الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد حمزة: تأملات في زمن الحجر الصحي.. القراءة وسيلة لطرد ظلام الوباء (2)

محمد حمزة: تأملات في زمن الحجر الصحي.. القراءة وسيلة لطرد ظلام الوباء (2) محمد حمزة

يقول بليز باسكال بأن: "تعاسة الناس تأتي من عدم معرفتهم كيف يعيشون  براحة في بيوتهم"، وها هو فيروس كورونا المستجد يحول هذه التعاسة إلى مسؤولية؛ البقاء في البيوت ضرورة للحفاظ على الصحة الخاصة والعامة، خصوصا أن هذا الفيروس سريع الانتشار ومعد حتى قبل ظهور الأعراض عند المصابين به. والحجر الآن استراتيجية مؤقتة، في انتظار تدابير أخرى تتيح لنا "التعايش مع الفيروس"، إلى أن  يظهر اللقاح المضاد له.

 

كوفيد 19 يسير على خطى أسلافه ويذكرنا بفكر عدم اليقين

كورونا كوفيد 19 يسير على خطى أسلافه، ينذر ويعاقب ويطرح حلولا مؤقتة. أسلاف كورنا ساركوف الدي تسبب بين 1 نوفمبر 2002 و31 غشت 2003 في إصابة 8096 شخص من 29 بلد مخلفا 774 وفاة أغلبها في الصين وكورونا ميركوف الدي تسبب إلى حدود 24 أبريل 2014 في إصابة 254 حالة مؤكدة في العالم توفي منهم 9 اغلبها من السعودية، كانوا أكثر رأفة بالبشر من حفيدهم كورونا المستجد  الأكثر عنفا، حيث أصاب اكثر من مليونين ونصف شخص وتوفي أكثر من مائة وسبع وسبعين ألف، ومازال العلم متأخرا لمعرفة الأسباب التي حولته إلى فيروس أكثر شراسة من أسلافه؟

 

كورونا يؤسس للانتقال من أفكار الحتمية التاريخية إلى تركيز الاهتمام على المستقبل ويعيد الاعتبار للحكمة الكونية  لهرقليط: "الحياة في جريان" ؛جريان ينفي كل تنبؤ. ويذكرنا بأن العلم والديمقراطية عملية تصحيح مستمرة، وأن الحقيقة المطلقة مشحونة بالأوهام وأن عصر المعرفة الجديدة هو عصر التعقيد والتركيب والحقيقة المؤقتة والنسبية وتجديد الجديد. وأنه يعيد تذكيرنا بان منظومة التعقيد، هي اختبار لمحاورة العالم الدينامي٬ الصدفوي والمتنوع.

 

إن هذا الفيروس فرض  مغامرة جديدة، مغامرة في المجهول، مغامرة غير منتظرة، حسب تعبير المفكر الفرنسي إدغار موران؛ هذه المغامرة اللايقينية لا يمكن مقاربتها بالفكر الحتمي وبمعرفة الكل واضح أو باليقين الميكانيكي. وكلما قرأنا أكثر على هذا الفيروس وعلى استراتيجية مواجهته وسياسة الحجر ونتائجها على المدى القريب والغموض المصاحب لهذه الإجراءات، يقول إدغار موران، نكون في وضعية عدم اليقين بشكل كبير. وعدم اليقين الذي فرضه هدا الكائن المجهري يتضمن الخطر والأمل، الأمل في بزوغ طريق لتجاوز هذه المحنة.

 

أمام هذا اللايقين، فرض كورونا يقين الابتعاد الاجتماعي  كحل مؤقت. فالحجر أصبح استراتيجية عالمية وحيدة ضد انتشار هدا الوباء وأكثر من نصف الكرة الأرضية يطبقونه الآن.

