الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد بنيعيش: الحصر اللغوي للتأويل وذاتية انتقاء العبارة في المدرسة التيمية

محمد بنيعيش: الحصر اللغوي للتأويل وذاتية انتقاء العبارة في المدرسة التيمية الدكتور محمد بنيعيش
أولا:التأويل كمرادف للتفسير ودورية المفاهيم عند ابن تيمية
لم يكن مفهوم التأويل عند زعيم السلفية التاريخية،تقي الدين بن تيمية الحراني، ليستساغ بالكامل كما هو معتمد عند الفلاسفة كابن سينا وابن رشد مثلا ،وكذلك لم يستطع أن يسلم بما ذهب إليه الأشاعرة وخاصة الغزالي من حيث رؤيته المتكاملة للتأويل على أساس اللغة والعقل والمكاشفة القلبية المبنية على مبدأ المناسبة بين عالم المثال والواقع.وذلك لوجود بعض الاختلافات في الأهداف التي يرمي إليها من خلال عملية التأويل،وإن كان الاتفاق حاصلا في تفسير نفس الكلمة وهي :" التأويل" كمدلول لغوي فقط ، أما ما ينتج عنه من استنباط معنوي فربما قد يكون هناك اتفاق بينهما أو لا،وذلك تبعا للمنهج الذي سلكه كل واحد منهما حيال الموضوع .
وهكذا نرى ابن تيمية يؤكد موقفه الرسمي من مفهوم التأويل مركزا على مدلول اللفظ وهو ما تبناه في جل مقالاته : "وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهوم في الظاهر،ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره،ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك .
وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى، بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني"[1].
ويضيف مركزا على تبيين المفهوم عنده وهو يتشبث أو ينسب رأيه إلى السلف فيقول : "وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراد الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالى : "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"..."[2].
هكذا يتضح لنا أن ابن تيمية قد ينحو بفهمه للتأويل إلى التفسير اللغوي الإنشائى و الوقوع الخبري، إذ اللفظ الإنشائي الظاهر يبقى على ظاهره ويحتكم في تفسيره إلى السنة أو اللغة.
فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به،وكذلك النهي... وتأويل الخبر هو وقوعه .
إذن فما هو ظاهر فيه الأمر يطبق على ما احتمل ظاهره وما ولدته المعاني يأتي فهمه مقابلا لما ظهر منه، ولا مجال للبحث هل يحتمل هذا المعنى المفهوم من ظاهر اللفظ الواضح مفهوما آخر ينطوي تحته دون أن يعارض أصوله الثابتة،كما أن اللفظ الظاهر هو تمثيل وتقريب يمكن بواسطته فقط إدراك وجه العلاقة بين هذه التمثيلات.
فهنا قد يتباعد عن مفهوم الغزالي ومن في صفه للتأويل وذلك أن هذا الأخير يرى إمكانية إدراك وجه المناسبة بين المؤل والمؤول إليه بواسطة العقل والكشف،أما ابن تيمية فلا يرى إلا تفسيرا واحدا للمسألة المتشابهة وهو التفسير اللغوي أو الشرعي والعرفي[3].
فقد يشترك كلاهما في هذه الاعتبارات لكن الغزالي خصوصا يراها من باب التفسير وليس من باب التأويل كما مر بنا.
فحول مسألة عدم إمكانية إدراك مفهوم المسائل الأخروية يقول ابن تيمية :
"...ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه،بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله تعالى:"وأتوا به متشابها" على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق من بعض الوجوه، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه،وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به"[4].
من خلال هذا يظهر لنا أنه لا مجال للتأويل بمفهوم أن المتشابه من المسائل الأخروية الغيبية الواردة في القرآن والحديث قد يحمل معاني مفارقة كل المفارقة للتشبيهات الدنيوية،وهذا إذا تعمقنا في تحليله قد يومئ إلينا بأنه يرى أن هناك نوعا من الاشتباه في حقيقة من الحقائق،إما في المقابلة العينية أو الوجودية العددية وربما حتى الوصفية.
بحيث إن العين المذكورة في الدنيا قد تقابلها عين مذكورة في الآخرة وتختلف في حقيقتها التركيبية،وهو ما يجعل صاحب هذا المفهوم يحدد أحوال الآخرة بالقياس إلى أحوال الدنيا بمنطق هذا عين الشيء لكنه ليس كالشيء.
هذا المفهوم لم يكن ليأخذه الغزالي ومن في دربه بهذا الأسلوب،إذ أنه قد استعمل التأويل في كثير من المسائل الغيبية أو شبه الغيبية بأسلوب عقلي ولم يثبت العين وإنما أثبت المعنى كحديث تشبيه الموت بالكبش غدا يوم القيامة والقول في علاقة الشيطان بالإنسان في حالة الغضب [5]. . .
لكننا نراه مع هذا قد يحترز كثيرا في هذه المسائل ويفوض تأويل بعض الأمور إلى الله سبحانه وتعالى وذلك في حالة عدم وجود أي احتمال راجح له،وهو بذلك يتقيد بالوصية الثالثة التي جعلها شرطا في التأويل كما ذكرها في رسالته "قانون التأويل".
