الاثنين 29 ديسمبر 2025
فن وثقافة

عمر بن اعمارة: في واحة فݣيݣ رأيتُ العدمَ مُقيمًا

عمر بن اعمارة: في واحة فݣيݣ رأيتُ العدمَ مُقيمًا عمر بن اعمارة
تاريخٌ سعيد، وذاكرةٌ شقيّة… هربتُ من نفسي إلى نفسي فلم أجدها.
في الواحة، المكان ليس مجرّد جغرافيا، أو مساحاتٍ للعبور، أو حتى للسكن، بل هو مقام، والمقام دعوةٌ للحضور المكتمل. والزمان هناك ليس مجرّد وقتٍ للاستعمال اليومي، بل هو ذاكرة، والذاكرة نداءٌ للانتماء إلى نفسك.
الواحة هي تلك التركيبة الطبيعية الخالصة بين السهل الممتنع والبسيط الممتع؛ حيث البهاء يتدفّق من كل 
مفاصلها، والسكون يغمر كل ثناياها ويسبغ أماكنها بالهدوء والسكينة والصمت يتدلّى رداءً لها والنسيان المخاتل يتسلّل إلى حيث تنبض الحياة قصد وأدها.

هناك في الواحة، كلّ شيءٍ يتنازل عن غموضه ويلبس وضوحًا مبهِرًا، والبساطة نداءٌ إلى الانتماء للروح ولبواطن الذات. إن كان الماء روحَ الواحة المتجلّي، فللواحة روحُها المتخفّي؛ لن ينتبه إليه ولن يستمتع به أيّ كان: إنّه «السكون» الكاسي لها، ففي سكونها الخاص يكمن جوهر وجودها.
 
العدم ليس هو غياب الوجود أو حضور اللاشيء. العدم هو ذلك التقويض الكلّي لكل ما أنشأه الفعل البشري. العدم هو مسح أثر اليد.

أن تشاهد العدم وتشهد عليه هو أن ترى ذلك الصرح من الجمال والرقة وهو ينكسر وينهار أمام حضورك الباهت؛ هو حينما تتلاشى تلك العلاقات الإنسانية السميكة المرصّعة بالدفء والصدق أمام عينيك وأنت تتحسّر على ما مضى. هو حينما يتحوّل المعنى إلى خيط دخان، لا ولن تتبقّى لك من قوة أو فرصة حتى لتطارده وتقبض عليه.
 
أكثر الأجيال بؤسًا وشقاوةً: ذلك الجيل المخضرم؛ لا هو ركن واستمرّ في ذلك المألوف والمتعوَّد عليه والمستأنَس به، الذي صار مريحًا وغير مكلفٍ له، ولا هو استوعب وانخرط في ذلك المتحوّل اليومي الجارف، المكتسِح لكل التفاصيل، والجديد الذي لبس كل شيء.

المخضرم هو الذي وقف على عتبة بين زمنين، حيث تحوّلت العتبة وصار لا يقف على العتبة نفسها. واقعٌ يحتضر وآخر في طور التشكل؛ ذلك هو المخضرم.
 
عندما نرثي المكان، في حقيقة الأمر وعمقه، نحن لا نرثي سوى أنفسنا القديمة. نحن المخضرمون صرنا كالضيوف؛ لم يعد بإمكاننا القبض على الانتماء إلى زمنٍ محدّد. نحن لا نحضر إلى المكان إلا لنشهد على النهايات. نحن جسورٌ هشّة ومُحطَّمة لا تصلح للعبور، وشاهدُ عيانٍ على تلك النهايات التي هي بدايات.
 
أحاول ما أمكن تفعيل حاسّة اللامبالاة وعدم الاكتراث: أن لا أمعن النظر، وأن لا أحدّق في الأشياء، وأن لا أبحث في التفاصيل، وأن لا أقيس وأقارن الشيء بذاته بين الحاضر وإمكان المستقبل، وبين الماضي المركون في ذاكرتي؛ لأن من ذلك سيتولّد الألم والحسرة. لكن فجأة أجد نفسي متواطئًا ومنغمسًا في مقارنات وتقييماتٍ مسترسلة.
 