 

الحجر والذاكرة الشعبية

كورنا المستجد يجدد ذاكرتنا الشعبية المرتبطة بالأوبئة، من منا لم يسمع "بوكليب"، "العواية"، "بوحمرون".... وسنعرف أن "بوكليب" هو اسم الكوليرا في المغرب وكيف كان الفرنسيون يرشون المغاربة بالمبيدات. سمعنا ونحن صغار عن فضائع السل و"بوحمورن" و"العواية" قبل أن يأتي الخلاص مع اللقاح .

 

إن المدرسة كانت تعتبر حجرا في المخيال الشعبي حيث أن العطلة (التحريرة)  كانت تعتبر تحررا؛ ونحن صغار، كنا نملأ الفضاءات العمومية شغبا وصراخا وكان الكبار يتسألون "واش تحررتو؟". ودور المدرسة في هدا المخيال، زيادة على التعليم والتعلم، هو الحجر والعطلة المدرسية تحررا من هذا الحجر المنتج.

 

المخيال الشعبي بقدر ما ينفلت من المنطق العقلاني، فله بعض الاشتراطات العقلانية الخاصة. وإذا اعتبرنا المخيال الشعبي تمثلا اجتماعيا، فان المدرسة مؤسسة اجتماعية تعكس تنوع وتناقضات المجتمع، باعتبارها أداة لإعادة إنتاج قيم وثقافة المجتمع، بل وحتى فوارقه، كما يذهب إلى ذلك بيير بورديو .

 

الحجر الصحي ليس هو العزل، فالعزل عبارة عن استراتيجية يلجأ إليها لعزل المصابين بمرض مُعد عن الأشخاص الأصحاء. وهو إجراء حديثً تلجأ إليه المستشفيات في الحالات المرضية المعدية مثل مرض السل. ويعني عزل المرضى حتى يصبحوا غير معديين تمامًا. أما الحجر الصحي فهو ابتعاد اجتماعي مسؤول ومرن ومؤقت .

 

اللايقين العلمي والحرب العلمية على كورونا كوفيد

الحجر لغويا هو المنع ويقال لا حجر عنه أي لا دفع ولا منع. الحجر له معنى اخر هو الحضن، ويمكن أن تحجر شيئا تريد إن تشتريه، وحجر الزاوية هو الشيء الأساسي في الأمر.

 

فإذا كان الخروج من بطون منازلنا وتجاوز محنة كورونا كوفيد 19 لن يكون إلى من خلال العلم، فإن علم منتهى الصغر ادخل الحجر المنتج  في قاموسه: الحجر الكوانتي le confinement quantique ، وكم نحن في حاجة لهدا العلم الآن لمواجهة اللايقين واللامنتظر الذي يفرضه غلينا هدا الكائن المجهري ، خصوصا و نحن الآن نواجه حربا علمية بمعنى استخدام العقل البشري داخل المخابر العلمية، لمحاولة افتكاك السلطة الميكروفيزيائية من الكائن المجهري.

 

هدا الكائن ألمجهري أعاد طرح الأسئلة التي لا يجاب عنها إلى بالتحول٬ والفوضى٬ والتجدد٬ والخلق، والتعقد (التركيب)٬ والصدفة٬ والاختلال واللانهائي٬ واللايقين.

 

وإذا فتحنا جيم الحجر، فإننا سنسافر إلى عالم حكمة الفلاسفة للسباحة في بحر الميتافيزيقا داخل حجر منتج. والانطلاق هي مدينة الإسكندرية كموطن البحث عن حجر الفلاسفة وإكسير الحياة، لتحويل المعادن "الرخيصة" إلى ثمينة واعادة  الشباب إلى الإنسان لإصلاح "ما فعل المشيب".

 

فن الخيمياء الأرسطي وصل إلى العرب في القرن الثامن الميلادي وانتقل إلى أوروبا عن طريق الترجمة. وتحويل المعادن إلى معادن ثمينة (كالذهب والفضة) تعود إلى كتابات الخيميائي العربي جابر بن حيان الذي قام بتحليل الخواص الأربعة للمادة، بحسب أرسطو؛ الحر والبرودة والجفاف والرطوبة، واعتبر المعادن خليط من هذه العناصر الأربعة. ومن فرضيته تمكن استنتاج أن تحويل معدن إلى آخر ممكن من خلال ترتيب هذه الخواص الأساسية، وهدا التحول سيكون بواسطة مادة اسمها الإكسير.

