الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد المرابط: هل انتصر حزب الاستقلال للمقاربة الأمنية في انتفاضة 58 على حساب المقاربة السياسية لمحمد الخامس؟

محمد المرابط: هل انتصر حزب الاستقلال للمقاربة الأمنية في انتفاضة 58 على حساب المقاربة السياسية لمحمد الخامس؟ محمد المرابط

في نفس اليوم 24-11-58، الذي شكل فيه المغفور له محمد الخامس لجنة ملكية للتقصي في أحداث الريف، أصدر ظهيرا "بجعل إقليم الحسيمة منطقة عسكرية". وهذه الازدواجية بين الآلية السياسية والعسكرية، في اختلاف دواعيهما حكم بالفشل على المقاربة السياسية، بالرغم من العمل المهني الخلاق الذي اضطلعت به هذه اللجنة.

 

ترأس اللجنة الملكية السيد عبد الرحمان أنجاي مدير الديوان الملكي. وكان هذا الطنجاوي الريفي من مؤسسي لجنة نيويورك للحركة الوطنية. ويكفي هذا الملمح لنستشف أفق عمل اللجنة، على ضوء التوجيهات الملكية. وقد تكونت من السادة: المؤرخ/الفقيه محمد داود، وأحمد الحمياني رئيس محكمة النقض والإبرام، والكومندار محمد المدبوح رئيس الدرك الملكي، وعبد القادر شقوف المهندس بوزارة الفلاحة. وقبل مباشرة عملها الميداني بأقاليم تازة والحسيمة والناضور، اجتمعت هذ اللجنة بوزير الداخلية مسعود الشيكر، وبوزير الدفاع أحمد اليزيدي.

 

ونقف في "مسودات" الأستاذ داود على ديباجة العمل بإقليم الحسيمة: "وصلنا هذا الإقليم على متن طائر من تازة (،،) صباح يوم الاثنين 1-12-58. واجتمعنا برجال السلطة الحكومية وهم:

1- سعادة العامل العسكري الكومندار السيد عبد السلام بن عمر.

2- رئيس ديوان وزير الداخلية، وكان عاملا بالنيابة (تكليف بمهمة) السيد العربي الفحصي.

3- باشا المدينة السيد الحسن بن عبد الوهاب.

 

ومن المعروف أن الحكم في هذا الإقليم عسكري. وقد أخر عن مباشرة الأحكام جميع الولاة المدنيين السابقين، ووضع مكانهم الولاة العسكريون (ضباط). وعلمنا أن جميع قبائل الناحية بدون استثناء، إما معتصمون بالجبال (مجردين من السلاح)، وإما متضامنون معهم.

 

وإننا (،،) اللجنة الملكية سنقوم بزيارة عدة مراكز في عدة قبائل للاتصال بأولئك المعتصمين لسماع كلامهم. زيادة على الاتصال بأهالي مدينة الحسيمة وسماع أقوالهم".

 

من اللافت في "تقييدات" الأستاذ داود والمطالب الموثقة، عموم الشكوى بحزب الاستقلال. وقد ذهب جانب من التشخيص إلى أنه "كان في هذه البلاد إدارتان"، واحدة للحكومة، وأخرى لحزب الاستقلال. بل حتى وجود القائد كان صوريا، ينفذ "ما يأمر به حزب الاستقلال". وهناك ما هو أبعد من استعراض مظاهر تعسف هذا الحزب في حق السكان، إلى كون المعتصمين بالجبل يتهمون حزب الاستقلال" بأنه يعمل للجمهورية".

 

ومن باب التوازن، استمعت اللجنة إلى العديد من أعضاء ومسؤولي حزب الاستقلال بالإقليم، قدموا لها عرائض وإفادات شفوية. فهم يعتبرون أن الثائرين، هم "ضد الحكومة والحزب". و"يطلبون بالتحقيق في صحة أو كذب ما ينسب لحزب الاستقلال" (العمل للجمهورية)، و"أن رجال المغرب الحر سابقا والشورى الآن، يشيعون تلك الإشاعات.. ويطلبون أن يذاع على العموم أنه ما يشاع عن حزب الاستقلال هو كذب محض". ومن بين هذه الإفادات، أن حزب الاستقلال وزعيمه علال، ضد ابن عبد الكريم". والملفت في هذه الإفادات أن هناك شكاوى بالعامل السابق محمد منصور، من طرف استقلاليين، وهو ما يجد تفسيره في صراع جناحي علال الفاسي والمهدي بنبركة .