ثانيا :حصر التأويل كتضييق لباب التفكير وآفاق المعرفة
إن هذا المفهوم عند ابن تيمية،الذي يجعل تأويل الأخبار هو وقوع المخبر به ،يدخل في إطار الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى قد أدى به إلى القول بأنه لا يعرف هذه الأخبار لا ملك ولا نبي ومرسل ،إذ سيجعله ممنوعا على كل مخلوق مهما علت رتبته عند الله تعالى،مستدلا بالآية الكريمة:"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين"،معمما هذه النفوس حتى على الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين[6]،ومحتجا بقوله تعالى:"وما يعلم تأويله إلا الله".
عند هذا يمكنني أن أبدي ملاحظة بسيطة حول هذه النقطة بخصوص عدم علم الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين بما في الآخرة وما تحتويه من أسرار،فأقول :
إن هذا الذي فهمه من الآية "فلا تعلم نفس..."، لا يمكن حمله على العموم وتعديه إلى الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، إذ ما قوله في معراج النبي صلى الله عليه وسلم و اطلاعه على عالم الخلد وأخبار الآخرة كلها وجولته بالجنة ورؤية مشاهدها ومقامات ساكنيها... ؟.
وعلى كل حال فإنه يضع نفسه في تعامله مع النصوص الشرعية بخصوص موضوع التأويل منتقلا بين المفاهيم اللغوية والمفاهيم الشرعية وهذا نفس المسلك الذي سلكه الغزالي بدوره ومعه الأشاعرة عموما إلا أنه أضاف الحكم العقلي إلى المسألة ليستقيم الفهم ويكون التأويل صحيحا[7].
غير أن العكس هو الذي حصل عند ابن تيمية إذ أخضع العقل للغة ولم يخضع اللغة للعقل،وإن كان في آرائه يريد أن يبرز تفسيراته اللغوية بدعوى موافقتها للعقل ،وهذا ما جعلني أتردد في تحديد مفهوم التأويل لديه تحديدا واضح الأركان. فحول هذا الإشكال أورد نصا له في الموضوع يقول فيه :
"والله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وأخبر أنه أنزله لنعقله و لا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به ، فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني كبيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه ولا يعقل ، ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل ما لا يعلمه إلا الله،بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ "[8].
وفي نظري أن هذا الكلام يحتوي نوعا من التعقيد،إذ أنه يقول بأن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه لنتدبره ونتعقله ، في حين أننا نراه يناهض المستعملين عقولهم في تدبر النصوص واتهامهم بالكذب فيما توصلوا إليه من خلال التدبر والتعقل .
فما مفهوم التدبر عنده إذن، هل هو شرح اللفظ باللفظ والقول بأن الشيء هو مقابل لهذا الشيء إلا أنه ليس شبهه،أم انتظار وقوع المخبر به ولا مجال لإدراك معانيه الروحية وحقيقته ، أم أن التدبر هو مقابلة النصوص بعضها بالبعض وتفسيرها بها وهذا هو تفسير القرآن بالقرآن وليس بتأويل ؟.
بل إنه إذا عدل عن اللفظ الظاهر في نص وحمله لفظا ظاهرا من نص آخر بخصوص موضوع معين فإنه سيكون قد خرج عن قاعدته التي أشرت إلى التزامه بها كما مر بنا وانتقل من اللفظ المرجوح إلى اللفظ الراجح لقرينة تقترن به ،وهذا هو عين ما يقول به الغزالي في توظيفه للعقل في مجال التأويل ، وبغض النظر عن الأداة الكشفية التي لم يتعرض لها ابن تيمية بالإثبات أو بالنفي ،وإن كان هذا الحكم الأخير أقرب إلى موقفه بخصوص التأويل كما مر بنا.
وخلاصة القول: إن منهج ابن تيمية ومن والاه بهذا الاعتبار سيجعل من موضوع التأويل تنزيلا في غير موضعه وفسحا لكل من هب ودب بأن يتصرف في النصوص بحسب مكتسباته اللغوية المحضة والتي ستتحكم فيها الذاتية والإسقاط ،ولم لا التشبيه والتجسيم العقدي، وخاصة عند اختيار اللفظ المناسب كوسيلة لتأويل ما ورد في النص ومن غير استعمال للعقل في الترجيح اللغوي فما بالك في الترجيح المعنوي ومن هنا كان المدخل لتأويل العامة وتفسيرها للنصوص بحسب طغيان ظواهر الألفاظ ،قد نوضح ذلك في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى وبه التوفيق والسداد.
 
الدكتور محمد بنيعيش، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة
هوامش:
[1] ابن تيمية :درء تعارض العقل والنقل ج1ص14
[2] نفس ج1ص206
[3] ابن تيمية :مجموعة الرسائل الكبرى ج1ص20
[4] ابن تيمية:مجموع فتاوى ،كتاب مقدمة التفسير ص279
[5] الغزالي :قانون التأويل ص49-52
[6] ابن تيمية:مجموع فتاوى ،مقدمة التفسير
[7] الغزالي :الاقتصاد في الاعتقاد ص55
[8] بن تيمية :درء تعارض العقل والنقل ج1ص279