الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

توفيق مفتاح: مقاولات التعليم الخصوصي وامتحان جائحة كورونا

توفيق مفتاح: مقاولات التعليم الخصوصي وامتحان جائحة كورونا توفيق مفتاح
ساهمت جائحة كورونا في توفير فرص حقيقية لكثير من المجتمعات لاختبار قدرات حكوماتها ومؤسساتها العمومية ومختلف القطاعات الأخرى على حماية المواطنين من الوباء، ولتقييم مدى حرص النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية على تفضيل المصلحة العامة على المصالح الخاصة.
وقد كان لافتا أن القرارات والإجراءات التي سارعت الدولة المغربية لاتخاذها ارتباطا بهذا الحدث الطارئ كانت تصب كلها في اتجاه محاصرة انتشار الوباء بكل السبل، لحماية المواطنين وتأمين سلامتهم، وتحصين القطاعات الإنتاجية التي تضمن استمرار دورة الحياة، بالرغم من الآثار السلبية التي قد عكستها هذه القرارات على الأداء الاقتصادي والوضع الاجتماعي للبلد. ولعل المجال لا يتسع لاستعراض كل ما قام به المغرب في هذا الباب، رغم ما يمكن عرضه من مؤاخذات بخصوص بعض القرارات الحكومية التي لاقت انتقادا من بعض الفئات. لكن الأهم أن التعبئة الرسمية للدولة والمجتمع ضد هذا الوباء شكلت حافزا للكثير من المؤسسات والقطاعات والتنظيمات المدنية والشخصيات العمومية على الانخراط في دعم مختلف الإجراءات المتخذة، سواء عبر الامتثال السريع لتدابيرها أو دعوة المواطنين لاحترامها وتفعيلها، أو عبر القيام بمبادرات تعبيرا عن حس الانتماء للوطن و الذود عن مصالحه العليا. ونذكر هنا التبرعات المالية والعينية التي وفرتها كثير من الشركات والمقاولات التجارية الخاصة، فضلا عن استعدادها لتحمل المصاريف الإضافية الناتجة عن تداعيات الوباء، وباقي الالتزامات المالية خاصة ما يتعلق بأداء أجور المستخدمين والعمال في مختلف المرافق الاقتصادية والخدماتية ووحدات الإنتاج التابعة لها.
إلا أنه في مقابل هذه الممارسات والتفاعلات الإيجابية التي عبرت عن استيعاب الكثير لشروط اللحظة التاريخية، تفاجأ المغاربة بتذبذب بعض الجهات عن هذا النفس التضامني الوطني، فظهرت منذ الوهلة الأولى أنها شاردة عن سياق وظروف المرحلة، ففي الوقت الذي كان يسارع الجميع للرفع من رصيد الصندوق الوطني لمواجهة جائحة كورونا، انبرى البعض منذ الوهلة الأولى لاهثا وراء مخصصات هذا الصندوق، سعيا لوضع يده على جزء منها بدعوى مواجهة الأزمة، من بينها هيئة تمثل المصحات الخاصة، وكم كان مؤسفا أن يصدر هذا كذلك عن هيئة تمثل مؤسسات التعليم الخاص، التي كان يفترض أن تكون على قدر عال من استحضار الواجب الوطني وقيم التضحية والتضامن والمبادرة، على اعتبار أن رأس المال الحقيقي للمدرسة هو التربية على القيم الإنسانية والوطنية، وقد كان باديا كيف أن هذه المقاولات استشعرت جسامة الخطأ الذي وقعت فيه، وحاولت استدراك مطالبها بالتراجع عن طلب الدعم، فتبرعت بمبلغ مالي، تهدئة منها للإدانة الشعبية الذي ووجهت بها حينها، لاسيما أنها تعتبر القطاع الخدماتي الخاص الذي طالما حظي ولا يزال بشتى أنواع الرعاية والحماية من طرف الدولة ماديا ومعنويا، فموقفها في هذا التوقيت لم يكن في حجم "الحظوة" التي تتمتع بها، حيث عادت مرة أخرى من النافذة عبر تصريحها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ب 48 ألف مستخدم فقدوا شغلهم في الوقت الذي استخلصت واجبات التمدرس من الآباء والأولياء عن شهر مارس، وذلك حسب تصريحات وزير الشغل بمجلس المستشارين، مما يؤكد مرة أخرى أن مجموعة من المقاولات المدرسية لم تأخذ العبرة من أخطائها، فعاودت الظهور مجددا أنها مصرة على الاستفادة من أموال صندوق مواجهة جائحة كورونا بأي شكل من الأشكال، وكأن مال هذا الصندوق أضحى "سايب" على حد قول وزير الشغل والإدماج المهني. فهل يمكننا إضفاء صبغة العفوية على هذه الممارسات؟ وما تفسيرها ؟
