الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الرياضي : من الكوليرا إلى كورونا.. بحث في دلالات المعيش النفسي

أحمد الرياضي : من الكوليرا إلى كورونا.. بحث في دلالات المعيش النفسي  أحمد الرياضي
...كأن العالم في حداد...كل شيء يترقب القادم بحثا عن الخلاص من أجل رسم مشاعر روح المحبة على جبين الآخرين، هل الأمر يرتبط بالإحساس بالذنب ؟ أم رغبة في العودة إلى ممارسة الحياة بعيدا عن حجر صحي يطرح الكثير من الأسئلة على مستوى المعيش النفسي الاجتماعي؟ .
إن المتأمل في هذا الوضع ، يرى وكأن الإنسان الكوني في غرفة إنعاش، لا يسمح له بالخروج إلا لجلب الأساسي فحاظا على سلامة وروح الجسد....كل التفاصيل المرتبطة باليومي في العلاقات الاجتماعية في اسم إن ، إلى أن يأتي الخبر يوما ..حينها ستصبح لكان وأخواتها معنى .....
كل مدن وعواصم العالم / في كل القارات تنام على إيقاع الغموض وهي تنشد تراب الجنوب-كما تغنت فيروز رغبة في الانعتاق من الأخر ودعما للمقاومة من أجل الأرض والسلام -علها تستفيق على فرج تسكنه نسمة الحياة...
في ظل كورونا....عادني الحنين إلى زمن الممارسة النفسية في المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط ...يومها كان كل شيء مرهون بالتشريح الطبي الدقيق من أجل تأكيد أو نفي الإصابة...
تلك الإصابة التي تتعلق بتشخيص المرض...؟ وأي مرض ...؟ حينها كان الأمر مؤلما لما يكون التأكيد ...فتلك هي المأساة والجرح الذي ينحفر في الذات ....الكل كان يتألم حين كنا نعلن عن التشخيص لحالات مقبلة على الحياة...كان التوتر بليغا وأسئلة المعنى من العلاج حاضرة ...حالات تعالج ، وأخرى ترفض العلاج خوفا من ألام المرض ،وثالثة تصطدم بوخز الإبر ،والباقيات من عنف التمثلات الاجتماعية ....ومن وصمات المجتمع التي لا ترحم ... بين صدمة التشخيص وبداية بروتوكول العلاج ، تشتعل حمى الجسد بالتمثلات والوصمات والصور والأحكام ...
في تلك الأجنحة...كانت الممرات إلى العناية المركزة تحتاج إلى تركيز كبير ...بعدها تعود الروح ودموع الرحمة تسكن عيون المرضى...
أستحضر هذا في ظل الحجر الصحي، حيث العلاقات الاجتماعية - تلك التي دمرها الزمن- تحتاج إلى إنعاش من أجل المواءمة الاجتماعية مع وضعيات مستعصية ولدتها كورونا.
في حالة المرض ....تستقبل مصالح العناية المركزة المرضى من أجل علاج جسد معتل...
هنا في حالة الحجر الصحي نعثر على فرصة نادرة لكي يشتغل الفرد على تعقيم العلاقات والمفاهيم في حضرة الذات العاقلة . وكأن الأمر يتعلق بإنعاش نفسي اجتماعي يعيد الروح للعلاقات الاجتماعية.حيث يلتزم الفرد بما هو كائن، جراء ذات في حاجة للتأمين لتفادي فيروس يفتك بكل من يحاول المواجهة.
اليوم - في الزمن الكوروني - الفرد لكي يعود إلى الذات ، ويطرح سؤال الهوية ومعنى العلاقات الاجتماعية ، أضحى لزاما أن يكون هذا الحجر الصحي ، ليعيد النظر في الكثير من المفاهيم والأطروحات التي ترتبط بهذا الفرد في علاقته بالأخر و المجتمع في ظل هذا المعيش الطارئ، وذلك من خلال أسئلة تتمركز حول :
أزمة الذات/ الآخر، أزمة القيم،انفصام العلاقات،انهيار الأخلاق،ارتباك السياسات ،انتهاك المؤسسات،استفحال صراع الهويات....مما يستوجب آليات من أجل إنعاش العلاقات،إنعاش القيم،إنعاش الذات،في محاولة لتفكيك سؤال الهوية والذات، كل ذلك من أجل إعادة بناء العلاقات الاجتماعية...بمنطق آخر نفكك الصدمة من أجل محاولة الاندماج في المجتمع بروح جديدة.
