الأربعاء 17 إبريل 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ لماذا تأخر الطب الحديث بوجدة حتى سنة 1925، رغم أنها احتلت سنة 1907؟ (ح. 20)

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ لماذا تأخر الطب الحديث بوجدة حتى سنة 1925، رغم أنها احتلت سنة 1907؟ (ح. 20) مستوصف معالجة الأمراض الجنسية ومرض الزهري بوجدة سنة 1927 ولحسن العسبي

تقدم قصة دخول الطب إلى مدينة وجدة، مادة للاستغراب بدرجات مثيرة. والسبب، منذ البداية، هو أن هذه المدينة المتواجدة في أقصى الشرق المغربي، قد كانت أيضا متواجدة في "أقسى التهميش الطبي"، مقارنة بواقع الحال في باقي كبريات المدن المغربية زمن الاستعمارين الفرنسي والإسباني والدولي لبلادنا، مثل مدن الدار البيضاء، طنجة، تطوان، الرباط، فاس، مكناس ومراكش. ومبعث الإثارة قادم من أنها (هي ومدينة الدار البيضاء) من أول المدن المغربية التي وقعت تحت الاحتلال العسكري الفرنسي منذ سنوات 1907/ 1908. فكان بالتالي مفروضا أن تحوز خدمات صحية حديثة باكرا، مثلما سجل مع كازابلانكا، لكن ذلك لم يحدث للأسف. علما أن تمة مفارقة عجيبة نوعا ما، هي أن مدينة وجدة، تكاد تعتبر المدينة المغربية الوحيدة التي كان عدد السكان الأوروبيين والجزائريين فيها موازيا لعدد السكان المغاربة، مما يجعل المنطق يقول إنه كان على سلطات الاستعمار توفير الخدمات الصحية الجديدة بدرجات سريعة وعالية. لكن الذي تؤكده، وثائق أطباء عسكريين فرنسيين بها، اعتمدناها في هذا البحث، هو أنه حتى التطبيب الحديث الذي تم توفيره، قد كان مخصصا في ثلثيه للجالية الأوروبية وليس للمغاربة. وهذه حالة شاذة تماما في قصة دخول الطب الحديث إلى المغرب، لا يملك المرء إلا التساؤل عن سببها، وهل ذلك يعود إلى تأثير الجوار الجزائري (خاصة الغرب الجزائري)، الذي كانت فيه كل الخدمات العمومية، بما فيها الصحة، تمييزية وعنصرية. هل تلك الثقافة السلوكية الاستعمارية العنيفة هناك، صار لها أثر هنا، في وجدة أيضا؟ ذلك ما سنحاول تفكيكه هنا.

 

سقطت مدينة وجدة في يد الجيش الفرنسي (وحدات وهران العسكرية بالغرب الجزائري بقيادة الجنرال ليوطي)، سنة 1907، بعد مقتل الطبيب الفرنسي موشان بمراكش بحي عرصة موسى، رميا بالحجارة من قبل جمهرة من المواطنين المغاربة، بحجة اتهامه بالتجسس ورفعه علم بلاده فوق عيادته الطبية. كانت فرنسا تتحين الفرصة منذ 1900 للدخول إلى المغرب واحتلاله بعد احتلالها للجزائر ابتداء من سنة 1830 وتونس سنة 1883، وتحرشت بالعديد من ساكنة مناطقه الشرقية، وشرعت في قضم أطراف من الأراضي المغربية منذ بداية القرن 20، لعل أكبرها مناطق توات وتيندوف والساورة، التي ألحقت من حينها بالجزائر.

 

كانت وجدة، بالنسبة للأدبيات الاستعمارية، مجرد مركز عسكري للتشويش على المغرب، وليست رهانا استراتيجيا كبيرا (على أهميته الحدودية الفارقة) مثل فاس والدار البيضاء ومراكش. لهذا السبب نجد أنها تحضر في تلك الأدبيات العسكرية بأوصاف قدحية استفزازية، ليس أقلها ما أحال عليه تقرير عسكري للطبيب جوزيف ليز (خريج كلية الطب بمدينة ليون الفرنسية سنة 1921)، من توصيف للروائية الفرنسية إيزابيل إبرهارت (صحافية وكاتبة وروائية روسية الأصل، ولدت بسويسرا سنة 1877 وتوفيت بالجزائر سنة 1904، حصلت على الجنسية الفرنسية بفضل زواجها من مواطن فرنسي. من أشهر أعمالها: المجموعة القصصية "حب رحالة" و رواية "ياسمينة"، وكتاب رحلتها "مذكرات طريق: المغرب، الجزائر، تونس" سنة 1908). حيث يقول ذلك التوصيف القدحي: "وجدة بلدة الجوع والأوحال والعفن والجنس".

