الثلاثاء 19 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الجليل لعميري: "عودة آدم" للشاعر عبد الرحيم الخصار.. اشتغالات الرمز لبناء عوالم الدلالة (2/2)

عبد الجليل لعميري: "عودة آدم" للشاعر عبد الرحيم الخصار.. اشتغالات الرمز لبناء عوالم الدلالة (2/2) عبد الرحيم الخصار (يسارا) وعبد الجليل لعميري مع صورة غلاف العمل الشعري

"عودة آدم" عمل شعري للشاعر عبد الرحيم الخصار، صدر عن منشورات المتوسط (براءات) في طبعته الأولى 2018 بميلانو/ إيطاليا، في 72 صفحة من الحجم المتوسط. ويتوزع هذا الديوان على 59 مقطعا شعريا (أو قصيدة قصيرة تتأرجح بين سطرين شعريين وصفحة كاملة). هذه المقاطع/ القصائد غير مرقمة ولا معنونة، كتبت كل منها في صفحة مستقلة بدون أي فاصل بينها، وكأنها موجات متدفقة منسابة، بهدوء أحيانا (سطران) أو بمد ممتد أحيانا أخرى (تتجاوز العشرة أسطر) لا حواجز داخل المقطع/ القصيدة، بل هي تتدفق ولا تنتهي سوى بنقطة في آخر المعنى.. وتخفت علامات الترقيم الأخرى. ويعد هذا الديوان الجديد تعزيزا لإنتاجات الخصار الشعرية التي نذكر منها: أنظر وأكتفي بالنظر (2007) ونيران صدقة (2009).

 

اختيار الشاعر لأدم كسارد/ شخصية مناسب للطبيعة الشعرية للنص (ضمير المتكلم له وظيفة تعبيرية واضحة وتنزع نحو التخلص من الطابع الفرداني الغنائي لترقى إلى الطابع الدرامي الوجودي لأنه أيضا يمتح من إيجابيات اللغة الحوارية المونولوجية وما تحققه من بوح وكشف للنوايا والمواقف الداخلية. ويتناوب الوصف والسرد لتقريبنا من فضاءات وشخصيات النص الشعري .

ـ فهل توظيف روح القصة في هذه التجربة الشعرية يعزز شعريتها أم يضعفها؟

 

الرمز وبناء الشعرية في "عودة آدم"

أسست الشعرية العربية صورتها على أدوات وأساليب بلاغية وأسلوبية متعددة، سعيا وراء نشدان المثال الشعري. فمرورا بالتشبيه والاستعارة والكناية ووصولا إلى الانزياح والرمز بالأسماء أو بالأساطير، تشكلت تجارب متفاوتة الشعرية.

 

ولكن هل البلاغة/ الأسلوبية وحدها تبني الصورة الشعرية؟

هذا السؤال قاد بعض التجارب الشعرية إلى البحث عن وسائل وأدوات فنية أخرى ،متنوعة وغير مألوفة لبناء الصورة ،مثل ما رأينا هنا فيما يخص توظيف تقنيات الحكي لبناء وتشكيل النص الشعري، مضمونا ورؤية شعرية. وهناك من استوحى الرؤية التشكيلية في الشعر، أو الرؤية السينمائية أو تقنيات المسرح...

ولكن يظل الرمز، بجميع ألوانه، سيد التصوير في الإبداع الأدبي نثرا وشعرا، والإبداع الفني عموما (كتابة مسرحية / رسم ونحت وسينما). وعودة آدم تجربة شعرية تراهن على الرمز لبناء رؤيتها الفنية.

 

ـ الرمز: في المفهوم

على مستوى اللغة الرمز تصويت خفي باللسان كالهمس أو إشارة بالشفتين. وحسب ما ورد في كتاب "من الرمز إلى الرمز الديني" للباحث التونسي بسام الجمل (2007): "فالرمز كلمة مأخوذة من اليونانية ،وتعني قطعة من الخزف أو الخشب تقسم بين شخصين بيد كل واحد منهما قسم يستدل على هوية أحدهما ويثبت طبيعة صلته بالأخر" ص 13.

 

واصطلاحا هو: إشارة إلى أمر لا يقع تحت الحواس، وهو معنى خفيا إيحائيا، أو وسيلة إيحائية تلميحية. ويعتبره البعض لغة تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة (البرق الذي ينتج وعيا بعالم لا محدود). وهو أيضا مفهوم مشحون بمعاني وطاقات إيحائية جديدة، تحدث غموضا يدفع إلى البحث عن معاني جديدة. ومن هنا تصبح الحاجة لتأويله ضرورة لفهم التعبير الشعري. والرمز أنواع تطورت بتطور المنجز الشعري الإنساني، ويمكن الدمج بين أكثر من نوع داخل القصيدة الواحدة. وحسب المنجز النقدي الحديث يمكن التوقف عند، الرمز الأسطوري الذي يوظف بطلا أسطوريا لتصوير رؤية الشاعر للوجود (سيزيف/ بروميتيوس/ سربروس/ تموز/ عشتار)...