إن الحجر الصحي في إحدى معانيه : بحث في العودة إلى قراءة التاريخ ...حيث المعنى...ذلك أن كورونا تحيلنا إلى الكوليرا...التي غيرت مجرى الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلاقات والقيم و الزمن ... ولنا في مائة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا دروس لن تنسى، تلك التي أثثها الروائي المكسيكي غابرييل غارسيا ماركيز....مبينا أن الزمن لا يسير في خط مستقيم بل في دائرة، فكلما تلاشت الأحداث من ذاكرتنا أعادها الكون، لكن في شخصيات وأزمنة مختلفة (1).تلك الرواية التي تمحورت حول طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ضربت القارة اللاتينية في فترة ما بعد الاستعمار. لتصبح فيما بعد خريطة المعرفة. حيث يشير الناقد جيرالد مارتن، إلى أن رواية "مائة عام من العزلة" تجسد نهاية الحداثة ووصول العالم الثالث في حقبة ما بعد الاستعمار إلى المسرح العالمي(2) ، ولنا في الأحداث والتحولات التي أحدثتها كورونا الدليل الناطق على ذلك . حيث انهارت الأنظمة الصحية في الكثير من الدول التي توهمنا أنها قوية على مستوى مواجهة فيروس كورونا، في المقابل أبانت دول أخرى على أنها تستطيع مواجهة جحيم كورونا بناء على قدرات وكفاءات الوطن على جميع المستويات.
وهو ما يطرح سؤال القيم في الزمن الكوروني على مستوى الانتماء، والهوية ، وإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة ، وبالتالي نستطيع - ولو من خلال هذا الحجر – أن نعيد لمفهوم الإنسان قيمته داخل المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، ونتخلص من تلك الأحكام والتصورات القبلية/ الجاهزة التي تبخس القيمة والاعتبار. حتى لا نسقط في الجحيم لما تنعكس الآية ، وألا نردد مع غابرييل غارسيا ماركيز سوف ينحدر هذا العالم إلى الدرك الأسفل، عندما يسافر الناس في الدرجة الأولى، بينما يوضع الأدب في مركبة الشحن .
مما يجعلنا نؤسس لقيم جديدة من خلال إنعاش العلاقات الاجتماعية التي يجب أن تخضع للعناية الإنسانية داخل غرف الحجر الصحي ، بحثا عن ينابيع المحبة الضائعة في دواخلنا ، وما تجربة الحجر الصحي في هذا الزمن الكوروني إلا سكن يؤسس لفضاءات وقيم جديدة ....
إن الحجر الصحي جراء فيروس كورونا فيه الكثير من الدلالات ، تتجلي في إنعاش العلاقات الاجتماعية على المستوى النفسي الاجتماعي من خلال العودة إلى الذات من أجل معرفة الأخر ، وليس التمركز حول الذات ، حيث العزلة والإنطواء ... ذلك أن الاستمرار في هذا التمركز يطرح مشكلا اخر حسب الفيلسوف الأمريكي "رالف بارتون بيري" يتجسد في مفهوم مأزق التمركز حول الذات، حيث يضع الذهن في مأزق معرفي يجعل الفرد أسير أوهامه بعيدا عن العالم الخارجي، وهو ما يعمق عدم القدرة على التعايش مع الواقع الذي يشير إلى الحقيقة: حقيقة الحجر الصحي. ..مما يستوجب الحاجة إلى إعادة الاعتبار للذات في نظر كارل روجرز ، من أجل بناء الهوية حسب إريكإريكسون ، بحثا عن التقارب الاختياري/ الانجذاب الاجتماعي وفق جانميزونوف .
وذلك حتى نتفادى الكثير من الاضطرابات النفسية في ظل هذا المعيش، ونتمرد على تلك القيم التي أفرزتها الأجهزة الإلكترونية في بعض أبعادها، وكأننا ضدا في الحداثة في نظر يورغن هابرماس ، أو تلك الحداثة المعطوبة كما عنوان محمد بنيس ذات كتاب، لا لشي سوى لنجعل من هذا الحجر الصحي في زمن كورونا فسحة للتواصل على مستوى العلاقات الاجتماعية داخل التنظيمات الاجتماعية، و نخلق من منصات التواصل فضاء لبناء قيم جديدة، و ليس ميدانا لنشر تفاصيل الجسد..
هنا والآن، يتبين أن الخوف - ومن معه من الأعراض والمظاهر النفسية الاجتماعية - الناتج عن فيروس كورونا يغير من نفسية وسلوك الإنسان ، وبالتالي هو فرصة لبناء هوية جديدة ، وذلك من خلال العودة إلى العلاقات الناعمة ، حتى يكون هذا التوقف الإجباري علامة دالة في حياتنا ، وهو ما يقودنا إلى أن نصبح أكثر انسجاما مع القيم و المعايير الإجتماعية الطارئة ، و تصبح أحكامنا الأخلاقية أكثر صرامة ، ومواقفنا الاجتماعية أكثر عقلانية ... بعد الرحيل ..رحيل كورونا.
