الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الله أجرعام: قاعدة التطهير بين الإطلاق والنسبيـة

عبد الله أجرعام: قاعدة التطهير بين الإطلاق والنسبيـة عبد الله أجرعام
-قراءة على خلفية قرار محكمة النقض بالغرف مجتمعة المؤرخ 30 يونيو 2020.
 
على إثر القرار الأخير الصادر عن محكمة النقض بغرفها المجتمعة يوم أمس 30/06/2020 الذي أشار إليه الدكتور حسن فتوخ على صفحته في الفايسبوك، أثير من جديد النقاش حول مدى كون قاعدة التطهير المنصوص عليها في الفصل 1 و62 من ظهير التحفيظ العقاري عامة ومطلقة تسري على الكافة أم أنها ليست كذلك ويستثنى منها بعض الأشخاص أو بعض الحقوق، وهو نقاش قديم حديث.
حيث إنه وعلى الرغم من وضوح وصراحة الفصلين 1 و62 من ظ ت ع، من حيث تنصيصهما على إضفاء حجية ومناعة مطلقة على بيانات الرسم العقاري، وتطهير العقار من جميع الحقوق العينية والتكاليف العقارية المسكوت عنها أثناء سريان مسطرة التحفيظ إلى حين صدور الرسم العقاري خاليا منها، فإن مدى تطبيق هذه القاعدة من حيث اقتصارها على الغير ليس إلا، أم شمولها للخلف الخاص لطالب التحفيظ كان ولا يزال  محط خلاف شديد في الفقه والقضاء.
فبعض الفقه يذهب إلى أن جعل الأثر التطهيري لقرار التحفيظ لا يسري على الخلف الخاص لطالب التحفيظ  يعد أكثر عدالة، ذلك أن التطبيق الحرفي لمقتضيات الفصلين 1 و 62 من ظ ت ع ــــ حسب الأستاذ محمد الكشبور ــــ من شأنه أن يفرز كثيرا من الظلم، نظرا للأسباب التاريخية التي كانت وراء سنها، حيث ارتبطت بسياسة الاستيطان بالمغرب، إذ كان من شأنها تسهيل الاستحواذ على أراضي الفلاحين البسطاء عن طريق مسطرة غير مفهومة لديهم لغة ومضمونا وقضاء. 
ويؤكد بعض الباحثين ــــ تدعيما لنفس الموقف ــــ أن عدم إمكانية مواجهة الخلف الخاص بقاعدة التطهير يتفق مع المنطق المجرد، ذلك أن من يطالب بتقييد حق اكتسبه من طالب التحفيظ قبل إتمام عملية التحفيظ والذي لم يبرزه أثناء هذه العملية، لا ينازع في حقيقة الأمر في ملكية سلفه، بل على العكس يؤيدها من خلال المطالبة بحقه الذي استمده من هذا المالك، خاصة إذا كان هذا الأخير لم يرتب بعد التحفيظ حقوقا للغير تتأثر بإقرار حق الخلف الخاص.
ورأي فقهي آخر كالأستاذ مأمون الكزبري وجد تطبيق قاعدة التطهير على الجميع دونما تمييز بين الغير أو الخلف الخاص تأسيسا على أن " النص الوارد في الفصلين 1 و 62 من ظ.ت.ع هو نص مطلق لا يتسع للتمييز بين الغير وبين الخلف الخاص لطالب التحفيظ، ثم إن المشرع قصد عندما أقر مبدأ التطهير أن تكون لتقييدات السجل العقاري مناعة تامة، وفَسْحُ المجال للخلف الخاص في أن يطعن بهذه التقييدات لسبب سابق على التحفيظ من شأنه أن يُدخل خللا على هذه المناعة التي أرادها القانون مطلقة".
ثم إن المشرع قد أوجد ضمانات أثناء وبعد عملية التحفيظ، فألزم ممارسة مسطرة التحفيظ ضمن آجال كافية ووسط عمليات إشهارية واسعة ليتمكن صاحب الحق من حماية حقه باتباع إجراءات الفصل 83 أو الفصل 84 من ظ.ت.ع، بالإضافة إلى تخويله الحق في المطالبة بما ضاع منه بسبب التحفيظ في إطار الفصل 64 ظ.ت.ع، إضافة إلى الالتجاء للقواعد العامة للمسؤولية أو في إطار الأحكام العامة للإثراء بلا سبب، فلو لم تكن حجية الرسم العقاري المؤسس بمناسبة عملية التحفيظ عامة ومطلقة، ما كان المشرع حرص على وضع هذه الضمانات كلها، مما يجعل استثناء بعض المتضررين من التحفيظ في تطبيق الحجية المطلقة، فيه تعطيل للمقتضيات التشريعية المنظمة لمسطرة التعويض بعد إنشاء الرسم العقاري.