 

والرمز التاريخي الذي يستعمل بطلا تاريخيا قديما أو حديثا (جيفارا/ صلاح الدين الايوبي..)، أو الرمز الشعبي الذي يستدعي بطلا شعبيا (سيف بن دي يزن/ بيبرس..) أو الرمز الصوفي (شخصية صوفية مثل الحلاج) أو الرمز الأدبي الذي يقوم على توظيف شخصية أدبية (لوركا/ المعري). وأخيرا الرمز الديني الذي يعتمد شخصية دينية (عيسى/ أيوب..). وقد يوظف الرمز توظيفا حرفيا مباشرا أو جزئيا أو إيحائيا، أو يوظف كقناع.

 

ونسجل هنا أن الشاعر الخصار قد اختار توظيف رمز ديني باعتماده لاسم آدم أبو البشرية المذكور في الديانات الثلاث، معتمدا على استعماله كقناع رمزي للتعبير عن رؤيته للكون وأحواله.

فما هي اشتغالات الشاعر على الرمز الديني؟ وكيف بنى هذا الرمز الصورة الشعرية في القصيد/ الديوان؟

 

اشتغالات الرمز الديني في "عودة ادم"

بالعودة إلى المعنى الذي أورده بسام الجمل في كتابه "من الرمز إلى الرمز الديني" تلاحظ أن هذا المعنى يقابل بين طرفين/ شخصين يملك كل منهما ما يدل على هويته وهوية الآخر، والصلة الرابطة بينهما، وأن ما يستدل به هو عبارة عن نصف قطعة (خشب/ خزف) ناقصة ولا يتحقق كمالها إلا بوجود القطعة الثانية، ومن هنا فالشاعر هو نصف القطعة الخزفية/الخشبية التي تحتاج إلى نصفها الآخر الذي يتممها ويكمل وجودها، أي الرمز المجسد في نموذج من النماذج المشار إليها سالفا. وباختيار الشاعر الخصار لاسم أدم ،فقد اختار رمزه الديني باستدعاء هذه الشخصية الدينية وتقمصها، باعتبارها النصف الآخر المكمل له هنا يصبح آدم قناعا رمزيا للشاعر، ولآدم كرمز ديني خصائص تأهله ليكون رمزا فعالا ووظيفيا في بناء الرؤية الشعرية، نذكر منها :

ـ أنه رمز متلبس بالوجود الإنساني، لأنه يكشف عبر رحلته/ عودته الوضعية البشرية الهشة في بعدها الدرامي والإنساني.

ـ أنه قابل للتحول، فآدم كشخصية دينية يصبح حاملا لدلالات تتجاوز معناه الأصلي، ليرمز للضياع والتمزق والتحدي وغيرها من المعاني.

ـ أنه يمتلك معقولية خاصة به، جوهرها منطق داخلي خاص بسيرورة الأحداث وبناء الرؤية، حيث تتكامل العلاقات السببية لتشكيل بنية النص ولحمته.

ـ أنه رمز قابل للتصنيف، فآدم يصنف كرمز ديني إسلامي خاص بالمسلمين، كما يصنف باعتباره رمزا كونيا يتجاوز العربي/ الإسلامي الخاص إلى الكوني العام، وهو مركب لأنه يختزل تحولات الوجود البشرية ولا يقف عند ما هو بسيط وخاص بالفردي المحلي.

ـ وأخيرا فإنه قابل للتأويل ،مما يجعل معناه غير محدود أو محصور في الزمان أو المكان أو الثقافة، فقد يدل على نموذج الإنسان الذي يدفع ثمن الخطأ مضاعفا (توارث الأخطاء)، وقد يرمز للدلالة على "تراجيديا الحقيقة" كما يقول ريكور، وقد يدل على تراجيديا السقوط / النهوض في الحياة.