هناك، في ساحة «تاشرافت» بقصر زناݣة بواحة فݣيݣ، في ركنٍ بالمقهى، وفي ظل الرتابة، أجلس لأراقب اللاشيء وهو يمرّ ويكبر ويتمدد أمامي ويبتلع كل شيء؛ إنّها النهايات و البدايات. كل عقارب الحاضر تشير إلى النهاية.
 
لقد صارت واحة فݣيݣ بقايا:
بقايا واحةٍ ممتدّة الأطراف، ضاربةٍ في عمق التاريخ وشساعة الجغرافيا وحرية التنقّل والتمدّد…
بقايا إنسانٍ ملأ المكان حياةً و بنى تحضره الخاص…
بقايا ذاكرةٍ حاملةٍ لتخوم التاريخ، ومثخنةٍ بالفواجع والجروح، وشاهدةٍ على النكسات…
بقايا روحٍ جماعيةٍ كانت إسمنت أهلها، فانكسرت وتلاشت أمام رأسماليةٍ متوحشة امتدّت إلى كل جزئيات الأرض، وعولمةٍ اكتسحت واجتاحت كل شيء…
بقايا بساتين مبهجة كانت تفيض حياةً، منحت الخضرة والقوت وكفت احتياجات أهلها…
بقايا صهاريج كانت خزّاناتٍ لمياه السقي، وبمثابة قِرَبٍ للبساتين، ومسابح للأطفال والشباب…
بقايا دورٍ آوت وأسكنت وسترت قاطنيها البسطاء…
بقايا أزقّةٍ كانت رياضًا وملاعب للأطفال الذين كانوا يملؤون الدنيا حياةً وحبورًا بحيويتهم وشغبهم اليومي…
بقايا دكاكين كانت مؤثّثةً بالعفّة والبركة وبما قلّ ودلّ…
بقايا أسوارٍ كانت حصونًا منيعة ضد كل متربّصٍ مخاتلٍ أو معتدٍ؛ بل كانت رداءً للواحة، وهي من صنعت أمنها وسلامها ووقارها…
بقايا مساجد صارت باردةً يوم لم تعد تُعمَر…
بقايا مدارس، منها ما أُغلق، ومنها ما ينتظر. إغلاق مدرسة بشكل نهائي دون قوّة قاهرة!؛ الأمر جلل …
بقايا دواجن وطيور وحشرات وحيوانات برّية؛ هذه المخلوقات الطيّبة من سكّان الواحة التي تقاسمت معنا فضاء هذا البلد منذ القدم.
 
إخلاءٌ وإفراغٌ في أطوار متقدمة:
منازل فارغة متآكلة تحوّلت إلى حطام، وأبوابٌ مغلقة؛ هي لأهلنا وأحبابنا وجيراننا وأصدقائنا. لن تتجرّأ على طرقها؛ إذ الصمت المكتمل الفائض الطافح هو وحده من سيجيبك. والذي سيفتحها غادر المكان ولن يعود، وهي صارت موصدةً إلى الأبد.

أحياء كاملة هجرت وأفرغت حتى من دواجنها، أزقّةٌ فارغة مضت وصارت خاليةً من المستقبل، وحتى من الماضي ومن الحياة. وأنت تجول بين ثناياها لن تجد أطفالًا يعترضون طريقك ويعرقلون سيرك وهم يلعبون وسط الطريق بأراجيحهم أو دراجاتهم… ولن تصادف أطفالًا على أكتافهم محافظهم وهم متجهون نحو المدرسة، ولن تلاقي من يناديك: «عمّي، امنحني درهمًا»، أو «ساعدني على ركوب دراجتي»، ولن تسمع حتى من يناديك: «عمّي، كم الساعة؟».

وحتى إن صادفت في طريقك طفلًا ما، فلن يحدّثك باللغة المحلية «تْمازيغْتْ» (Tmazight) التي هي في طور الاحتضار والانقراض.

لن تعثر على أثر لأولئك الكهول والشيوخ الذين كانوا يؤثّثون المكان ويملؤونه حياةً ببياضهم المعهود، وبضجيجهم وجدالهم المسترسل، وهم جالسون على المصاطب، مصطفّين كالسنونو على الأسلاك الكهربائية، أو كحبّات السبحة، في انتظار الأذان للصلاة.
 
