الخميس 28 مارس 2024
كورونا

سفير عبد الكريم وابتسام ملكي يكتبان: كورونا من حقوق الإنسان إلى حقوق الأرض

سفير عبد الكريم وابتسام ملكي يكتبان: كورونا من حقوق الإنسان إلى حقوق الأرض سفير عبد الكريم وابتسام ملكي
في مقال مشترك لكل من الأستاذ عبد الكريم سفير والأستاذة ابتسام مالكي، يترافعان من خلاله عن الفلسة كمادة قادرة على طرح الاسئلة الحقيقية في زمن كورونا للاجابة عن كل تفاصيل الحياة الجديدة فوق كوكب الأرض..في عصر التقنية وأنماط العيش المهيمنة عالميا..ويقدمان في مقالهما للقارئ الدروس البليغة التي بسطها فيروس كورونا للإنسانية جمعاء بشكل ديمقراطي دون تحيز كونيا.
 
بعيدا عن لغة الإعلام والتهريج والتهويل والمؤامرة نقترح عليكم/ن في هذا المقال الإنصات للغة الفلسفة في زمن كورونا. قد يقول قائل: وهل الفلسفة علم كي ننصت إليها في زمن نحن في أمس الحاجة فيه لعلماء الأوبئة والفيروسات والأطباء؟ مثل هذا الاعتراض لا يمكن أن يصدر إلا عن جاهل بما تستطيعه الفلسفة في مواجهة أزمات الإنسانية في جميع وضعياتها الوجودية والمعرفية والأخلاقية والإيكولوجية. 
فما مصدر الفيروس؟ وما شكل العالم الذي نحيا فيه اليوم؟ وما هي أنماط الإنتاج والاستهلاك السائدة؟ وما هي الدروس المستفادة من الجائحة؟ ليس المقصود بمصدر الفيروس هل هو صيني أم أمريكي أم أوروبي؟ وهل هو طبيعي أم مصنع مخبريا؟ فهذا سؤال قد يكون من شأن المخابرات البحث فيه. 
لن يتبين لنا مصدره إلا بعد البحث في شكل الحياة الجديدة فوق كوكبنا الأرضي في عصر التقنية، فأنماط الإنتاج والاستهلاك الإنسانية المهيمنة عالميا، والتنمية المبنية على عقيدة النمو الاقتصادي بأي ثمن، والاستغلال المتوحش للطبيعة وتبذير الموارد الطبيعية في تجاهل تام لقدرات الأرض هي أقوى الأسباب في تدهور البيئة وضعف المناعة البشرية والانقراض المهول للكائنات وانتشار أنواع جديدة من الأمراض والفيروسات التي لا يمكن إلا أن تتزايد في ظل الوضع القائم مالم تقف البشرية وقفة تأمل لإعادة النظر في أسلوب حياتها بطريقة كوكبية لا قطرية. 
فالعالم الذي وحدته التقنية على جميع المستويات صار عالما واحدا ووطنا واحدا مفتوحا بدون حدود. وكل ما يصيب منطقة ما في العالم يصيب كل العالم سواء كان أزمة اقتصادية أو بيئية أو نووية. وقد تعالت الأصوات المنذرة بمثل هذه الكوارث منذ مؤتمر ريو دي جانيرو بالبرازيل في قمة الأرض الأولى سنة 1990 وما تلاها من قمم المناخ، ورغم التشخيص المظلم لواقع الحال فإن كثيرا من الساسة لم يستوعبوا الدرس بعد ولايزالون يرفعون شعار "لن نضحي برفاهيتنا ونمونا الاقتصادي من أجل الهواء أو الحيوان أو النبات". 
إن هذا الاستخفاف بقيمة عناصر الحياة الطبيعية وعدم تقدير دور المنظومات البيئية من حيوان ونبات وغيره هو ما يقودنا اليوم نحو الكارثة التي صرنا نطل عليها دون أن نكون قادرين على وقفها. فالطبيعة تعيد صياغة معادلاتها عكسيا مع معادلات البشر الاقتصادية وتوجه الإنذار تلو الآخر دون أن تجد عقولا صاغية. ويبدو مع مرور الوقت أن صبرها قد بدأ ينفذ، وأنها ستأخذ استهتارنا بها على محمل الجد. ولعل كورونا هي أول إشارات الزمن الطبيعي الجديد. فإما أن نعدل من علاقتنا المتوحشة بالطبيعة أو أن الكارثة على الأبواب.