 

لهذا السبب، سنجد أن العقلية الفرنسية المتحكمة في وجدة، كانت منتمية تماما للعقلية العسكرية الاستيطانية العنصرية، التي كانت للمجموعة الفرنسية الحاكمة بالجزائر، وتكاد تكون في شبه قطيعة لسنوات مع عقلية المقيم العام الفرنسي بالرباط، ابتداء من أبريل 1912، الماريشال ليوطي وفريقه. هذا سيخلق بشكل واضح ردود فعل عند الساكنة المغربية هناك، كان على درجات عالية من العنف والتشدد، لأن درجات الظلم كانت عنيفة وعالية (بقيت تلك الثقافة السلوكية مميزة لأهلنا الوجديين لسنوات طويلة). وفي مجال بحثنا هنا، سنجد أن ترجمة ذلك على المستوى الطبي برز في شكل البنية الطبية التي تم استحداثها بالمدينة المغربية الأصيلة تلك، التي كانت في الصف الأول المتقدم المواجه لمدافع فرنسا من الجزائر.

 

لقد اختار الفريق العسكري الفرنسي المحتل لوجدة منذ 1907، أن يحصر خدماته الصحية في شقها العسكري المحض، بدليل أنه أنشأ أول وحدة طبية قارة بالمدينة داخل مقر القيادة العسكرية الفرنسية بها، التي بقيت هناك حتى سنة 1925. أي أنه على امتداد 18 سنة، ظلت الخدمات الصحية بوجدة فقيرة جدا، ولم تسجل انطلاقة فعلية ملموسة وذات أثر كبير، سوى ابتداء من سنة 1926. وتفسير ذلك تاريخيا، لا يستقيم تحليليا سوى بربطه بالأحداث المحيطة بشرق المغرب كله ما بين سنوات 1907 و1926. فهي سنوات التوتر العالي هناك بسبب حركة بوحمارة (التي نسجل دوما أنه جاء لتنفيذها من الجزائر)، في الفترة ما بين 1902 و1909، ثم هي سنوات التوتر الهائلة بسبب حرب الريف بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1919 و1926. دون إغفال التوتر الكبير للتنافس الفرنسي الألماني على المغرب في المرحلة ما بين 1905 و1912، الذي كانت شواطئ السعيدية حتى الناظور والحسيمة مجالا له، عبر اختراقات تجارية وعسكرية.

 

بالتالي، ظلت الخدمات الطبية الاستشفائية تقدم بتلك الوحدة الطبية الصغيرة للعسكريين وللمدنيين الأجانب فقط دون المغاربة، داخل القيادة العسكرية الشهيرة هناك حينها بـ "مركز القيادة العسكري جاك روز". ولن يتم نقل تلك الخدمات الصحية خارج أسوار تلك الثكنة سوى سنة 1925، حين تم بناء مستشفى جديد وحديث شمال مدينة وجدة، على ربوة مطلة على طريق مارتيمبراي (قرية الكيس على الحدود المغربية الجزائرية)، أطلق عليه اسم "مستشفى أكولاس" تكريما لذكرى الطبيب العسكري أكولاس الذي توفي يوم 14 نونبر 1912 بسبب مضاعفات مرض التفويد. وكما تؤكد وثيقة عسكرية للطبيب العسكري الفرنسي لوازو، الذي عين مديرا لذلك المستشفى في ما بعد، فإن مجال تطبيب تلك المؤسسة الطبية العسكرية والمدنية الجديدة، قد كان يغطي كل المناطق المحيطة بوجدة حتى جرادة جنوبا وتاوريرت ودبدو غربا، وصولا حتى إلى مدينة مغنية ونمور بالغرب الجزائري شرق المدينة. مع تجهيزه بأحدث الأجهزة الطبية على مستوى قاعات الفحص وقاعات الراديولوجي وقاعات الجراحة، مع قاعات استشفاء وعلاج تضم 135 سريرا.