لا يتعلق الأمر هنا بتوجيه عتاب أو نقد مجاني لهذه المقاولات، أو إعادة سرد سيناريو ما ينشر حولها يوميا من أخبار، بقدر ما يتعلق الأمر بالتحدث عما يجري بكل الوضوح والشفافية اللازمين، إسهاما في إحاطة هذه القضية بما يكفي من المعطيات، أملا في أن تكون مفيدة للجميع لإعادة ضبط مواقفه وترتيب أوراقه، خدمة للمصلحة الفضلى للوطن، وتجسيدا لقيم الحق والواجب التي ينبغي أن يتشربها ويمتثل إليها الجميع.
لا بد من التذكير بالسياق الذي لجأت فيه الدولة المغربية لخوصصة قطاع التربية والتكوين، بعد أن أصبحت تعاني من أزمته التدبيرية العميقة، حيث كانت تعول على شريك كفؤ يتحمل جزءا من هذه المسؤولية ويساهم إلى جانب الدولة في النهوض بنظام التربية والتكوين والرفع المستمر من جودته. وقد شرعت في ذلك مباشرة بعد صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 2000، ومكنت المستثمرين في التعليم الخصوصي بمجموعة من الامتيازات والتسهيلات على رأسها الإعفاء من الضريبة على الشركات خلال الخمس سنوات الأولى، زيادة على الاستفادة من نظام جبائي محفز من طرف الدولة حسب المادة 34 من القانون 00/06 المنظم للتعليم الخصوصي، وحسب المادة 13 من نفس القانون أجازت لهذه المؤسسات الاستعانة بأطر التدريس والتكوين العاملين بالقطاع العمومي، على الرغم أن هذا له انعكاس سلبي على المدرسة العمومية، كما أن الدولة لا تستفيد من أي عائد ضريبي يتعلق بمداخيل هؤلاء الموظفين الذين يزاولون أنشطة إضافية بالقطاع الخاص، ومعلوم أن تفعيل هذا الإجراء لن يروق لهذه المقاولات، لأنها ستكون مطالبة بتغطية هذه الضريبة من أرباحها.
لعل المقاولات المدرسية تتصرف على أريحيتها في إطار حرية الأسعار فترفع رسوم التسجيل وإعادة التسجيل وواجبات التمدرس الشهرية متى تشاء، وتقرر في مبالغ التأمين المدرسي كما يحلو لها، وما على الأسر سوى الالتزام والأداء أمام صمت القطاعات الوزارية المعنية، وفي غياب أية حماية تشريعية للأسر من فوضى الأسعار هاته، خاصة أمام انعدام المعطيات التي تسمح للأسر بمعرفة جودة التأطير والتكوين المعرفي والتربوي الذي تقدمه هذه المؤسسات، حيث يكتشفون متأخرين أن كثيرا منها لا يتوفر على مختبرات علمية أو مكتبات مدرسية، أو قاعات متعددة الوسائط، بل حتى عدم توفير العدد اللازم من المرافق الصحية حسب عدد الأسلاك والمتمدرسين بالمؤسسة، وأحيانا الجمع بين أقسام الابتدائي والإعدادي في فضاء مدرسي واحد، وتشغيل المدرسين في أكثر من سلك تعليمي، دون الحديث عن غياب الساحات الكافية والملاعب المدرسية بفضاء كثير من المؤسسات، علما أن هذه المؤسسات مجبرة قانونا -المادة 4 - على الالتزام كحد أدنى بمعايير التجهيز المعتمد في التعليم العمومي. ومؤخرا، مكنتها وزارة التربية الوطنية من الولوج مجانا لمسطحة "Teams" من أجل خلق أقسام افتراضية لضمان الاستمرارية البيداغوجية للمتعلمين بعد توقف الدراسة، حيث اتضح للوزارة متأخرة أن مجموعة هامة من المؤسسات تجاهلت هذا الإجراء البيداغوجي المستعجل وتبين أنها عاجزة عن الإيفاء به، بعدما اكتفت بتطبيقات التواصل الاجتماعي مثل "الواتساب".
