الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

فنيش : في مقهى كوفيد بشارع "كورونا "… لقاء لويس باستور بأبي الطيب المتنبي

فنيش : في مقهى كوفيد بشارع "كورونا "… لقاء لويس باستور بأبي الطيب المتنبي عبد المجيد فنيش
من تداعيات زمن كورونا، ظهور دعوات للتوجه مغربيا نحو البحث العلمي، وجعله من الأولويات عبر تخصيص الموارد و الشروط الكفيلة بأن يحقق هذا البحث إنجازات تضمن للبلد اكتفاء ذاتيا، وأساسا - بحكم خصوصية اللحظة التاريخية - في مجال الطب والصناعات الموازية له.
إنها دعوة في وزن مرافعة لا يمكن إلا الانخراط فيها، و العمل على أن تتحقق شروط هذا المطلب الحيوي ، خاصة وقد أكدت الأيام أن المعيقات مادية، وأن القدرة الابتكارية الوطنية متوفرة داخل البلد كما خارجه.
لكن، - وما أخطر الناسخ لكن-، هذا الطموح المشروع، سرعان ما أفسدت نشوة الإجماع عليه، خرجات "راديكالية"، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، حيث تعالت بعض الأصوات، تردد شعارات من قبيل:
ـ لا حاجة للمغرب بالرياضة ولا الثقافة ولا الفنون، و....و....
ـ المغرب لا يحتاج إلا للمهن التي هي حقا الآن في واجهة مواجهة الجائحة.
في تقديري المتواضع، إن شعارات بهذا المضمون، تريد - بقصد أو بدونه - أن تخلق شرخا في منظومة المجتمع، إذ أنها توهم - خاصة صغار العقول - أن معضلة البلاد في العلوم الإنسانية والفنون، وألوان التعبير والأداء المهاراتي الجسماني، و...، و...
وإذا كان الأمر هكذا، فقد وجب أن نتبادل التعازي بيننا في رحيل الفقيد "التوازن الإجباري بين العلوم الحقة وغيرها من الإنتاجات الإنسانية "
وهنا لابد من التساؤل - الإنكاري طبعا- لعلنا نبلغ بيت القصيد، فنقول :
ـ هل كانت حضارة الإغريق أن تقوم بتلك العظمة وتخلد مأثوراتها، بوجود " أبي قراط " و تلامذتة ، دون أن يكون في المقابل "أفلاطون" و"سقراط" ، و....؟
ـ الحضارة العربية الإسلامية، هل كان لها أن تسود زمنا مديدا، دون " ابن سينا" و "ابن النفيس" و "الإدريسي" و "البيروني"، و... و...، و بناة الأرواح ك "المتنبي" و "زرياب" و "ابن رشد "، و...، و...؟
ـ النهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر- التي بمنطلقاتها يدار العالم اليوم - ، ألم تجمع في مزيج سحري بديع بين "گاليلي" ، و " راسين"، و "وشكسبير" و " مونتسكيو" و "ماركس" ، و "اينشتاين"، و... و...؟
ـ حضارات آسيا القديمة، التي أنتجت اليوم، مدنية أخرى، من خلال نماذج الصين واليابان وكوريا ... و...، ألم تقم في ماضيها السحيق إلا على زواج وثيق بين منتوجات المادة، و إبداعات التفلسف و الآداب و الفنون و...؟
ـ هل يمكن القول إن الآخرين، تقدموا لأنهم شيدوا المستشفيات والمختبرات و أنتجوا اللقاحات والأدوية، و رضوا بذلك دون غيره ؟
الجواب هو أن أعرق الحضارات وأقواها، هي التي وفرت للناس كل شروط العيش المادي، لكن، - وها هي لكن تعود ثانية - ، في تناغم مع إشباع معرفي إبداعي، عقائدي ...، وهذا الإشباع هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويصنع المواطن المؤهل لابتكار ماهو مادي، وبالتالي استثماره وتطويره وحمايته من عوامل الإصابة بالضعف وربما الزوال .
إن المعضلة ليست في الثقافة والفنون والإعلام والرياضة و.. و...، و إنما في بعض تمظهرات هاته المجالات، حيث اختلط الحابل بالنابل، وسادت الرداءة واستأثرت بالواجهات، و توارت الجودة والجمالية إلى الخلف، فحدث أن تسيدت التفاهة، وانزوت الحكمة، واستأسدت ثقافة "البوز" السخيفة، فترجل فرسان بديع الكلام والمقامات والأنغام والمشاهد البليغة، والمصنفات الدقيقة..
ويزداد الوضع تعقيدا، حين نعلم أن البعض من الذين يدعون إلى القطع مع العلوم الإنسانية و الفنون و...، هم من ساهموا ب " اللايكا Like " في تشييد الصروح الرملية وبروز نجوم الوهم التي ظنوا عبثا، أنها المالكة لأدوات بناء الإنسان فكرا وإحساسا وتفاعلا مع الوجود.
والآن في هاته اللحظة الفارقة، يكتشف هؤلاء " اللايكيون" أن تلك الصروح قد شيدت على شفا جرف هار، و لم يكن أمامهم - للأسف العميق- إلا الدعوة إلى إحراق الأصول، بدل سحب النسخ الزائفة ، مع العلم أن الزمن كفيل بتطهير نفسه بمطهراته و معقماته الخاصة.
والأمل الآن أن تفتح هزات كورونا البصائر قبل الأبصار، على أن رحلة الوجود لا يمكن أن تكون ذات معنى، إلا بعقل سليم في جسم سليم، رحلة تقتضي أن يسير في دروبها "علي الصقلي" و"العربي بنمبارك" و... و"أرمسترونغ"و" فيكتور هيگو"، "الطيب الصديقي"، و"عبدالله العروي" و"محمود درويش" ... و"كوبرنيك" و"گاگارين" و"مايكل جاكسون" ...و"طوماس هودجكن" و"جيمس بركنسون" و"توماس أديسون".
أعتذر، لقد تأخرت على السيدين "أبي الطيب المتنبي"، و"لويس باستور"، إنهما ينتظران فنجاني القهوة التي تعودا رشفها يوميا في هاته المقهى.
 عبد المجيد فنيش، مسرحي، باحث وإعلامي