في طريقك لن تشاهد تلك الأسراب من النساء الملفوفات بالرداء الأبيض-الحايك- كالحمائم، ولا يبدو منهن سوى عين واحدة، وهن متجهات وقاصدات إحدى بيوت الأهل أو الأحباب من أجل حضور حفل زفاف، أو تقديم واجب العزاء والمواساة، أو من أجل المساعدة في تحضير وجبة الكسكس التي تقدم كصدقة للجميع بعد صلاة المغرب.
 
إنه الخواء، والصمت الكثيف السميك الرهيب، يلاحقك في جميع الأزقّة والأمكنة. إنه التخلّي والانسحاب الكلّي؛ الفراغ ازداد شراسةً وطراوةً وتمدّدًا، والأماكن صارت باردةً ومتجعّدة بعد أن هجرتها الحياة.

فهل للمكان مكانٌ أو زمانٌ دون نبض الإنسان؟
كل المنافذ مغلقة… في واحة فكيك صرنا عرضةً للخنق والتلف، وفرائس للطيور الجارحة، كتلك الأسماك في بحيرةٍ صارت تجفّ من مائها يومًا بعد يوم.
 
التحوّل، أو المسخ بلغة العبقري فرانز كافكا؛ نعم، تحدّث كافكا في روايته المعنونة بـ«التحوّل» عن ذلك الشاب «غريغور سامسا» الذي نام واستيقظ في الصباح ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرةٍ كبيرة… إلى نهاية الرواية. لكن من تحدّث عن التحوّل والمسخ والتقزيم الذي أصاب بعض الأماكن وشوّهها، كما لو أن كارثةً من عيار تشيرنوبل حلّت بها؟
 
في واحة فݣيݣ، ولادة طفل صارت حدثًا ميتافيزيقيًا. في واحة فݣيݣ، خبرٌ ما عن الزواج أو الولادة صار كالكبريت الأحمر؛ وحده الإخبار عن الموت هو الشائع. حتى أن أحد أبناء الواحة البررة تكفّل، مشكورًا، بإنشاء موقع على شبكة التواصل الاجتماعي (لاحظوا: لواحة فݣيݣ موقعٌ على الإنترنت، لكن للإخبار عن الموت لا غير) ليخبرنا عمّن غادرنا إلى دار البقاء من أهلنا وأصدقائنا المنتشرين في كل بقاع الأرض، وليذكّرنا بأن خريفنا مسترسل — أرجو أن لا يخبرنا يومًا ما بأن أحد أبناء الواحة توفّي وهو في مهمة على سطح القمر أو المريخ —.
 
في واحة فݣيݣ، أكبر تجمّع بشري خارج صلاة الأعياد لن تجده إلا في مقبرة «بوخود». لا أقصد الموتى الذين يرقدون هناك في أمنٍ وسلام، بل أتحدّث عن الأحياء؛ إذ لا تصادف ولا تلتقي بحشودٍ من الرجال إلا عند وفاة أحدٍ ما، حيث يتّجه الكلّ للمساعدة، ولحضور مراسيم الدفن، ولتقديم واجب العزاء لأهل الفقيد.
 
تركيبةُ سمٍّ قاتلةٍ تتجرّعها واحة فݣيݣ منذ زمنٍ ليس بقريب: مصادرة وسلب الأراضي بشكلٍ مسترسل، تهميشٌ مستمر، هجرةٌ مكثّفة مزمنة، عزوفٌ عن الزواج وعدمُ إنجاب، وترميماتٌ في الوقت بدل الضائع.
 
واحة فݣيݣ حُشرت في إطار، وحلّت الأسلاك الشائكة (les fils barbelés) والأخاديد محل أشجار النخيل والعرعار والطرفاء، وصارت جلّ الجبال ممنوعةً من التسلق أو حتى من الاقتراب من سفوحها.
 
فهل قدَر واحة فݣيݣ أن تصبح يومًا ما ثكنةً مفتوحة على السماء (Caserne à ciel ouvert)، أم لا نقنط من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