 

وحسب بيرس "الرمز يمثل الطابع التمثيلي للإنسان، وهو مجموعة من علامات متنوعة ترتبط بما تمثله". فلماذا اختار الشاعر آدم من دون غيره من الرموز؟ وهل يخلو النص من رموز أخرى بنفس الأهمية؟

 

أول ما نلاحظه أنه رمز غير مستهلك -إن جاز التعبير- بمعنى ما، فبعض الرموز تم تداولها بشكل موسع في تجارب شعرية مختلفة مثل (أيوب/ عيسى/ الاساطير). ولعل في ذلك فضلا للشاعر وهو يبادر إلى الاشتغال على ما هو غير "مسبوق"؟

ثانيا فتقنية القناع مكنت الشاعر من التعبير عن رؤيته الشعرية للوجود ودراميته بطريقة غير مباشرة، لأن المباشر يفقد القول الشعري شعريته المنشودة، وهذا لا يعني تجريد القول التقريري المباشر من أهميته في تنويع الأساليب داخل القول الشعري.

والقناع يتيح للشاعر توسيع رؤيته وتوظيف معارفه التاريخية والنفسية والدينية وكل ألوان ثقافته الشخصية.

وبهذا يكون الشاعر وآدم وجهان لبعضهما البعض، فآدم يحتاج الشاعر ليقوده نحو الأرض الجديدة ومظاهر البؤس والإدهاش فيها، هو دليله في مسالكها التي لم يألفها.

وآدم هو الصوت الذي يستعيره الشاعر لقول ذاته، القناع الذي يخفي وجه الشاعر لدرجة لا نرى سوى الرمز، والشاعر يستريح في ظله متمتعا/ متحسرا بما يرويه آدم ويحسه. فأين ينتهي الشاعر؟ وأين يبدأ الرمز/ آدم؟

 

لعل كثافة التعبير الشعري عند الخصار تجعل المهمة صعبة، فكلما حاول القارئ إلقاء القبض على صورة الشاعر، يفاجأ بظهور وجه آدم، وكلما قال: هذا آدم يتكلم ويرى ويحكي، ظهر له وجه الشاعر أو صوته واستحالت مهمة التمييز بينهما.

هذا ما جعل الصورة الشعرية تتجاوز القصائد/ المقاطع لتخترق النص العضوي كله، لم يعد التصوير في عودة آدم يراهن على بناء الصورة الشعرية عبر عناصر منفصلة، بل راهن على إطار مركب يقوم على رمز آدم من بداية النص إلى آخره.

وجود رمز آدم في مقاطع الديوان وجود متنامي تكراره يضيف لا يعيد، يبني أفقيا وعموديا لا خطيا. وأنت تنهي العمل الشعري ترتسم أمامك لوحة بألوان الحياة: السواد، البياض، الاحمرار والاصفرار… حياة فيها الرمادي والأزرق والأخضر… صورة الوجود البشري بماء الأمل مع قطرات الحزن.

 

دوافع ونتائج توظيف الرمز الديني في عودة أدم

من أهم الدوافع العامة للإبداع "ضغط الواقع" المتجلي في معاناة الذات/ الجماعة البشرية. ولعل عصرنا الحديث (الذي عاد إليه آدم أو أرجع إليه)، هو المثال الصارخ على المعاناة الجماعية والفردية، الحروب والمجاعات والفقر والتفاوت الطبقي والعنصرية والظلم والتفسخ… انسحاق الإنسانية في ذروته. فرغم أنه العصر الذي أنتج أكبر ترسانة حقوقية وأنتج ألوان الفكر الديمقراطي والعلمي، وأرقى أنواع التحضر والرفاهية، فإن له وجه قبيح يظهر انسحاق الإنسان وعبوديته وفقدانه لأبسط الحقوق. شاعرنا الخصار ابن شرعي لهذا العصر، وملتقط حساس لنبضه ومطلع جيد على وحشيته ومأساويته. لذلك فإن هذا الدافع قوي وراء "عودة آدم" ليكون شاهدا على المأساة.

 

ومن دوافع الاشتغال على الرمز الديني في هذه التجربة أن للشاعر تجربته الشعورية الخاصة -ككل الشعراء- والتي تجسد البعد النفسي في هذا العمل الشعري، بعد يمزج بين ظلام الرؤيا (السواد) وبياض الأمل، مزيج يجسد حيرة الشاعر وتأرجحه بين النزوع المتفائل المتعلق بالحياة. وصراع الموت/ الحياة ثنائية معهودة في الوجود والفكر والإبداع. ومجسدة هنا بدقة متناهية في شخصية آدم الحي/ الميت، والذي عاش ألوانا من الحياة والموت، الوقوف والسقوط، الأمل واليأس.