ومنه يمكن القول إننا في أمس الحاجة – تماشيا مع هذا الطرح - إلى التمرد والخروج عن المألوف ، وذلك من خلال الالتزام بالحجر الصحي ، حينها سنكون قد ربحنا المواجهة مع فيروس لا تنفع معه إلا الحيل الدفاعية ... على اعتبار أن كل شيء يقلل من خطر العدوى فيه إشارة لمفهوم البقاء ، مع استحضار شيء أساسي وهو أن جهاز المناعة لدى الإنسان يمتلك بعض الآليات المدهشة لمواجهة وقتل الأجسام الغريبة التي تصيبنا بالأمراض في ظل المناعة البيولوجية والمقاومة النفسية .
وعليه فإن درسا من دروس التواصل عن بعد - في زمن البعد- هو أن تفادي التفاعل مع الناس/ الآخرين يشكل عاملا من عوامل تقليل انتشار العدوى، مما يولد نوعا جديدا من التباعد الاجتماعي الغزيزي ، الذي يوحي في بعض معانيه إلى تلك العودة إلى الذات قبل الإنجذاب إلى الآخرين. بعدها يأتي تعميق التفاعل والتواصل من أجل تأسيس خريطة تواصل فعال ، وهذا ما يمكن تأكيده من خلال إحدى كتب يورغن هابرماس المعنون بـ "نظرية الفعل التواصلي" حيث نجد نوعا من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي من أجل ممارسة آلية الحوار كطريق نحو خلق تفاهم بناء، على اعتبار أن هذا الفعل التواصلي يأتي هنا لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الهيمنة بهدف بلورة علاقات اجتماعية سليمة، قائمة على الحوار والنقاش الذي يعيد للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الذات والأخر - في ظل هذا المعيش النفسي الاجتماعي نتيجة الحجر الصحي - بعضا من الاعتبار. وهذا ما يمكن أن يتجسد في الممارسة في ظل المعيش النفسي في محاولة من أجل خلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر الإدراك المعرفي ( نظرية المعرفة) لهذه الوضعية الاجتماعية الطارئة نتيجة فيروس كورونا ، والتأثير على الآخرين ( نظرية الممارسة). ....فالذات هنا هي كمن يجد تعريف نفسه في الآخر(3)، إن هذه العلاقة من الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ، كشكل راقي من الاعتراف بين الذات والأخر ليست تخييلا ، بل ممارسة جديدة يمكن أن تكتسب من خلال هذا الحجر الصحي ....
هذا الأخر لا يرتبط فقط بالفرد، بل يشمل القيم والأنساق والمفاهيم والمعايير المرتبطة بالإنسان والطبيعة. حتى لا ننزلق في بعض الزوايا التي يسكنها العنكبوت وننظر إلى الحجر الصحي ، و كأنه لا ينتج إلا الجحيم ، والمعيش فيه عصي على المواءمة .
إن الحجر الصحي رغم صعوبات المعيش اليومي بكل التفاصيل العميقة والشاملة ، وأثاره آنيا ومستقبليا على جوانب كثيرة ، خصوصا الجانب النفسي ، يرسخ فينا إلية استحضار خطورة عدوى الفيروس وقيمة نظرية الجراثيم لباستور، والبحث في العلم والمعرفة ، وهذا لم يكن مبرمجا أبدا لدى سكان الكرة الأرضية - مع الكثير من الحذر العلمي- رغم جدلية الطبيعي و البيولوجي ونظرية المؤامرة.
إن قراءة المعنى والمبنى من خلال العودة إلى تشريح التاريخ الكوني ، تضعنا أمام الإنتاجيات العالمية التي وثقت لتاريخ الأوبئة حيث نلمس القيم النبيلة التي تمارس الصمود من أجل الوصول إلى الغاية رغم كل العواصف ، حتى يتحول الفيروس هنا إلى قوة من أجل تكثيف المشاعر في ظل الحجر الصحي ، و ألا يصبح رمزا للعواطف و القيم التي تفككت في ذواتنا. ولنا في رواية الحب في زمن الكوليرا تلك الصورة التي تجسد المحبة من أجل المحبة في زمن المعاناة ، ذلك أنه إذا كان الحجر الصحي في رواية غابرييل مارسيا ماركيز خدعة تهدف إلى التخلص من المسافرين، بدعوى أن وباء الكوليرا يغلف ظهر السفينة حتى لا تنتهي الرحلة ويحصل الفراق ، فإن الحجر الصحي – هنا والآن - قرار صحي / وقائي / منطقي تجنبا لفيروس كورونا حتى ينجلي ضوء الحياة ، ونحن على وعي كبير بالدرس الأول .... من أجل حب الوطن.
 
 أحمد الرياضي، أستاذ علم النفس كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني ، الدار البيضاء، أخصائي نفساني
المراجع :
1/ مقتبس من ويكيبيديا ، عن غابرييل غارسيا ماركيز
2/جيرالد مارتن ، سيرة حياة غابرييل غارسيا مارسيل، بيروت.الدار العربية للعلوم ، ناشرون 2010

3/ حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركزالثقافي العربي الطبعة الاولى 2005 ص 134.