الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

المسودي: صياغة الأوبئة أدبا، فيروس إيبولا ...."يصيب" جنس الرواية العربية (3)

المسودي: صياغة الأوبئة أدبا، فيروس إيبولا ...."يصيب" جنس الرواية العربية (3) عبد الفتاح المسوديو غلاف رواية " إيبولا76"

يقف العالم اليوم مشدوها أمام جبروت "الكوفيد19"، جبروت عدو غير مرئي، عدو كان خارج حسابات وتوقعات دهاليز داهقنة السياسة والاقتصاد، والذين حيال عجزهم أمامه أصبح كل ما في متناولهم هو ترويج سلعة بائرة من اللغو لم يعد الناس يعيرونها أي اهتمام . رغم تسخيرهم لكثير من الأبواق الإعلامية التي مل الناس متابعة زعيق تفاهاتها التي سقط عنها القناع و بهت طلاؤها المزيف الذي كان يحجب الحقيقة التي استيقظ على هولها الجميع . حيث اكتشف الإنسان أنه كان ضحية خطابات جعلته يعيش في طمأنينة مزيفة وحصانة وهمية من عوائد الزمن والتي كان ضامنهما الأساس التقدم العلمي والتجريب التكنولوجي .

لا يعتبر هذا تقليلا من أهمية البحث العلمي ، ولا من دينامية التجريب التكنولوجي و لكن هو تنبيه إلى أن توظيفهما كان و مايزال الآن بعيدا عن خدمة الإنسان و ضمان عيشه في كرامة. بحيث ، ونتيجة لطبيعة النظام الاقتصادي السائد في العالم فإن توظيفهما ـ العلم والتكنلوجيا ـ كان من أجل إخضاع الإنسانية لمنطق الإكراه و التسلط و ذلك بالتحكم في عواطفها و رغباتها خدمة لنظام اقتصادي مبني على الاستهلاك.

هل يمكن اعتبار هذه الرجة التي يعيشها إنسان اليوم إ حدى فوائد "كورونا" ؟

قد يبدو من الصعب ، بل بالأحرى من غير اللائق الحديث عن فضائل أي و باء ، و خاصة فيروس كورنا الذي ما زال ينشر الهلع في الناس ، بحيث إذا طرحنا سؤالا بشكل تلقائي : ماذا تخلف الأوبئة وراءها ؟

الجواب الذي قد يبدو بديهيا ولن يتلعثم اللسان لكي ينطقه، هو أن الأوبئة لن تخلف إلا انتشار الموت وما يشيعه من أحزان، والإحساس بالخوف والرعب وما يسببه من أزمات نفسية. في حين أنه قليلا ما يتم الانتباه إلى أن هذا الجو الجنائزي وما يصاحبه من هلع قد يكون أيضا دافعا للإنسانية لمراجعة أفكارها ، ومعتقداتها ، و تصوراتها حول ذاتها وحول الكون وهذا ما يلاحظه المتتبع اليوم في الرجة الفكرية والقيمية التي أحدثها فيروس كورنا عند جميع فئات الشعوب عبر مختلف أرجاء المعمور . كما أن هذا الجو المأتمي وما يرافقه من حزن و ألم قد يتحول إلى طاقة إبداعية خلاقة ستمنح/ ومنحت للإنسانية أعمالا فنية ما تزال خالدة نظرا لميسمها الجمالي الذي صاغت به الحدث / الوباء .

إن الأدب الإنساني خلق تراكما إبداعيا سواء شعرا أو سردا من النصوص التي تناولت موضوع الأوبئة مما جعل مؤرخو الأدب يصنفون هذه الأعمال ضمن ما أسموه ـ أدب الأوبئة ـ .

وفيما يلي التفاتة إلى هذا الموضوع من خلال التعريف بمجموعة من الأعمال الإبداعية التي عادت إلى واجهة الإهتمام إعلاميا على صفحات الجرائد و المجلات الإلكترونية ، وأيضا على صفحات و سائل الاتصال الاجتماعي .

و تجدر الإشارة إلى أن هذه الالتفاتة ليست قراءة نقدية لهذه الأعمال ، و لا تحليلا لها بقدر ماهي معلومات ليس لي في أغلبها إلا فضل التجميع و أحيانا التمحيص و الفحص و الغربلة ، إذ ما هي إلا عصارة لقراءات متنوعة ـ في زمن الحجر الصحي ـ وددت أن أتقاسمها لكي لا تبقى حبيسة الذاكرة و المذكرة الشخصية .

