمعات نعيشها بمقاييس مضاعفة في الشواطئ بالخصوص والفضاءات العمومية الأخرى، ومعرضة ومفتوحة على كل الأخطار، فكان بالأحرى اختيار فضاءات وتنظيم الولوج اليها ومراقبتها ورعايتها وبذلك كان يمكن أن نساهم في حماية عدد لا بأس به من الوباء الذي هو معرض له في كل لحظة الفضاءات غير المراقبة.

 

حصل هذا في وقت استأسد فيه التكنوقراط ليس على مستوى الفعل السياسي الحكومي الأعلى ولكن داخل الهياكل والمؤسسات القطاعية ومنها الشباب والرياضة، حيث أن هناك من يتخفى وراء منصبه ومهمته ليعاند حقوقا منها حق المخيم مثلا، وحتى بكل الأشكال التي اتضح انه يمكن تنظيمها وتجديد النشاط بها، عناد ينطلق من موقع ذاتي وليس موقع مسؤولية تدبير حكومي مسؤول عن تأطير القطاع وليس تأطير النشاط والأداء التربوي بل يراوغ التربوي البيداغوجي الى مواقف تحكمية.

 

وكان يمكن استغلال الفرصة لتحويل كل الفضاءات الممكنة إلى مجالات محتملة لتنظيم أنشطة تربوية مستمرة ومندمجة لجماعات "محددة" من الأطفال والشباب بشكل يحميهم من اللانشاط واللاحق في الترفيه. *نقصد بالفضاءات: كل دور الشباب والأنشطة النسوية وملاعب القرب ودور الثقافة والمدارس ومؤسسات الجماعات، وكان يمكن تجريب التنشيط المفتوح في مؤسسات الدولة المقفولة عوض المزايدة بحصر المناقشات في الاعداد والميزانيات.

 

إننا نعلم أن اغراق المخيمات بعد فتح أبوابها لكل راغب فيها بدون شروط ومعايير هو الذي أوصلنا اليوم الى أن الكثير ممن "ينظموها" غير مؤهلين لذلك ويعرضون الأداء البيداغوجي والتنظيمي والمالي والنفسي للأطفال الى كوارث واساءات، ولذلك نجد أن مواقفهم اليوم تكتفي بالتصفيق ورفع شعارات الآخرين بدون وعي وشارات النصر في صفوف وراء بعض التكنوقراط، ولا إمكانيات لديهم الا تحين الفرص للكسب على حساب الأطفال حتى وصم الجميع بذاك واستنساخ ما يقوم به الملتزمون والفاعلون الذين راكموا التجارب واسسوا مدارس تربوية بكامل المعنى ويدفعون اليوم ببدائل كان حريا بنا العمل بها حتى لا تضيع العطلة اليوم أولا وحتى يستعد أطفالنا وشبابنا لاستئناف سنة دراسية أخرى مفتوحة على جميع الاحتمالات، ولصياغة بدائل أخرى على مستوى دراسة قضايا العطلة والمخيمات والاشكال التي يمكن أن تساهم في تزكية الحق في التنشيط والترفيه التربوي للأطفال والشباب، والمساهمة في حلول تكميلية أخرى لما هو قائم اليوم ولما يمكن القيام به للمستقبل.

 

اليوم ونحن على مشارف الشهر الثامن، سيقولون أنه لم يبق الوقت لتحضير أي شيء فيه، وسيقولون أن المرحلة الثالثة للحجر تقرر أنها لا تحتمل تجمعات مثل المخيمات (كأنهم لم يدفعوا الى هذا القرار)، ونحن نعرف أن من قرر في مئال المخيمات لا يعرف الا الشكل التقليدي منها ومن خارجها ولم يعشها ويعشقها لكي يتحمل مسؤولية تطويرها الممكن وحتى تبقى قائمة، وأن التكنوقراط الذين ساندوا ويساندون هذا الطرح لا يرون إلا فوائد مباشرة وذاتية من فتح أو إغلاق المخيمات، ولا يتحملون بدائل أخرى لعدم معرفتهم بها ولرغبتهم في استبعاد حلول قد تكلفهم جهودا مضاعفة للتحضير والمواكبة. عليهم أن يعووا أن دور الدولة ليس دورا مباشرا في العملية التخييمية وهو دور أساسي لتأطير المراقبة والمصاحبة والتنظيم، وأن يمتنعوا عن توقيف عجلة التطور عن الدوران والا يضيعوا على بلادنا فرصة انطلاق أخرى لفائدة أجيال من الأطفال والشباب ذنبهم الوحيد أن أجيالهم صادفت هذه الجائحة في عمرهم وحياتهم.

 

وقبل الختم استسمح في إعادة نشر ما سبق لي أن نشرته قبل قليل:

لا حق لأي كان بالتخلي على نشاط له فعاليته بحكم ترتيب مجحف لمردوديته أو ثانويته بالنسبة لأشياء أخرى، إن كل القطاعات لها أهميتها ولو بدرجات مختلفة ولكننا اليوم توضح أننا -بمناسبة الحجر وتحضير النموذج التنموي- نحتاج لدعم مستقبل البلاد وحاضرها بدعم أطفالنا، صحيا بكل تأكيد وكذا تربويا ونفسيا واجتماعيا، وعلى القطاعات الحكومية سلك أحسن الطرق وليس أسهلها، فالتخلي عن نشاط ما واستبعاده بأي حجج كانت هو السهل الآن ولكن البحث عن حلول ملائمة يطرح اليوم على مستويات الفاعلين الحقيقيين على الناشطين والمنشطين الجمعويين والتربويين القيام بما يلزم من أجل ضمان الحفاظ على مكتسبات الطفولة المغربية في عطلة ومخيمات أصبحت مسؤولية الجميع ولم تعد امتيازا لأبناء البعض، وإبداع صيغ أخرى للتنشيط البديل.

 

العطلة حق والمخيم ليس امتياز، والجائحة ضربت المجتمع في العديد من الجوانب، وعلى كل أن يتحمل مسؤوليته لمصلحة الأجيال الصاعدة الآن ومستقبلا.