إن تعديل علاقتنا بالطبيعة يمر اليوم عبر الإسراع بتوقيع ما سماه الفيلسوف الايكولوجي الفرنسي ميشيل سير بالتعاقد الطبيعي  contrat naturel، لمجاوزة التعاقد الاجتماعي الذي ظل يحتفل بالإنسان ويمجده منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا وكأنه الكائن الوحيد الموجود على الكوكب الأرضي وكل الكائنات الأخرى إنما وجدت من أجله ومن حقه أن يفعل بها ما يشاء. ضدا على هذا يدعونا الكوكب الأرضي اليوم إلى إعادة النظر في هذه الفلسفة التي قادت المشروع العلمي الحديث إلى ترييض الطبيعة mathématisation de la nature  والنظر إليها كمستودع هائل للطاقة وجب تحريضه باستمرار لتسليم مزيد من الطاقة الضرورية لنمو الصناعة والاقتصاد والتجارة والرساميل. 
فالتعاقد الطبيعي هو تعاقد على منظومة حقوق جديدة تعترف بحقوق الطبيعة قبل حقوق الإنسان مادام الإنسان جزءا لا يتجزأ من الطبيعة وليس مملكة مستقلة داخل مملكة الطبيعة أو سيدا عليها ومالكا لها. فالغرور العلمي- التقني والرفاهية المزيفة قد أعمت الإنسان المعاصر وجعلته لا يكترث بشيء بما فيه أخوه الإنسان فضلا عن عناصر الطبيعة من ماء وهواء وأرض وشمس وحيوان ونبات. وهذا ما يتجلى في الحرب الذاتية التي يشنها الإنسان ضد أخيه الإنسان في معركة صيد البشر اللانهائية، وفي الحرب الموضوعية التي يشنها الإنسان ضد الطبيعة.  
إن نداء الطبيعة الذي توجهه لنا الأرض من خلال فيروس كورونا هو دعوة لإعادة النظر في هذه الأنانية الإنسانية المفرطة والعمياء، ولعله الإنذار الأخير قبل حلول الكارثة. وعلى عكس ما يروج فليس المطلوب هو تكاثف جهود الأمم ضد الفيروس لأن هذا سيؤدي إلى ظهور فيروسات جديدة وأشد فتكا بالبشرية، وإنما المطلوب هو تكاثف جهود الإنسانية لتعديل علاقتنا بالطبيعة والبيئة لدرء تطور هكذا فيروسات ناتجة عن سوء تدبير علاقتنا ببيئتنا. 
إن المطلوب إذن هو إنجاز مصالحة طبيعية مع الطبيعة والاعتراف بحقوقها والعيش في تناغم مع قوانينها والاقلاع عن إجبارها وإخضاعها عنوة لرغباتنا، وحينها ستسلمنا الطبيعة كل خيراتها بكل سخاء وبكل حب.  هذا إذن هو الدرس الأول المستفاد من كورونا. 
فإليكم/ن الآن باقي الدروس :
ـ إن الحجر الصحي الذي فرضته علينا كورونا هو فرصة للتأمل ليس فقط في علاقتنا بيئتنا التي أسلفنا الحديث فيها، وإنما هو أيضا فرصة للتأمل في ذواتنا وأخذ قسط من الراحة والتفكير في مصيرنا والمصالحة مع الموت الذي ألفناه في الحروب كما في السينما والإعلام والاهتمام بعائلاتنا وأبنائنا وأصدقائنا والتواصل الحميمي معهم بعد أن غربتنا التقنية وأنماط التواصل الافتراضي عن بعضنا رغم عيشنا تحت نفس السقف.
ـ  لقد وضعتنا كورونا تحت معادلة أنستنا أنماط الاستهلاك الرأسمالية قيمتها وهي الصحة في مقابل المال. فقد تبين أن كل مال الدنيا يمكن أن يقدمه أي شخص أصيب بها في سبيل إنقاذ حياته من الموت. ومع ذلك فالعلاج غير موجود، وبالمقابل تقترح علينا كورونا شيئا بسيطا يقينا شرها وهو أرخص ما يكون وهو الوقاية وغسل اليدين بالصابون. وكأنها تقول لنا كونوا عقلاء وحكماء فأنا لا أريد أموالكم ومدخراتكم، فقط تصدقوا علي بدرهم أو درهمين من الصابون وقليل من الماء.
ـ تقدم لنا كورونا فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا ورغباتنا في الحياة. فإذا كنت لا تزال تسعى لتكديس الثروة فإنه اليوم لا طائل من وراءها، وبالمقابل إذا كنت تعتبر الحياة هي قيمة القيم فهذا هو الوقت المناسب للمصالحة معها. الحياة التي لا تتطلب كل الجهد الذي تبذله طوال السنة لتستمتع بشهر مزيف من العطلة التي تهندس شركات السياحة والطيران والاشهار كيف تلهف دراهمك التي اذخرتها طيلة سنة كاملة من الشقاء. فقد تجلس في بيتك أو قريتك أو مدينتك أو بلدك وتقتصد كل مالك وتستمتع مع أحبائك بأرخص الأثمان.