ولقد كان لهذا الخلاف الفقهي تأثيره على مواقف القضاء المغربي عموما، ومحكمة النقض على وجه الخصوص التي عرفت ــــ ولازالت ــــ عدة انعطافات في توجهاتها بشأن مدى شمول الحجية المطلقة للتحفيظ العقاري للخلف الخاص لطالب التحفيظ أم اقتصارها على الغير ليس إلا، فبعد أن أكدت بمقتضى القرار المؤرخ في 29 يناير 1992(ملف مدني عدد: 2075/87 بتاريخ 29/1/1992، منشور بمجلة الإشعاع، عدد: 7 يونيو 1992، ص.69 وما بعدها.) على الحجية المطلقة والشاملة لقرار التحفيظ وبالخصوص في مواجهة الخلف الخاص، عادت لتستثني هذا الأخير من هذه القاعدة بمقتضى القرار المؤرخ في 29 دجنبر 1999، والذي جاء فيه: " إن الطالب بصفته مشتريا (أي خلفا خاصا) من نفس طالب التحفيظ المطلوب الذي تحول مطلبه إلى رسم عقاري لا يواجه كالخلف العام (الورثة) بمقتضيات الفصل 62 من ظ.ت.ع " (قرار عدد: 5925 مؤرخ في 29 دجنبر 1999، الملف المدني عدد: 1151/94، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد: 62، سنة2003، ص.451.)، ثم ما لبثت لتعود لموقفها الأول مؤكدة مرة أخرى على الأثر المطلق لقاعدة التطهير وسريانها على الكافة لاسيما الخلف الخاص، بمقتضى القرار المؤرخ في 3 أكتوبر 2007، والذي جاء فيه أن: " انتقال الحق العيني بين الأحياء أثناء مسطرة التحفيظ من جديد في اسم المالك الجديد ، أو إيداع الوثائق اللازمة لدى المحافظة العقارية للتقييد في سجل التعرضات وإعطائها أثر التسجيل من تاريخ هذا التقييد يوم التحفيظ، وفي حالة ما تم تحفيظ العقار ولم يكن من أجري التصرف له بحق واجب التسجيل قد أودع وثائق انتقال الحق له، ولم تقيد على الكيفية المذكورة لا ينشأ لفائدته أي أثر لحق عيني قبل سلفه المحفظ له لأنه حق نشأ قبل تحفيظ العقار وطهره التحفيظ منه".( قرار عدد: 3134 في الملف المدني عدد: 2748/06، صادر عن محكمة النقض بتاريخ 03 أكتوبر 2007، منشور بالتقرير السنوي للمجلس الأعلى لسنة 2007، ص.135.).
إن ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص هو أنه بالرغم من وجاهة النتيجة التي انتهت إليها محكمة النقض في القرار عدد: 5925 المؤرخ في 29 دجنبر 1999 وانسجامها مع مبادئ العدل والإنصاف، من حيث إنصافها للخلف الخاص لطالب التحفيظ بجعل قاعدة التطهير لا تسري في مواجهته، فإنها تكون بذلك قد خرقت النص الوارد في الفصلين 1 و 62 ظ ت ع ، لأنه نص مطلق لا يتسع للتمييز بين الغير وبين الخلف الخاص لطالب التحفيظ.
ومن جهة أخرى فإن قرار محكمة النقض الذي نحن بصدده قد استثنى الخلف الخاص من الأثر المطلق لقاعدة التطهير دون الخلف العام، بالرغم من أن الاعتبارات التي جعلتها تستثني الخلف الخاص هي حاضرة ـــ وبحدة ــــ بالنسبة للخلف العام كذلك، كما جاء على لسان الأستاذ محمد الكشبور في مؤلفه المعنون بالتطهير الناتج عن تحفيظ العقار.
ولهذه الاعتبارات يرى الأستاذ محمد شنان بحق، أنه يمكن لمحكمة النقض حماية المتصرف إليه الذي يكتسب حقا على عقار في طور التحفيظ، بإبعادِه للحقوق المكتسبة على العقار في طور التحفيظ من الخضوع لمقتضيات الفصلين  1 و62 ظ.ت.ع، دون التمييز بين الخلف الخاص أو العام أو حتى الغير ـــ الذي هو تمييز لا مبرر له ـــــ ودون خرق الفصلين 1 و62 السالفي الذكر، وذلك بالاعتماد أساسا على تفسير سليم للفصل 84 من ظ.ت.ع.
