الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الإله الجوهري:  فيلم "رجاء بنت الملاح" خرج من القلب ووصل إلى القلب

عبد الإله الجوهري:  فيلم "رجاء بنت الملاح" خرج من القلب ووصل إلى القلب المخرج الجوهري رفقة بطلة فيلمه
بمناسبة عرض فيلمه الوثائقي الطويل "رجاء بنت الملاح" على منصة "فيميو" الإلكترونية، من 14 إلى 21 يوليوز 2020، بمبادرة من المركز السينمائي المغربي، وذلك في إطار برنامج أفلام حالة الطوارئ الصحية، أجرت "أنفاس بريس"، حوارا مع المخرج والناقد السينمائي عبد الإله الجوهري حول جوانب مختلفة من هذا الفيلم.

 فيلمك "رجاء بنت الملاح" يقدم للمتلقي بورتريها صادقا لفتاة/امرأة من نوع خاص، كيف جاءتك فكرة الاشتغال على هذا الموضوع؟
 خلال حضوري لدورة 2003 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، أي الدورة الثالثة، كان لي حظ مشاهدة الشريط الفرنسي "رجاء" للمخرج جاك دوايون، الذي شارك في المسابقة الرسمية، وحصلت بطلته نجاة بنسالم على جائزة أحسن ممثلة، الشيء الذي جعلني وقتها أنتبه لهذه الممثلة البسيطة والعميقة في نفس الآن، وأحاول أن استكنه عوالمها الفنية، لأكتشف أنها ممثلة بالفطرة، بمعنى لم يسبق لها التمثيل سواء في السينما أو التلفزيون أو المسرح، ومع ذلك تفوقت على نفسها وعلى غيرها من الممثلات العالميات اللواتي كن ينافسنها على جائزة أحسن دور نسائي بمراكش. بل الأكثر من ذلك أنها فازت من قبل، عن نفس الدور، بجائزة الأمل في مهرجان البندقية السينمائي. لكن ما دفعني لإنجاز فيلم عن مسارها ومعاناتها مع السينما ومحيطها، هو كوني اكتشفت بعد مرور سنة على التتويج أنها شبه مشردة، مدخولها الوحيد مصدره بيع السجائر بالتقسيط في ساحة جامع الفنا المراكشية، الشيء الذي صدمني وجعلني أطرح أسئلة على نفسي، وعلى الواقع الذي أعيش فيه، أسئلة من قبيل: كيف يمكن لشابة موهوبة، أبانت عن علو كعبها في التشخيص السينمائي، أن ينتهي بها المطاف شبه متشردة تعيش على مهنة رثة؟ ولماذا لم يهتم بها الوسط الفني المغربي، ولم يتم الدفع بموهبتها إلى الأمام؟ وأخيرا، كيف تعيش اليوم وهي تجر وراءها منجز سينمائي محترم؟
أسئلة دفعتني إلى الاتصال بها، ومحاولة الوقوف عن قرب على سر انطفاء النور بسرعة من حولها، وذلك من خلال زيارات ومقابلات ونقاشات مفتوحة معها، الشيء الذي جعلني أكتشف قساوة الواقع الذي أصبحت تعيش فيه بسبب "الشهرة" الكاذبة و"النجومية" القاتلة وظلم ذوي القربى بسبب فيلم لم يجلب لها سوى المتاعب، شهرة ونجومية وظلم حولوا حياتها لما يشبه الجحيم مع العائلة وساكنة الحي الذي تعيش فيه. 
 
 نجاة فتاة أمية فقيرة تنتمي إلى أسرة محافظة، تحب المغامرة والاعتماد على النفس، لكن ما يعيبه الآخرون عليها كونها شاركت في فيلم فرنسي به مشاهد ساخنة، ألا يرجع سبب معاناتها في نظرك إلى مزاجها وطبيعة شخصيتها غير العادية؟
صحيح أن "نجاة" أي "رجاء" صعبة الانقياد بمزاج خاص يعكس شخصيتها المتفردة وروحها المتمردة، تحب الحرية والعيش في جلبابها الخاص دون مساحيق ولا تتحمل النفاق والتمسح بالأعتاب أو طرق أبواب المنتجين والمخرجين. لهذا لم تستطع أن تواصل مسارها الفني، لكنها في العمق إنسانة طيبة متفهمة ومتعاونة. خلال التصوير اكتشفتها أكثر وتعرفت على جوانب خفية من حياتها وعمق مواهبها. فقد عاشت يتيمة وسط إخوة يعانون من ضنك العيش، ومع ذلك كانت دائما بإرادة قوية، وروح متوثبة، يظهر ذلك بوضوح في فيلمي، حيث شاهدنا كيف تتجاوب بشكل خلاق مع محيطها، وتجعل من كل لحظة فرصة للإبداع، وتحاول أن تتجاوز ما أمكن المعيقات المحيطة بها بكل الطرق. أما بالنسبة للمشاهد الجريئة في فيلم "جاك دوايون"، فيمكن أن يقال عنها أنها مشاهد جد عادية، لكن، وللأسف، بسبب غياب الثقافة السينمائية عند الجمهور المغربي جعل الكثير من الناس يحكمون عليها بأحكام قاسية، بل إن بعض أفراد عائلتها قاطعوها واتهموها اتهامات ظالمة. الجمهور عامة، بسبب الأمية البصرية، لا يفرق بين ما يشاهده على الشاشة وما يجري على أرض الواقع، وبالتالي يعتقد أن كل ما يراه في الفيلم هو الحقيقة، وأن المشاهد كانت حية وليست سينما في سينما.
 