فيروس إيبولا ...."يصيب" جنس الرواية العربية !!! (3)

رواية "إيبولا 76 " الصادرة عن دار الساقي سنة 1912 ، أتت إضافة نوعية تثري السجل الإبداعي للروائي السوداني أمير تاج السر، والذي دشنه بروايته البكر "كرمكول" 1988، ورغم أن هذه الرواية استطاعت أن تكرس صاحبها كاتبا روائيا لما لاقته من قبول عند القراء ، إلا أنه ولظروف مرتبطة بطبيعة عمله كطبيب حديث التخرج ، حافظ على طاقته الكتابية في حالته كمون ، وكرس كل جهده ومجهوده لإبداع آخر ذي طبيعة إنسانية كطبيب في أرياف بلده السودان .

وبعد ثماني سنوات ، أي سنة 1996، سيصدر عمله الثاني "مساء بلون الياقوت" ...لتتوالى الإصدارات منتظمة ..(نار الزغاريد ،مرايا ساحلية ، العطر الفرنسي ...)، وتتوالى معها الاستحقاقات المستحقة ...والولوج إلى العالمية من خلال ترجمة إبداعاته إلى اللغات الأجنبية ، و التي لاقت نجاحا في التلقي عند قارئ الضفة الأخرى من العالم .

وبحسب متتبعي تجربة الروائي تاج السر فإنه ظل مخلصا لخط في الكتابة قلما انفلت منه، حيث أنه في جل أعماله يمتح من التاريخ و أحداثه ، لكن بدون التقيد بواقعيته الجافة ، إذ أنه لا يخفي عشقه للرواية التاريخية ، لكن أثناء كتابة لا يكتب "تاريخا يحتاج إلى أدلة ووثائق ، أنا أكتب تاريخا متخيلا ، بمعنى أني أدرس فترة ما من التاريخ بكل ما فيها ....ثم أقوم بزرع شخصياتي في تلك الفترة "

وعلى منوال هذا الخط في الكتابة صيغت رواية "إيبولا 76" ، يظهر ذلك من خلال عنوانها الذي يحيل على حدث واقعي متمثلا في وباء "إيبولا" الذي ظهر في الكونغو سنة 1976 لينتشر في بعض الدول الإفريقية و منها السودان ، ناشرا بين شعوبها الخوف والهلع.. و الموت أيضا. إذ أن هذا الحدث ، وبحسب صاحب الرواية، استمده من طبيب " كان شاهدا ....... في مستشفى الأنذار على الحدود السودانية مع الكونغو ، وكان الوحيد الذي نجا من الطاقم الطبي ، فطورت الواقع ، و أضفت من خيالي ، فقصة لويس البطل في الرواية ليست التي حدثت بالتأكيد لكن أخذت الشكل العام وصغت الحدث الحقيقي الذي كان موجودا و هو فيروس إيبولا و ضفرت الأحداث ببعضها "

إن في ضفر الأحداث ببعضها يتدخل الإبداع و دربة الكتابة حيث يحضر الخيال الذي يزرع الروح في الحدث ليخرجه من سكونه كحدث وقع في التاريخ إلى حدث حي يتشكل بأفعال شخصيات ....تفعل وتنفعل في أمكنة تموج بالحركة ، وفي زمن غير متوقف، حيث صيرورته تشكل الحدث ....وتتشكل مع حبكة الرواية و هي ترتق قصتها .

وهكذا فإن الحدث الفني الذي بنيت عليه رواية "إيبولا 76" يمتح من التاريخ دون أن يقف عنده ، يمتطي صهوة الخيال و لكن بـ "معادل موضوعي فني" يكبح جماحه ، وهذا ما يجد فيه القارئ نفسه و هو يقبل على قراءة متن الرواية إذ منذ افتتاحها ب (تتبع إيبولا القاتل، لويس نوا ، ظهر ذلك اليوم الحار من شهر اغسطس عام 1967 ، وهو يتحرق شوقا ليسكن دمه )".