 فبمقتضى هذا الفصل يمكن للمتصرف إليه بحق على عقار في طور التحفيظ  "... من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير، أن يودع بالمحافظة الوثائق اللازمة لذلك، ويقيد هذا الإيداع بسجل التعرضات.
يقيد  الحق  المذكور عند التحفيظ بالرسم العقاري في الرتبة التي عينت له إذا سمحت إجراءات المسطرة بذلك...".
ومن خلال القراءة المتأنية لهذا النص يتضح جليا أن الجزاء الوحيد الذي يترتب عن عدم إيداع الوثائق المذكورة بالمحافظة، هو فقدان رتبة التقييد وعدم إمكانية مواجهة الغير به.
فالإيداع المنصوص عليه في الفصل 84 المذكور ــــ يقول الأستاذ محمد شنان ـــ هو بمثابة تقييد احتياطي من نوع خاص من أجل الحفاظ على الرتبة ومواجهة الغير به، ويضيف الأستاذنا محمد شنان في مقالته المعنونة بـ "عبثية الإبقاء على الأثر المطلق لقرار التحفيظ بعد الاستقلال" قائلا: " ... فيكفي ملاحظة أن الفصلين 83 و 84 ظ ت ع يدخلان في الباب المتعلق بإشهار الحقوق العينية والمحافظة عليها، ويليهما مباشرة الفصل 85 المتعلق بالتقييد الاحتياطي، وبعد الفصلين 1 و62 من نفس الظهير، أي أن هذه الفصول الأخيرة تهم الحقوق المنشأة قبل وضع مطلب التحفيظ ... "، وبالتالي فإن التطهير إنما ينصب على الحقوق العينية المنشأة قبل وضع مطلب التحفيظ.
ثم إن القول بخلاف ذلك واعتبار التطهير ينصب حتى على الحقوق المنشأة أثناء جريان مسطرة التحفيظ، من شأنه أن يؤدي إلى نتائج تنافي العدالة وتكون منافاة العدالة صارخة عندما يتصرف طالب التحفيظ في عقاره موضوع مطلب التحفيظ في يوم وفي اليوم الموالي مباشرة يصدر المحافظ قراره بتحفيظ العقار إذا كان الملف جاهزا. ففي هذه الحالة سيكون المستفيد من هذا التفويت مجردا من أية وسيلة قانونية لحماية حقه.
ولقد كان القضاء المغربي يسير في هذا الاتجاه معتبرا أن الأثر التطهيري المطلق إنما يخص الحقوق العينية المنشأة قبل وضع مطلب التحفيظ، دون تلك التي تكون قد نشأت أثناء جريان مسطرة التحفيظ، والتي يمكن الاحتجاج بها حتى بعد إنشاء الرسم العقاري خاليا منها، ومن ضمن القرارات التي تسير في هذا الاتجاه نذكر:
- القرار المؤرخ في 27 يناير 1927، الرباط، مجموعة قرارات محكمة الاستئناف، الجزء الثالث، ص.336.
- القرار المؤرخ في 1 دجنبر 1928، الرباط، مجموعة قرارات محكمة الاستئناف، الجزء الثالث، ص.140.
- القرار المؤرخ في 15 ماي 1934، الرباط، مجموعة قرارات محكمة الاستئناف، الجزء الثالث، ص.155.
غير أنه قد تراجع عن هذا التطبيق السليم للفصل 84 من ظ.ت.ع في القرارات الأخيرة ، معتبراً أن الأثر التطهيري المطلق إنما يسري على جميع الحقوق العينية المسكوت عنها أثناء جريان مسطرة التحفيظ ، ولو كانت قد نشأت بعد وضع مطلب التحفيظ.
وتبعا لذلك فإنه بات يتوجب على المشرع المغربي أن يتدخل عاجلا لتخليص ظهير التحفيظ العقاري من رواسبه الاستعمارية وإضفاء الصبغة الوطنية عليه، وذلك بالتصدي للاختلالات الناتجة عن التطبيقات المريبة لبعض فصوله التي لا تراعي خصوصيات مجتمعنا المسلم الذي يقدس حماية حقوق الملاك الشرعيين ويجعلها فوق كل اعتبار.
وكما هو معلوم فإن فعالية القاعدة القانونية تقتضي أن تكون نابعة من واقع المجتمع الذي تسري عليه، ومنسجمة مع قيمه الدينية والأخلاقية ومتطابقة مع أعرافه المحلية.
 
ذ/ عبد الله أجرعام، محامي بهيئة الدار البيضاء