أمام كل "الاختلالات المؤجل تصحيحها" وهذه الامتيازات الضريبية والتجارية، لم يتورع عدد كبير من هذه المقاولات عن طلب تعويض ما مجموعه 10 مليار سنتيم من صندوق الضمان الاجتماعي لتعويض مستخدميها، رغم أن الأسر أدت لها واجبات تمدرس شهر مارس. هؤلاء المقاولون وغيرهم يتغافلون عن دور الأسر التي لجأت لتدريس أبنائها في مؤسساتهم، هذه الأسر التي تعتبر المساهم المباشر في التخفيف من الالتزامات المالية للدولة تجاه التعليم العمومي، على اعتبار أن التعليم خدمة عمومية مجانية، وليس منتجا استهلاكيا ثانويا، فالدولة مسؤولة عن توفيره بالحد الأدنى من المواصفات. ورغم ذلك، وأمام الصعوبات التي تواجهها المدرسة العمومية، أقبلت هذه الأسر على التعليم الخاص، و هي اليوم تساهم بقوة في تشغيل آلاف العاطلين عن العمل من خلال أداءها المالي المنتظم لفائدة المستثمرين في هذا القطاع، وهي بذلك تشجع على ضخ مزيد من الضرائب الإضافية في خزينة الدولة بفعل استمرارها في تدريس أبنائها بالتعليم الخاص، رغم ارتفاع الكلفة وانعكاسها السلبي على مستوى عيشها. إن الأسر المتوسطة ودون المتوسطة الدخل تلعب دورا محوريا في تحريك وإنعاش الأداء التجاري لمؤسسات التعليم الخاص، حيث لولا أموال هذه الفئة من المجتمع لما تمكنت هذه المقاولات من تحقيق أرباح هامة، الأمر الذي ساعدها على توسيع مؤسساتها وخلق أخرى جديدة بمختلف مدن المملكة، فلو لم تكن هذه المؤسسات مربحة لما تكاثرت مثل الفطر، لهذا وجب على أرباب هذه المؤسسات الاعتراف بالدور المحوري للأسر الذي قلما يشار إليه، والإقرار بأن مقاولاتهم المدرسية تجني المال الوفير من وراء الأسر. واليوم حصل أن هذه الأسر تعاني من "تحيز " البعض لفائدة المقاولات المدرسية، حيث انتصب مدافعا عن هذه المقاولات ويمارس ضغطا على الأسر ويطالبها بالأداء دون استفادتها من الخدمة المؤدى عنها.