 تجاوب الكثيرون مع الفيلم وتعاطفوا مع بطلته، داخل المغرب وخارجه، والدليل على ذلك حصوله على عدة جوائز ومشاركته في مجموعة من المهرجانات السينمائية، ماذا يعني لك حصول الفيلم على جوائز؟
 عموما لا تهمني الجوائز في حد ذاتها، وإن كنت أحس بالفرح والسعادة لما أحصل على إحداها، لأنها تؤكد على نجاح الفيلم ووصوله لقلب من يشاهده. لكن ما يهمني في الأصل، هو أن ينجح الفيلم في الانتصار لقيم الفن والإبداع، وأن يضيف للمشهد السينمائي فيلما جديدا، حاملا معاني الجمال التي تلامس شغاف القلوب، وتكرس فعل الخلق بكل صدق.
صحيح أن الفيلم حصل على أكثر من عشرين جائزة، في مهرجانات مغربية وعربية ودولية، وهي جوائز في المحصلة النهائية تتويج لفيلم صنعته بجهد وحب وتفاعل مع حياة فنانة استثنائية، وأكدت من خلاله أن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، وأن ما يصنع برؤية فنية واضحة أكيد أن يخلق الحدث وأن يترك وراءه الأثر. وهذا ما حدث مع فيلم "رجاء بنت الملاح" الذي أعتبره فيلما جماعيا صنعته بمعية فريق، أساسا مدير التصوير فاضل اشويكة ومهندس الصوت توفيق مكراز، يتقدمهم المنتج الصديق حميد باسكيط.
 
 تم تصوير الفيلم على امتداد أكثر من عشر سنوات، ربما من 2003 إلى 2015، تغيرت خلالها نجاة من فتاة نحيفة إلى امرأة مكتنزة نوعا ما، وهذا يذكرنا إلى حد ما بفيلم "أشلاء" لحكيم بلعباس الذي صور لقطاته ومشاهده على امتداد عشرين سنة تقريبا، ما رأيك؟
 ملاحظة في محلها، الفيلم صنع على فترة زمنية تناهز العشر سنوات، وهو في ذلك يشبه فيلم "أشلاء" لحكيم بلعباس وغيره من الأفلام التي صنعت بحب وتقدير للممارسة السينمائية الوثائقية. لأن صنع فيلم وثائقي يتطلب الإنصات لنبض الموضوع المعالج وترصد كل اللحظات المحيطة به، ومحاولة الانتظار لغاية الوصول للهدف المنشود المتمثل بالأساس في استكمال فصول الحكاية. 
للأسف، هناك من يخلط بين الفيلم الوثائقي السينمائي، الذي يتأسس على رؤية فنية خاصة بالمخرج، والتي تتطلب منه الكثير من الوقت لكي تكتمل وتتحقق بكل أبعادها الفكرية والفنية والتقنية، لأنه مشروع مفتوح على كل الاحتمالات الإبداعية، قد يصل الفيلم لنهايته بعد سنة أو عشر سنوات، أو يظل معلقا لأجل غير مسمى، عكس الفيلم الوثائقي التلفزي الذي ينبني على خط تحريري واضح، ويخضع لرغبات الجهة المنتجة، ويتلاءم مع خطها التحريري المضبوط، وبالتالي ينجز في مدة زمنية محددة وفق دفتر التحملات.لهذا انصح المخرجين الشباب الذين ينوون طرق ساحة الفيلم الوثائقي أن يتسلحوا بثقافة فكرية عميقة وفنية حقيقية، وأن يتمتعوا بروح ضبط النفس والانتظار، لغاية التمكن من الوصول للهدف المرسوم في الإحاطة بالموضوع من الزاوية المرسومة له.   
 
فيلمك هذا هو استمرارية من نوع خاص لفيلمك السابق "الراقص (ة)"، ما الذي يجمع ويفرق بين الفيلمين؟
 بين فيلم "الراقصة" و"رجاء بنت الملاح" خيط شفاف من الأحاسيس، والاشتغال على مواضيع لها علاقة بالفن، فعزيز، بطل فيلم "الراقصة"، فنان شعبي يواجه يوميا مشاكل الحياة وعدم تفهم الكثير من الناس لمهنته كراقص في ساحة عمومية، بينما "نجاة"، بطلة فيلم "رجاء بنت الملاح"، فهي ممثلة تغيرت حياتها رأسا على عقب بعد أن شاركت في فيلم سينمائي فرنسي. بمعنى أن نفس الرؤية يستند عليها الشريطين، وهي البقاء في دائرة الفن سينمائيا، والانتصار لمواضيع التهميش والمهمشين، ومحاولة تسليط الضوء على قضايا مسكوت عنها في ثقافتنا المغربية. لأن السينما في اعتقادي، تلعب الدور الأكبر اليوم في تسليط الضوء على الزوايا المعتمة في المجتمع، ولا تتأخر في مناصرة كل ما له علاقة بالفن والجمال، من خلال أفلام تساهم في بناء جسر من الجمال والكمال يمتد نحو أفق مفتوح على دوائر الحرية المشتهاة.