 

يقول الاقتصادي جون ماينارديكش، الباحث في أرشيف العالم نيوتن، بأن هذا الأخير كان يدون محاولاته اللانهائية للبحث عن حجر الفلاسفة بدون طائل لأنه في العصر الحديث تبين تحويل ذرة إلى ذرة أخرى غير ممكن .

 

الخلوة المنتجة ضد جحيم سارتر

فإذا كان حجر الفلاسفة غير منتج ماديا، أي أنه لم يأت بالتقدم الصناعي، فإن الحجر الكوانتي أو الكمومي له تطبيقات في مجال التكنولوجية الحيوية (البيوتكنولوجية) وفي صناعة الخلايا الكهروضوئية.

 

الحجر بالفرنسية confinement هو وضع كل التدابير لفصل الأشخاص، ولها أيضا معنى الخلوة.

 

يقول المفكر الفرنسي ألبير جاكار عن القولة الشهيرة للكاتب جون بول سارتر "الجحيم هو الأخر"؛ بأنها لا تعبر عن تفكير الكاتب، بل هي صرخة لإنسان استقبل في الجحيم، فقال بأن الجحيم هو الأخر، ولو استقبل في الجنة لقال بأن الجنة هي الآخر. وإذا سئمت أن تكون في الخلوة  بضعة أسابيع بجانب سارتر "الجحيم هو الآخر"، فأحسن صديق للخلوة بمعنى الابتعاد الاجتماعي الذي نعيشه الآن هو القراءة، وهده الأخير تمكن من جعل الحجر الصحي في المنازل حجرا منتجا.

 

فإذا كان الحجر الصحي المسؤول الذي نعيشه الآن  يحول مكان الحجر من مكان سجني عدمي إلى إطار زمكاني يوفر لنا سبل النجاة من هدا الوباء، فإن القراءة تعيد طرح أشكال "المعنى" أمام عدمية المكان. واللامعنى هنا هو الاستسلام وانتظار حتمية انتصار الفيروس كوفيد 19.

 

القراءة فرصة لتحويل الحجر المسؤول إلى حجر منتج

القراءة ليست نشاطا جيدا لاكتساب المعارف فحسب، بل هي أيضا وسيلة لرفع المعنويات والحفاظ على صحة العقل. فمثلما يعزز النشاط البدني القلب والعضلات والعظام، فإن النشاط الفكري يقوي الدماغ ويساعده على مقاومة الأمراض كالخرف. القراءة تطور العلاقات الإنسانية وتقلل من التوتر.

 

تتضح عملية القراءة من كلام الكاتب "جرهام جرين": أحيانا أفكر أن حياة الفرد تشكلت بواسطة الكتب اكثر مما ساهم البشر أنفسهم في تشكيل هده الحياة. في المغرب أصبحنا لا نرى في الكتاب ضرورة للرقي نتيجة بناء سياسي تغلب مركزية الهوية على  مركزية المعرفة. جميع الإحصائيات تقول بوضعنا المتردي فيما بخص القراءة ومطالعة الكتب، والذي انتشرت معه الأمية العلمية وازدادت وتيرة الأمية الأبجدية. لقد آن الأوان لرد الاعتبار للقراءة كمنهج وليست كهواية. ومناسبة الحجر الصحي الآن فرصة للمصالحة مع القراءة.

 

هناك روائيون وشعراء وكتاب رحبوا بفكرة العودة إلى القراءة في هذه الفترة، معتبرين أنها قد ترفع الروح المعنوية لدى المواطن.