بعيدا عن أدوار الوساطة - وما على شاكلتها - الموكولة لجهات أخرى، إن المنتظر من المسؤولين الأوصياء على القطاع وباقي القطاعات الأخرى المعنية، هو الحرص على تكريس ثقافة القانون وتفعيل العمل به ضمانا لحقوق كافة المعنيين به، وأيضا التذكير والتعريف به كلما تطلب الأمر ذلك، مع ترك ما ينتج عن تطبيقه من نزاعات للجهات المختصة بضبط التقاضي وإصدار الأحكام، خصوصا إذا تعلق الأمر بالقضايا التجارية منها. وفي هذا الظرف بالذات، يحق للأسر والمجتمع أن يتساءلوا، هل التدخلات والتصريحات الإعلامية لهؤلاء ترتكز على أساس قانوني؟ فمن أين يستمدون شرعيتهم القانونية للتدخل في علاقة تجارية بين مقاولة وزبون؟ هناك جوانب أساسية أخرى متعلقة بمراقبة هذه المقاولات وجب الالتفات إليها، كالتأكد من مدى اعتمادها عقود تشغيل المستخدمين وفق القوانين المعمول بها، خاصة المربيات والسائقين وأعوان النظافة والحراسة، والبحث في شروط تسريح العمال والمستخدمين، وعلى أي أساس تعاقدي يتم ذلك؟ ومدى الالتزام بتطبيق مختلف مواد النظام الأساسي للتعليم المدرسي الخصوصي، فهل يمكن الكشف مثلا عن عدد المؤسسات الخصوصية التي لم تعمل على تأسيس جمعيات الأمهات والآباء والأولياء باعتبارها شريكا تربويا أساسيا ؟ وهل تقدم هذه المؤسسات البيانات المتعلقة بتأمين المتمدرسين وتطلع الآباء على بنود العقدة؟ من يراقب مدى خضوع باقي أنشطتها المدرة للدخل للضريبة كخدمات التغذية والنقل وغيرها؟ وهل تلتزم هذه المقاولات بتخصيص حيز بارز داخل فضاءاتها لتمكين الآباء والأولياء من الاطلاع على تفاصيل الواجبات التي يؤدونها الخاصة برسوم التسجيل والتأمين والتمدرس وباقي الخدمات، وذلك تنفيذا لمقتضيات القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة وللنصوص التنظيمية لقطاع التربية الوطنية.
لقد كان منتظرا أن تظهر كثير من المقاولات المدرسية بصورة جد مشرفة في ظل أزمة الوباء، وهي التي طالما روجت عن نفسها صورة مثالية في التدبير والتنظيم وتقديم أجود الخدمات التعليمية والتربوية، وإدارة الأعمال التجارية والمهنية وغيرها من القدرات، إلا أن المغاربة مع الأسف اكتشفوا عنها صورة أخرى، نترك لأربابها الحرية الكاملة في إعادة رسم وبناء معالم هذه الصورة على ضوء كل الأحداث التي عقبت توقف الدراسة وما نتج عنها من تفاعلات ومناوشات بين الأسر وهذه المؤسسات من جهة، وبين هذه الأخيرة والإعلام و المجتمع والحكومة.
إن وباء كورونا وضع بعض المقاولات المدرسية أمام امتحان حقيقي، فهي التي اختارت أن ترتمي في أحضان تداعياته الاجتماعية والاقتصادية، وجعلته يختبر حقيقة تمثلها لأدوارها ووظائفها المجتمعية، وقد كشف الوباء عن حقيقة آليات التفكير والاشتغال التي كرستها هذه المؤسسات في علاقاتها مع زبنائها الأسر وباقي الفاعلين.
لقد حان الوقت أن تعي كثير من المقاولات المدرسية جيدا تحديات اللحظة التاريخية التي يمر منها المغرب والعالم، وأن تحسن قراءة الواقع المستجد واستثمار معطياته لمراجعة وتحيين علاقاتها مع كافة المتدخلين والمعنيين بخدماتها، فالمجتمع المغربي بدوره يعيد النظر في كثير من قناعاته وأولوياته السابقة لجائحة كورونا، والدولة كذلك ستعيد لا محالة ترتيب كثير من ملفاتها، فتمديد الحجر الصحي لمرحلة ثالثة فرض على المواطنين ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة ستتضح تداعياتها أكثر مع تتالي الشهور، وسيدفعهم هذا للتأقلم مع الوضع الجديد لمزيد من التقشف والقيام بمراجعة كثير من الاختيارات.
لهذا، فالمأمول أن تلتقط هذه المؤسسات بالذكاء المطلوب مختلف الرسائل التي توجه إليها من مختلف الجهات، وأن تتمثل جيدا وظائفها في خضم معركة الارتقاء بقطاع التربية والتكوين ببلادنا، وأن تدرك بجدية انتظارات الدولة والمجتمع، وأن تنهض بأدوارها كاملة، وتنخرط بقوة في تنمية اقتصاد تربوي تعزز به مقدرات الدولة والمجتمع، فاختيارات الدولة ترمي لفتح وتشجيع التنافس بين المقاولات لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين، على أساس ربحي تطبعه الشفافية والتعاقد والقدرة على الوفاء بالالتزامات واحترام القانون.
 
توفيق مفتاح، إطار، مهتم بالشأن التربوي