 

وللخيال الرمزي أيضا وظيفة/ دافع هي خلخلة التلقي المألوف للغة الشعرية، والتمرد على التوقعات الشعورية المعهودة والنمطية. والخصار هنا نجح في جرنا/ توريطنا في دوامته الشعرية باستعمال رمز يريد له أن يكون غير مألوف (أدمه الخاص)، مع بناء توقعات مزيفة بشكل قصدي. فحين نقرأ القصيدة الديوان (سواء للمرة الأولى أو للمرة العاشرة؟) تتولد لدينا توقعات كاذبة سرعان ما يشوش عليها معطى منفلت يظهر هنا أو هناك. بمصادفة اسم آدم في العنوان نتوقع اجترار حكايته الدينية، إلا أننا نصادف حكاية أخرى جديدة لا تقطع مع الأولى، لكنها لا تخضع لها، بل تستقل عنها وتبني أفقها الخاص (كما رأينا في ملخص الحكاية)، وبهذا يخيب تلقينا المألوف ويفرض النص علينا أن نمارس "قراءة نشيطة" كما يقول امبرتو ايكو، قراءة لا تكتفي بالتوقع الجاهز، وإنما تمارس التأويل..

 

والرمز الديني هنا يساهم في إغناء لغة القصيدة، ليخلصها من غنائيتها الذاتية المونولوجية، ويرقى بها إلى بعدها التركيبي البوليفوني المعبر عن قضايا إشكالية في وجود الإنسان وجوهره (إشكال هشاشة الإنسانية رغم الشرائع والديانات والقوانين)...

 

ولأن اللغة في القصيدة لم تعد قشرة شكلية بل هي جوهر قابل للتأويل لاكتشاف الثاوي خلف ظاهره، وهذا يحرر لغة القصيدة من المباشر المتداول، بجعلها تتجاوز التواصل المحدود إلى بناء الدلالة وترميزها. مما يوصلنا إلى الغموض (مقاطع قصيرة لا تتجاوز سطرين شعريين/ الشذرية) وهو غموض يخلق المتعة ويضاعف المعنى وهو يبنيه.

 

هكذا يصبح الرمز آدم قمة تعبيرية يتوسلها الشاعر لبناء صورة مركبة عبر القصيدة/ الديوان كلها، صورة تعج بالانزياحات والصور البلاغية المنتمية إلى الخيال التقليدي (التشابيه/ الاستعارات) أو الحديث  الانزياحات (أنسنة الطائر/ الريح) كما يتجلى في الصفحات: 14/16/17/20/22/24… و57.

 

الشاعر وعلامات الترقيم

لم يستعمل الشاعر في قصيدته/ ديوانه بشكل أساسي سوى نوعين من علامات الترقيم:

 1ـ النقطة، في نهاية مقاطع شعرية مكتملة المعنى. مما يجعل الجملة الشعرية المتأرجحة بين الطول والقصر وكأنها دفقة أو مد يتأرجح بين الامتداد والتقلص، أو كأنها تنفس متقطع لاهت خلف إيقاع الرحلة/ الحياة نزولا وصعودا

 2ـ علامة الاستفهام والتي هي أساسا تقوم على قاعدة النقطة، وتدل على وجود طلب الاستفسار ومعظمها يرتبط باستنكارات آدم وهو يشاهد تدهور الوجود (ص 42/47/48)، دلالة على القلق والانشغال على مصير أبنائه وأحفاده وقلقل الشاعر من عصره على وجوده… هذا مع ورود علامتين أخريتين بشكل جزئي (الفاصلة ص 17 ونقطتا التفسير ص 16 المرتبطتان بوجود حوار بين آدم والطائر).

 

ولعل هذا التركيز على النقطة بالدرجة الأولى، وتفادي الباقي إلا لماما، له دلالة خاصة عند الشاعر وعند المتلقي، فالرهان على الشذرية في التعبير، والتداعي المتدفق محدود الامتداد هدفه رصد نبض التعبير عند الشاعر.

والشذرية كوجه من وجوه الاقتصاد في اللغة مظهر آخر لشعرية هذا النص الذي يتيح لك أن تقرأه أكثر من مرة وهو ينساب بين عينيك كموال غنائي جميل ورائق رغم غيمة حزن شفيف.

 

لم تعد شعرية القصيدة الحديثة حكرا على عنصر فني واحد، بل أصبحت رهينة تنوع العناصر، وحسن سبكها وصياغتها وصوغها وحبكها.. وهذا ما نجح فيه الشاعر هنا، بحيث قارب بين البعيد والقريب، النثر والشعر، بين البلاغات والأساليب ونسج قصيدته.. شعريته..

 

على سبيل الختم :

هل يمكن الحديث عن بطل إشكالي في عودة آدم؟ بطل يبحث عن قيم أصيلة في عالم منهار؟ وسؤالي الخاص إلى الشاعر: لماذا عاد آدم بدون حواء؟ هل القصيدة حواء؟