يرى الروائي والشاعر العربي والقاص جلال برجس، أن العزلة في ظل مواجهة فيروس كورونا كوفيد 19 يمكن أن تصبح "فرصة" لنطل على فضاء أكثر رحابة عبر شرفة الكتاب الشاسعة. التركيز على القراءة ينسينا مخاوفنا.

بعد أن أبعدتنا وسائل التواصل الاجتماعي عن القراءة، هناك دعوة إلى استثمار ما يحدث للإنسانية من أزمة بشكل إيجابي وسليم، فنحن لسنا في سجن، يضيف الروائي، نحن نساهم في إبعاد الخطر عن كوكبنا، وليس هنالك من فعل نقوم به في هذه المرحلة المقبلة أفضل من القراءة، فهي الشمس التي لها أن تطرد كل أشكال الظلام.

 

الحاجة إلى تضامن مؤسساتي للتقليل من تعاسة الحجر الصحي

إن لم يستطع المجتمع أن يعطي السعادة، فبإمكانه أن يقلل من أسباب التعاسة، وذلك برفع معاناة الحجر عن الطبقات الفقيرة والهشة في المغرب. مواطنون ومواطنات يعيشون هذا الحجر الآن في ظروف اجتماعية ونفسية صعبة وداخل سكن غير لائق وفي مربعات صغيرة مع الأبناء، بدون أن ننسى الذين هم بدون مأوى، وكهول وأطفال الشوارع وضحايا العنف الأسري .

 

التضامن الذي تعيشه بلادنا لا يجب أن ينسينا ضحايا السياسات الاجتماعية اللاشعبية، والذين لا يملكون قوة يومهم وهم كثر. في هذا الوضع الاجتماعي الصعب يصبح المكوث في البيت للمعاناة مضاعفة. نحن في حاجة لتضامن مواطن أكثر لأن مجتمعانا فيه مواطنات ومواطنون لهم معاناة أكبر.

 

التضامن مع الطبقات الهشة لا يحب أن ينسينا معاناة المغاربة العالقين في الدول الأجنبية؛ أغلبهم كانوا في مهمة محدودة في الزمن؛ لزيارة الأبناء أو الأقارب، أو سافروا إلى أوروبا في إطار العمل أو في مهمة علمية؛ منهم المريض ومنهم من ترك أبناءه في المغرب، ومنهم من ترك عمله، ومنهم زملاء كثر في الجامعات المغربية. المطلوب هو حل هذه المعاناة الإنسانية فورا، والتي لا تقبل التأجيل.

 

معاناة أخرى يعيشها تلاميذ وطلبة الأسر الفقيرة نتيجة تطبيق الابتعاد الاجتماعي وتوقيف الدروس في المدرسة والجامعة العموميتين ومؤسسات التعليم العالي. فرغم تعبئة وتجنيد رجال ونساء التعليم وهيئة البحث وللتدريس بتقنية التعليم عن بعد كحل مؤقت لإنجاح الحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي رغم الإمكانات المحدودة، فإن هذا التجنيد لا يجب أن ينسينا ما يفرزه هذا النوع من التعليم من تفاوت طبقي نتيجة تكلفة التعليم عن بعد، خاصة التفاعلي منه المرتفعة، مما يضاعف من مشاكل التحصيل لدى طلبة وتلاميذ الأسر الهشة والفقيرة لمتابعة الدراسة عن بعد.

 

أبناء الفقراء تعوزهم الوسائل وأغلب الأباء الفقراء يفكرون في السكر والزيت قبل  التفكير في الوسائل التقنية لمتابعة أبنائهم التعليم عن بعد، زيادة على غياب شبكة الانترنيت والهواتف الذكية في البوادي.

 

الطبقات الفقيرة لا تملك السكن المناسب للتعلم عن بعد، والأطفال لا يملكون غرف مستقلة لمتابعة الدروس عن بعد في ظروف حسنة. فإذا كان للفقر أثر سلبي على التعليم في الحياة العادية، فإنه مضاعف في حالة كورونا.