 

وتبسط رسالة لفرع الحزب بالحسيمة، إلى اللجنة الملكية، "ما يعانيه أعضاء حزب الاستقلال خصوصا المسيرين منهم، من أنواع الاضطهادات والتعذيب المسلط عليهم من إخوانهم المغاربة المعتصمين بالجبال". وبالنظر إلى "فقدان الأمن في البلاد مدة الحكم المدني"، فإنه حسب هذه الرسالة، قد "رجعت بعض الطمأنينة إلى النفوس خاصة في مدينة الحسيمة بعد إعلان الحكم العسكري". ولإعطاء فعالية أكثر لـ "إعلان الحكم العسكري الجديد في إقليم الحسيمة"، يتطلب الوضع إعطاء "الأوامر الصارمة والاستعدادات القوية لحفظ الأمن وإدخال الطمأنينة إلى النفوس في عموم الإقليم". وفيما يشبه التحفظ على مسلك الدولة في مقاربتها السياسية، ومن ثم الانتصار للمقاربة الأمنية، نقف على الموقف التالي: "فإذا كان المخلصون في عهد الاستقلال وفي حكومة صاحب الجلالة يؤخذون بهذه الصفة من جماعة أعلنت عصيان جلالة الملك وتمردت عن ولاته، ثم ينظر بعد ذلك في مطالبهم بلطف وحنان، فإنها فرصة لا تمهل الظالم في معاكسة مصالح الوطن مهما وجد سبيلا إلى ذلك".

 

ويبقى الوجه الآخر للإضاءة في هذا الجانب تحديدا، يمثله منشور منسوب لـ "لجنة الدفاع عن حرية الشعب وعدالته". بعنوان: الشر الشر من دسائس اليزيدي في الريف.. أيها الشعب الحر، أيها الملك المطاع، حذار من دسائس اليزيدي في الريف. إن عواقبها الفتنة في الأرض والفساد الكبير"، جاء فيه أن جلالة الملك أوفد اليزيدي، "وزير الدفاع الوطني في الحكومة الطائفة الاستقلالية" إلى ناحية الريف ليقدم إليه تقريرا عن "الحالة التي توجد عليها هاته الناحية، وعلى السبب الداعي لأبنائها على التظاهر العلني والاحتجاج". لكنه "قدم له تقريرا حمله به على أن يعتبر هاته الناحية متمردة وأبناؤها عصاة. فاستصدر منه ظهيرين: أحدهما قرر بمقتضاه أن عمالة الحسيمة عمالة عسكرية، وثانيهما عين بموجبه عاملا عسكريا يقوم بتنفيذ الإجراءات العسكرية التي يقتضيها الظهير الأول". وبين المنشور الهدف من اعتبار إقليم الحسيمة عسكريا، بـ "أنه تطبيق للأحكام العرفية التي لا تستند على تشريع إنساني عادل".

 

ما أود أن أنتهي إليه من هذا المسرد لفخاخ انتفاضة الريف، أن اللجنة الملكية قامت بالمتعين، وقدمت تقريرها للملك. والملك شكل حكومة جديدة في 24_12_58. وخاطب الأمة بالتزام الحكمة والتبصر في 5_1_59، لكن المقاربة السياسية سيتم إعدامها بانتصار الخيار العسكري، بكل فظاعاته. فالملك تجاوزته موازين القوى، كما كان يصوغها ولي العهد آنذاك. ومن مكر الصدف أن السيد عبد الرحمان أنكاي سيلقى حتفه في حادثة سير قرب تمارة في 30_1_59، والرصاص ما زال يتناثر في الريف...

 

واليوم في حراك الريف، هيمنت المقاربة الأمنية-القضائية، على ما سواها. والمجلس الوطني لحقوق الإنسان أعدم في عهدته الجديدة، مبرر وجوده كمؤسسة وطنية وسيطة. والمبادرات المدنية أريد لها أن تعرف بياتا. وجزء من اليسار يخدم "زفزفة" الحراك. وتشرذم الحراكيين يزيد من ارتهان الحراك للمزاد العلني. وحتى المجهودات التي راكمها الملك في الريف، على طريق المصالحة وإنصاف الحراك، أعدمتها العقلية المخزنية المتعنتة، فأوقفت حتى وتيرة العفو، لدرجة بات من الملاحظ، تراجع منسوب مشروعية الدولة الديموقراطية، مما سيمكن في المقابل، لتحالف مخزني-أصولي متين، يهدد أسس الدولة الوطنية وإمارة المؤمنين في المغرب.

 

فاعتبروا يا أولي الألباب!