الجمعة 26 إبريل 2024
مجتمع

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون (التطويق) الى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (3)

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون (التطويق) الى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (3) الأستاذ بنعمر بالله بجانب لوحة تشكيلية تؤرخ لفترة انتشار "الموت الأسود"

تقدم جريدة "أنفاس بريس" لقرائها الأوفياء هذه السلسة من المقالات التي توصلنا بها من الأستاذ هشام بنعمر بالله، متخصص في البحث التاريخي.

و يوضح الأستاذ بنعمر بالله بأن هذه المقالات "محاولة بسيطة للتأريخ لأنماط الاستجابة للأوبئة في المجال المتوسطي،ومنطقة المشرق الإسلامي خلال الفترة ما بين 1347 و 1851م.. ورغبة شخصية في تقاسم المعرفة التاريخية في الزمن الكوروني"....

سلسلة من خمسة مقالات محاولة من هشام بنعمر بالله أيضا لفهم "سياسة احتواء الوباء مع تمديد فترة الحجر الصحي بالمغرب إلى غاية 20 ماي 2020."

في هذا السياق يقول الأستاذ بنعمر بالله المتخصص في البحث التارخي بأن "هذه الورقة لا تستهدف سرد تاريخ تفشي وباء الطاعون وموجاته في حوض المتوسط، و المجهود الطبي الذي بدلته الهيئات الطبية المختلفة في أوروبا لدراسة المرض و تحديد العلاجات الأساسية للوقاية منه"

الصدمة الوبائية و تغيير السُّلوك الاجتماعي "الانعزال الطَّوعي و الفرار"

خلف انتشار "الموت الأسود" صدمة قوية في مجموع بلدان أوروبا الغربيَّة، يمكن اعتبارها الأعنف في تاريخ أوروبا الوسيط، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تغيير السلوك الاجتماعي.

ثمَّة حقيقة واحدة بَديهيَّة يجب التذكير بها هي أنَّ الجميع أدرك منذ اللحظة الأولى أن الداء البغيض مُعدٍ، كان مألوفًا لهم أن يَرَوْا أمراضًا فتاكة غامضة، إلا أنهم لم يَرَوْا شيئًا مثل هذا من قبلُ قَط. لذلك اتخذوا في الحال خطوات حاسمة لحماية أنفسهم، و اختاروا الفرار منه. حاولت عائلات بأكملها عزل أفرادها طوعاً، و تجنب التواصل مع أيٍّ من المشتبه في إصابتهم بالمرض. لقد أصاب الناس رُعبٌ شديد جراء "الموت" الذي يسير في شوارع المدن. انتشر بين النَّاس شعار غريب يقول: "اهربوا بسرعة الى مكان بعيد، البثوا هناك مدة طويلة"

أمام استفحال ظاهرة الفرار من الوباء اضطرت السلطات إلى سن قوانين تجرم الأمر، و تفرض على الفارين غرامات مالية ثقيلة. كانت فلورنسا و البندقية سباقة لمثل هذا التدبير. ورغم ذلك ظلّت فئة من رجال الكنيسة الكاثوليكية ترى في الفرار "حقاً لتجنب الآلام و المآسي و العوز التي يعاني منها حيثما حل الطاعون"، لكن يجب أن نشير أن الفرار ارتبط بفئة الأغنياء دون الفقراء بالنظر إلى تكاليفها المالية الكبيرة، حيث لم يكن عندهم " أصدقاء أو مكان يفرون إليه غير المنزل البئيس الذي يسكنون فيه"

للوقوف عند هذا التحوُّل لا بد من استدعاء شهادات معاصرة عاشت الحدث، و تداعياته الاجتماعيَّة على السلوك الفردي و الجماعي زمن "المأساة" الوبائية، يتعلق الأمر بشهادات الأديبين "جيوفاني بوكاتشيو" و "فرانشيسكو بيترارك".

كتب "جيوفاني بوكاتشيو" في روايته "ديكامريون" عن فلورنسا إبَّان انتشار "الموت الأسود" عن ظاهرة (الفرار) من الوباء، وتجنب كُلِّ أشكال التواصل الاجتماعي:
"تجنب المواطن (الفلور انسي) أخاه المواطن، وقليلون هم من أبدوا أي مشاعر تعاطف مع غيرهم، وعزل الناس أنفسهم عن الآخرين؛ فلم يلتقوا أقاربهم قَطُّ، بل الأدهى من ذلك، والذي لا يصدقه عقل، أن الآباء والأمهات هجروا أطفالهم تاركين إياهم بلا عناية ليواجهوا مصريهم، كما لو كانوا غرباء"

أما "بترارك" فواجه الطاعون في مدينة "بارما" ووصفه في أشعاره و رسائله. حاول السكان إقامة حجر صحي حول أنفسهم لمنع أي تواصل مع المناطق التي كانت مصابة بالفعل. و عندما تفشى الوباء في المدينة في يونيو عام 1348 م وفتك بحوالي 40 ألف نسمة خلال ستة أشهر فقط. كتب عنه الشَّاعر الفلورانسي "فرانشيسكو بترارك" بأسى ٍشديد إلى أخيه، الناجي الوحيد من بين (35) شخصاً بأحد الأديرة بمونريو:

"خيم الحزن على كل الأرجاء، وكان الخوف في كل مكان. ليتني لم أولد قطُّ يا أخي، أو على الأقل ليتني متُّ قبل أن أرى هذه الأيام. كيف ستصدق ذريَّتُنا أنه أتى زمان أصبح العالم بأكمله تقريباً غير مأهولة، والمدن مقفرة، والبلاد مهملة، والحقول صغيرة للغاية عن أن تتسع الموتى، وسادت عزلة مخيفة وعامة في كل أنحاء الأرض؟"