 

بالعودة إلى وثيقة الطبيب العسكري الدكتور جوزيف ليز، التي حررها سنة 1936، فإننا نجد تأكيدا على أن الاهتمام بالواقع الصحي للمدينة لم ينطلق عمليا سوى في سنة 1922، من خلال تأسيس اللجنة المحلية لحفظ الصحة العامة، بالتوازي مع بداية تنظيم المجال بوجدة، من خلال مخطط عمراني جديد، سمح بميلاد أحياء عصرية، كان في القلب من ميلادها وتطورها بناء محطة القطار ابتداء من سنة 1918. وهي اللجنة البلدية المحلية التي باشرت العمل على أربع واجهات كبرى، هي: الصرف الصحي الحضري/ الوقاية من الأوبئة والأمراض المعدية/ تنظيم مجالات الصحة العمومية/ تنظيم تدخلات حفظ الصحة الاجتماعية. مما كانت نتيجته مع حلول سنة 1930، توفر مدينة وجدة بساكنتها التي بلغت 30 ألف نسمة (15 ألف مغربي و 15 ألف أجنبي أوروبي وجزائري)، على 43 كلمترا من الطرق المعبدة، 50 كلمترا من شبكة الماء الشروب، 30 كلمترا من شبكة الصرف الصحي. من حينها أصبحت وجدة مدينة حديثة (ولو بتأخر دام 23 سنة) مثلها مثل المدن الحديثة بالدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش (ووهران بالجزائر).

 

على مستوى الخدمات الصحية المباشرة، سيتم بناء محطة كبيرة للتعقيم العمومي، ضمت آليات ضخمة لتعقيم وتنظيف الملابس إلزاما لساكنة المدينة لمواجهة خطر عدوى انتشار الأمراض الوبائية، التي كانت متفشية بالمنطقة خاصة مرض الملاريا والجدري والتفويد. وكانت حملات الاعتقالات يومية لحمل الساكنة على الاستفادة من ذلك التعقيم، الذي كان يشمل مستويين، الأول هو تعقيم الملابس في أفران كبيرة، ويتمثل الثاني في إلزامية إدخال أصحابها إلى حمامات طبية مخصصة للنظافة بالماء الساخن والرش عبر التبخير بمواد طبية معقمة. وكانت تستعمل في عمليات تعقيم الملابس غاز الكبريت (ضد باكتيريا وإغزيما الأمراض الجلدية وأمراض الشعر)، وغاز الميتانال (ضد البكتيريا المتسببة في التقرحات). مثلما تم إحداث وحدة صحية خاصة بمعالجة الأمراض الجنسية خاصة مرض الزهري، وفرض رقابة صارمة على دور الدعارة، حيث تم إحصاء كل "بائعات الهوى" بالمدينة وتحديد مقار عملهن، ومنحهن بطاقات خاصة رسمية ودفترا طبيا فيه متابعة مدققة لوضعهن الصحي، حيث بلغت نسبة محاربة مرض الزهري بين 1925 و 1935، أكثر من 76 بالمئة، وتم تلقيح أكثر من 87 ألف شخص بكامل جهة وجدة. مع متابعة دقيقة للحالات التي تتطلب مرحلة علاج استشفائي (بلغ عددهم مثلا سنة 1935، أكثر من 130 حالة، وتم إجراء 143 تحليل طبي أدى إلى اكتشاف 59 حالة إيجابية بوجدة وحدها).

 

من الخطوات الطبية الهامة بالمدينة، ابتداء من سنة 1925، إنشاء مصلحة جد متطورة للطب المدرسي، تحت إشراف طبيب للأطفال، مكن من تعميم التلقيح على كل التلاميذ الممدرسين ووضع دفتر صحي لكل واحد منهم، مع مراقبة صارمة للمطاعم المدرسية. مثلما تم إحداث مؤسسة لرعاية الأمومة والطفولة المحرومة "قطرة حليب".

 

فيما سجلت المدينة ابتداء من سنة 1919، تواجد أطباء من القطاع الخاص، بلغ عددهم سنة 1929، ستة أطباء بعياداتهم المستقلة (الدكاترة الجزائري عياش، باسكوف، بيتروفيتش، بلليسير، صوفاجي الزوج، صوفاجي الزوجة). مثلما افتتحت بها 5 صيدليات في السنوات ما بين 1925 و1935 (الجزائري الغوزي، مدام سيمون بايلي، آلبير شبريت، لوي بيجول، آلوزا). وافتتحت بها 3 عيادات لطب الأسنان ابتداء من سنة 1926 (الدكاترة: ألبير ماتيرا، جورج ديبوش، جوان).

 

تجدر الإشارة أخيرا، إلى أن من الخدمات الطبية الحيوية التي تأخرت كثيرا للتواجد بمدينة وجدة، تلك المتعلقة بالمصلحة الطبية لمعالجة الأمراض الصدرية وداء السل، رغم تفشيه الكبير بالمنطقة. حيث إنه إلى حدود 1936، لم يتم بعد إنشاء وحدة طبية متخصصة لمحاربة ذلك الداء، ولم يتحقق الأمر سوى سنة 1939.

 

(في الحلقة القادمة: بركان، فكيك، غرسيف، تاوريرت، برغنت، دبدو والعيون.. مراكز طبية ومستوصفات منذ 1914)