فلولا إيحائية اللغة في كلمة "يسكن دمه" بدل "يسفك دمه"، لأنفتح أفق انتظار القارئ إلى مسار آخر للراوية غير ذلك الذي أراد السارد أن يطوح فيه القارئ وهو يطرح السؤال ماذا سوف يقع ؟

ماذا سوف يقع هو الحدث الذي صاغه السارد وهو يضفر الأحداث ببعضها، ممسكا بمصير الشخصيات، و مسيطرا على عواطفها و انفعالاتها .و حركاتها و سكناتها، باعتباره ساردا مهيمنا على الحكي ،متحكما في مساراته و متاهاته أيضا، حيث يختار شخصية " لويس نوا" ليفتتح بها الحكي: ترعرع في حي هامشي من أحياء "أنزارا " أجير في مصنع للنسيج ، متزوج من "تينا أزاقوري" بائعة ماء في الشوارع رفقة أمها ، خطبها في الشارع، لأنه قرر ذلك اليوم أن يتزوج من أي فتاة رآها تبتسم . بالرغم من أن حياتهما الزوجية كانت خالية من البسمة ، إذ عاشا حياة مضطربة ...عنف و هجر و خيانة متبادلة .

وفي إحدى نزواته بالكونغو ، وفي نزل يرتاده عشاق اللذة من الفقراء، يصاب "لويس نوا" بفيروس "إيبولا" القاتل ليجلبه معه إلى بلدتة أنزارا بالسودان...فينتشر الوباء ...لينتشر معه الموت ، وهنا تنفتح شهية الحكي عند السارد ليغوص في مسارب بواطن الشخصيات يستجلي أحلامها وأحيانا أوهامها ، وآلامها وأحينا يصدح بأنينها و تأوهاتها في نسج حكائي بديع يتابعه القارئ و هو في حالة توثر وانفعال ، فلا الأمكنة مسرح الأحداث تستدعي في وصفها لحظة طمأنينة و استرخاء ، ولا الزمان يستعاد بلذة التذكر ، ولا الشخصيات استطاعت أن تخلف انطباعا واحدا فما أن تتعاطف معها بحكم قساوة وضعها الإجتماعي، وبحكم الهلع وألم الوباء الذي تعيشه ، حتى تنفر منها وهي تبوح بشرورها العفوية ـ إن استقام التعبير ـ وهكذا فإن القارئ يجد نفسه يطوي الصفحات بعنف القراءة ليجيب عن سؤال ماذا سيقع ؟

الذي وقع هو أن رواية " إيبولا76" استطاعت :

1 ـ أن تلملم أعطاب ...و جراحات ..إخفاقات...وطموحات ... اكراهات ...وأمنيات يائسة ...و احباطات الشعوب وهي تواجه ما لا تستطيع مقاومته فتستسلم إلى قدرها ..أو تعاستها كما هو الشأن بالنسبة ل"لويس نوا" جالب الفيروس المدمر إلى أهل بلدته الذي يبوح بألم قائلا: ( أقصى درجات التعاسة أن تخون محبيك، تسافر وراء النزوات وتجلب الشر ويموت الآخرون ، وتعيش لتذكرهم قليلا أو لا تذكرهم على الإطلاق )

2 ـ كما أن استطاعت أيضا أن تجعل الشخصيات تشعر بفداحة الوهم الذي تعيشه في علاقتها بالآخر باعتباره هو المخلص و المنقذ ، مما جعلها تعيش خيبة الأمل مرة وهي تراقب طائرات الهيلوكبتر وهي تحمل أفراد البعثات من الأوربيين لتنقلهم إلى بلدانهم خوفا عليهم من انتشار الوباء ، ووعود الاطمئنان الزائفة بأن هذه الطائرات سوف تعود مرة ثانية محملة بالأدوية ..إنها و كما يقول السارد : ( خيبة الأمل ...أكثر العبارات قساوة للمفرطين في الأمل ، وأكثرها وحشة وفراغا و انهاكا للأرواح " .

عودء على بدء :

ماذا وقع فنيا؟ الذي وقع أن حدثا واقعيا هو انتشار وباء "إيبولا" سقط في يد أمينة إبداعيا ملكت الحسنيين، حسن الكتابة الروائية، وحسن الإحاطة المعرفية والعلمية بأسرار هذا الوباء باعتبار أمير تاج السر طبيبا متمرسا. فجاءت الرواية حبلى بالإمتاع على مستوى الحكي، والفائدة على مستوى المادة العلمية التي تؤثث بين الفينة و الأخرى متنه . مما يجعل منها رواية و بائية بامتياز، وصاحبها الذي أصبح وبدون أن يدري "كاتبا وبائيا".

عبد الفتاح المسودي، فاعل تربوي