ـ تنبهنا كورونا إلى أن أعظم الاستثمارات بعد الصحة هي التربية والتعليم والبحث العلمي وأن زمن الخرافة وثقافة السحر والشعوذة قد ولى بلا رجعة وتطرح علينا تحديا علميا علينا أن نرفعه بنجاح أو نهلك دونه، وهو تحد لا يمكن مواجهته إلا بمدرسة جديدة تقوم على قيم العلم والعمل والاجتهاد والابداع. مدرسة في خدمة التنمية المستدامة لمجتمعها وللإنسانية.
 ـ تفهمنا كورونا أن لا فرق عندها بين غني وفقير وأن عدالتها ديمقراطية طبيعية وأنها تسعى إلى تنبيه الأغنياء إلى تقاسم ثرواتهم مع أبناء جلدتهم فهي لا تستثني منطقة من العالم قد يهرب إليها غني ثروته، وأن مصيره هو أن يعيش في وطنه ويستثمر ثروته لفائدة بلده. 
ـ تدعونا كورونا للاهتمام بالفقراء والشيوخ والمشردين عندما تفرض علينا الحجر الصحي والالتزام ببيوتنا، فهل فكرنا فيمن لا بيت يأويهم ولا طعام لهم؟.
ـ تحذرنا كورونا من مخاطر الدولة النيوليبرالية والانسياق في مجراها، وتقترح علينا التفكير جيدا في مزايا دولة الرعاية الاجتماعية والتضامن الوطني والإنساني تجسيدا لإنسانيتنا، وكأنها تستفزنا بهذا السؤال: هل أنتم حقا بشر؟.
ـ شكرا كورونا فقد أعادتنا للتفكير بقيمة الحب وضرورته الحيوية وبقيمة التضامن الوطني والإنساني والتفكير بالأجيال القادمة. الحب بمعناه الايكولوجي الشامل الذي لا يستثني أي كائن من كائنات الأرض، وعلمتنا كيف نكون حكماء في الحياة غير لاهثين وراء جشع الرأسمال وقيم النيوليبرالية المتوحشة.
ـ شكرا كورونا لأنها أظهرت للعالم هشاشة دول كانت تسوق نفسها نموذجا للرفاهية الاجتماعية التي انكشف أنها ليست سوى أقنعة ومساحيق إيديولوجية للتمويه عن عمق التخلي الاجتماعي للدولة عن مواطنيها، كما كشفت عن أن دولا كانت تصنفها تقارير النيوليبرالية في أسفل درجات التنمية والتخلف على جميع المستويات أرحم بكثير بمواطنيها وأكثر حرصا على سلامتهم وأمنهم الصحي برغم محدودية إمكانياتها وأعطابها البنيوية كالمغرب مثلا.
ـ تنذرنا كورونا بأن عالما جديدا بدأ الآن في التشكل وعرف كل منا صديقه من عدوه، وأن كل من كنا نعتقد في أنهم دول قوية ليست في واقع الأمر سوى فزاعات للعولمة.
ـ شكرا كورونا لأنها جعلتنا نكتشف الوجه الإنساني الآخر للصين الشعبية وقيمها التضامنية وطرق عملها الذكية والحكيمة في مقابل ثقافة غربية براغماتية متوحشة لا ترى في مواطنيها إلا قيم الإنتاج والاستهلاك لمضاعفة أرباح الرأسمال والتوحش العالمي.
ـ شكرا كورونا لأنها أخرست ألسنة الظلامية وثقافة القبور والوعد والوعيد والعقاب الإلهي وجعلتنا نكتشف حجم تخلفنا الثقافي عن الزمن التاريخي الذي نحياه، والمجهودات الكبيرة التي علينا بذلها لتدارك الفجوة العميقة التي بيننا وبين العلم والفلسفة والتاريخ . 
بهذا المعنى فكورونا ليس ابتلاء من قوى غيبية لاختبار إيمان البشرية أو وعد ووعيد بقيامة إلهية، ولكنها منتوج صنعناه بأيدينا وعلينا أن نفك شفرته بأيدينا من خلال إعادة نظر جذرية في ثقافتنا وأنماط إنتاجنا واستهلاكنا وفك الغربة الوجودية التي رمتنا فيها التقنية وجشع الرأسمالية وجهلوت الظلامية.